تمظهرات اللعب الأسلوبي في قصيدة “انتظرني” لفوزية عبدلاوي

أحمد بيضي الإثنين 26 أبريل 2021 - 16:47 l عدد الزيارات : 25781

       محمد عياش (°)

يتكون هذا النص الشعري الذي اعلنت صاحبته، فوزية عبدلاوي (°°)، انتسابه إلى قصيدة النثر من 28″ سطرا شعريا”، تتراوح أحجامها بين المتوسط، وبين الطويل ..الأمر الذي يوحي إلى القارئ بأنه أمام ومضات فكرية، ودفقات شعرية  تتراوح في صبيبها، وحدتها بين الاعتدال، والاندفاع ..إنه مظهر تعبيري متوقع طالما أن العنوان يقودنا – مباشرة- إلى جملة إنشائية اتخذت لها صيغة أمرية محملة بقوة تخاطبية ،وتداولية لاتخلو من التماس ، وترج في الوقت نفسه ..

إن الشاعرة، وهي تنطلق من فعل أمري يرتبط بالأنا المؤنثة “ياء المتكلمة”، وينفتح على المخاطب “الضمير المستتر المقترن بالمخاطب المذكر” تصر على أن يتجاوز هذا الفعل الكلامي دائرة القوة، والاحتمال إلى دائرة الفعل ، والتحقق …في كلمة واحدة / فعل واحد يتخذ الموضوع الرغبوي  طابعا مزدوجا يلتقي فيه صوت الأنثى مع الرجل : صوت الأنثى الآمر في مقابل صوت الرجل المأمور، أو – بالأحرى – صوت ذات أنثوية تلتمس من ذات ذكورية الالتزام – ما أمكن – بممارسة فعل الانتظار المشحون بالمباغتة ،والترقب، والتوجس، والحيرة، والصبر، والقلق، والخوف أيضا …

فعل الانتظار بكل تشظياته الدلالية السابقة، وبوصفه رغبة ملحة تراهن على ممكن الإنجاز لايحضر بشكل عابر في العنوان كعتبة نصية فحسب “انتظرني”، بل يشكل –أيضا – النواة الدلالية، والمدار التداولي للنص كلل بالنظر إلى تكرار هذا الفعل في الاستهلال، وفي الاختتام بما يضفي على القصيدة بنية دائرية من جهة ، دون أن نغفل  تواتر هذا الفعل ست مرات في متوالية لغوية تستقطب مفاصل النص بشكل يجعلنا نعتبرها لازمة للنص (هلا انتظرتني قليلا x2–انتظرني قليلا x4) من جهة أخرى ..

إن تكرار هذه اللازمة ينهض بوظيفة تنبيهية، وتأكيدية كما يرى “ياكوبسون”، وفي الآن نفسه وظيفة عضوية إذ يلملم شتات المقاطع مشكلا حيلة أسلوبية تضمن تمفصلا بنيويا مكينا بينها ..وهو ما يمنح النص وحدة موضوعية، وعضوية مكثفة تخول القارئ إمكانية الانخراط – بشغف، وتركيز – في العالم الداخلي الوجداني المتموج، والتخييلي الخصيب  للذات الشاعرة ..عالم مشحون بالقلق المضطرم تختار فيه الشاعرة أن تنقر – بأناة – على أوتار زلزال جواني تقف وراءه هواجس عشق لايطمئن إلى الأوهام المتوارثة عن الحب، والقواعد المكبلة لحريته، والمستنسخات التي شوهت صورته ، وصورة من تورطوا فيه بروح رمادية، استسلامية …

إلى حد الآن، للشاعرة الحق في أن تلتمس من مخاطبها التحلي بفضيلة/ باختبار الانتظار، ولها الحق الأوفى في أن تبوح له بما تضطرب به جوانحها الملتهبة من مواجع الجوى…وعلى مخاطبها أن يستعد لكل الاحتمالات مادام مهرجان الحب هذا مفتوحا على كل المفارقات، والمفاجآت …أجل، المفارقات التي لا نعدمها كقراء منذ البداية، وعلى امتداد  باقي أسطر النص حين تعمد الشاعرة إلى ضمير المتكلم بصورة تراكمية لافتة (أرمم – أعلق – فأنا – لاأستطيع – انتظرني – أعيد – أرسم – أسحب – أحبك – دعني – آتي – عيني – أجمع …).

مقابل حضور محتشم لضمير المخاطب (انتظرني – أحبك – إليك – عينك – يدك – عينيك )، مما يشي بأن  ميزان القوى يرجح لصالح كفة الشاعرة إذ يظل الرجل المخاطب مجرد ذات يقع عليها الفعل (مفعول به ، وفيه، ومعه )، في ظل مشترطات تحددها الشاعرة عبر متواليات جملية، وصور بلاغية قوامها الانزياح، والاندياح، والإيحاء ، والإثارة، والتمرد …وهو ما تلمح إليه الشاعرة بهذه الومضة المجازية المدهشة حين تقول في السطرين 7 و8: (وأعيد نقوش الحضارة /لسقف الكون بإزميل المجاز). وهنا ، يكمن سر الرغبة القوية لدى الشاعرة في تأجيل الحب عساها تنجح في رهان تحويله من خطه الأفقي إلى خط عمودي ، وعميق ..

إن الحب الذي تسعى الشاعرة إلى حيازته بمساعدة مخاطبها لايشبه غيره من ضروب الحب المسكوكة، والمقنعة، والمحنطة …إنه حب عاصف ، ومزلزل (أسحب الزلازل المقيمة في الأحذية ) يدمر ما يصادفه أمامه من كليشيهات مملة (خراب العالم / الظلام / حروب خاسرة / الأحذية / التاريخ / مضغات أكاذيب /أمجاد زائفة /جنازته / محارق الكتب والكتبة / جمرات …)..حب جامح لا يعترف بالتمثلات الشائعة، ولا بالصور المزيفة التي تروجها الكتب الكاذبة ، وتجارب العشاق الفاشلين من قبل .

الشاعرة فوزية عبدلاوي وهي تتخذ من قناع الرمز حيلة بلاغية لها لتمرير موقفها الثوري ، والشجاع من قيمة الحب كما هي، حب مزيف بمرادفات مهزوزة ،وباردة ،حب يتم استهلاكه من قبل الناس كافة دون أن يقلقهم سؤال العمق فيه .. هذا الحب المعلب تستثمر له الشاعرة  طاقة عالية من “جمالية الخرق الأسلوبي” قصد تكريس هذه القناعة بما يجعل الشكل علامة  سيميائية على انفلات المعنى، وانفجاره …

إنها لا تتوانى عن تفجير التراكيب المعتادة عبر ملء البياضات برهافة بينة لخلق تمفصلات محكمة بين محطات التجربة الوجدانية المعبر عنها هنا ..لهذا، يلمس القارئ إقبالا واضحا لديها على كثرة الروابط اللغوية التي – رغم كثرة عددها – لا تسقط النص في النثرية ، والتقريرية ، والنمطية … وهكذا ينتصب أمامنا 20 رابطا لغويا تم توزيعها بكيفية منسجمة بين أسطر النص (حتى /الفاءx3/الواو x10 /  لام التعليل x2+كي /إذا …) تمنح الأسطر انسيابا تعبيريا عفويا لايخلو من حبكة ، ودرامية …

إن هذا التماسك النصي الظاهري لا يصمد كثيرا أمام سلطة الاتساق الداخلي الذي توحي به الروابط اللغوية …ففي العديد من التراكيب نجد أن الشاعرة تنحو –أحيانا –  باتجاه تكسير البنية التقليدية للجمل من خلال الاشتغال الأنيق بتقنية التقديم والتأخير (انتظرني قليلا ..فكي أحبك، أحتاج لغسل التاريخ من جناباته…فله في كل رحم مضغات أكاذيب …) وهذا اللعب مع البنية التركيبية للجملة يمتد إلى الدلالة حيث يتبدى لنا نوع من التوازي بين الشكل المهشم، وبين المحتوى المتمرد … قلب متعمد يطبع بنية الجملة عبر تقنية التقديم والتأخير، فينعكس على المعنى المقترن برغبة الشاعرة في تطهير التاريخ من جناباته، وأكاذيبه، وأمجاده الزائفة …

وهنا تتجلى أمامنا ميزة التصادي بين الشكل المكسور، وبين المعنى المنتهك، أي بين بنية ظاهرة مدمرة نحويا وأسلوبيا ، وبين بنية دلالية وثقافية غير مقبولة، وتستدعي تدخلا متعمدا للهدم من اجل بناء دلالات / تصورات جديدة , وسديدة على أنقاضها …فالحب المنمط الذي اتخذته القصيدة هدفا لغارتها الضروس في حاجة إلى أن نضع اللمسات الأخير ة على جنازته، وبات من الواجب نقله إلى مثواه الأخير…بهذا الفعل الشجاع سنعيد إلى نون النسوة ربيعها السليب، وكرامتها المسروقة (وجمرات زرعت غورا في نون النسوة )..إنها – دون شك – رغبة أنثى معتزة بأنوثتها وهي تورق لتبث في رحم الألم نطفة أمل بريشته السحرية سترسم ابتسامة في سماء الحب المترامية …

وهذا مايبرر تشديد الشاعرة على تضمين الفاتحة والخاتمة تلك العبارة المزدحمة بالترقب ، والإصرار، والنزوع المشرق إلى نسج علاقة عشقية مفتوحة مع الرجل (هلا انتظرتني قليلا ) …علاقة متمردة مشبعة بروح تطهيرية تذكرنا بالشاعر صلاح عبد الصبور، وهو يتقدم بملتمس غريب إلى معشوقته “اقتليني كي أحبك”، حيث يغدو القتل تطهيرا من التقاليد ، والأعراف، والأكاذيب التي حولت الحب إلى بضاعة، وشعار، وحلبة صراع حول المصالح العابرة ليس إلا …

على مستوى التركيبات البلاغية، يتميز النص بتننوع أساليبه ما بين الخبري والإنشائي إذ نسجل حضور (15 خبر مقابل 06 إنشاء تهيمن عليها صيغة الأمر الذي خرج عن أصله ليفيد الالتماس ، والرجاء ).. وإذا كانت الجمل الخبرية تتولى سرد الأحداث، وتصوير تحولات الذات شعوريا من حالة بدئية غير متزنة (سلبية) إلى حالة ختامية متزنة (إيجابية)، أي من وضعية فقدان إلى وضعية امتلاك.. فإن الجمل الإنشائية تتدخل لتقوم بوظيفة تعبيرية، وحجاجية تسعى من خلالها الشاعرة إلى استقطاب المخاطب من أجل  مقاسمتها رغبتها الجارفة في البوح بما يثقل روحها من ضيق، وضجر، وتطلع إلى التحرر، والانتشاء بعالم آخر يسوده الحب الذي تحلم به هي : حب يستجيب لصوتها الداخلي الذي اتخذته ترجمانا أمينا لنون النسوة التواق إلى كسر القوقعة المظلمة التي قررت لها ثقافة المحو أن تنعزل داخلها، وأن تبتلع صمتها دون احتجاج، وإلى الأبد …

تأسيسا على ما سلف ، يتبين لنا أن فوزية عبدلاوي – وهي تحاور قيمة الحب من منظورها الخاص- لا ترتكن إلى ما استقر في الذاكرة، والوجدان، والمتخيل الجمعي من تمثلات رعناء، وبليدة عن هذه القيمة الإنسانية، والروحية التي لا يمكنها أن تنتعش إلا داخل نسيج قيمي متكامل، ومتناغم قوامه الحرية، والجمال، والحق، والسعادة …

كأني بهذه الشاعرة الجريئة تدعونا إلى استعادة روح الحب الرومانسي كما جسدتها كتابات جبران، ونعيمة ، وأبي ماضي، وأبي شادي، مرورا بشاعرات الحداثة : نازك الملائكة، وفدوى طوقان، وسلمى خضراء الجيوسي  …ووصولا إلى  جيل الشعر الحر، وقصيدة النثر منذ العقود الأخيرة من الألفية الثانية بنون النسوة مع ثريا السقاط، وفاء العمراني، وثريا ماجدولين، وعائشة البصري ، وفاطمة الزهراء بنيس …على أن تكون هذه الاستعادة مذوتة إلى حد بعيد، إذ لا معنى للحب الحقيقي خارج الأسطورة الفردية التي بدونها يفقد الشاعر وضعه الاعتباري في نسق ثقافي يقدس التطابق..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(°) قاص، ناقد وفاعل مدني
(°°) شاعرة، من دواوينها “تقاسيم الريح” و”بقعة حناء حزينة”
تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الإثنين 5 مايو 2025 - 20:08

القصابي بميدلت تستضيف باحثين في التاريخ والتراث بملتقاها الوطني لتوثيق تاريخ المنطقة وحفظ ذاكرتها الجماعية

الأحد 4 مايو 2025 - 18:10

العيون تحتضن ندوة علمية كبرى: من أدب التحرر والمقاومة إلى فكر التنمية في إفريقيا

السبت 3 مايو 2025 - 10:44

وزارة الثقافة تسطر برنامجا وطنيا متنوعا احتفاء بأبي الفنون

الجمعة 2 مايو 2025 - 23:54

الحي المحمدي يحتفي بالمسرح في دورته الخامسة تكريما لروح الفنان الراحل أحمد كارس

error: