× مصطفى لغتيري (°)
بمناسبة اليوم العالمي للبيئة، أبى الروائي المغربي، ذ. مصطفى لغتيري، إلا أن يهدي زوار صفحته الشخصية، وقراء أعماله، فصلا من روايته “على ضفاف البحيرة“، التي صنفتها مجلة “مكة” السعودية ضمن أهم الروايات في العالم، وتجري أحداثها في الطبيعة، ولم تكن البحيرة هنا سوى “بحيرة أكلمام أزكزا” الشهيرة، والواقعة ضواحي إقليم خنيفرة
في منابع أم الربيع قضينا لحظات لا تنسى، إنها حقا جنة أرضية ذات رونق وبهاء لا يقارنان. التقطت الكثير من الصور. وجادت قريحتي بقصيدة مفاجئة، ترددت في دواخلي مضمخة بعبير الطبيعة الأخاذ. منبهرة كنت بكل ما يحيط بي من جمال هادئ. تنقلت في أماكن عدة، وتداعى في نفسي شلال متدفق من الخواطر الجياشة. وحين ارتشفت قسطا من الجمال، أشعرني حقا بالانتشاء، اقتعدت الثرى وطفقت أتأمل هذا الجمال الاستثنائي الأخاذ، الذي يوطن السكينة في قلب من يراه.
شيء واحد عكر علي صفو هذه اللحظات الجميلة، إنه حال الناس بالمنطقة، إنهم يبدون في حالة من العوز لا تصدق. الأمراض بادية على أجسامهم المعتلة الشاحبة، ناقشت كل ذلك مع والدي. كان أبي كعادته يرد كل ذلك إلى تخلي الدولة عن مسؤولياتها تجاه هؤلاء الناس ومنطقتهم. أعرف توجهاته اليسارية، التي ترى الدولة ملزمة بتوفير كل شيء للمواطنين، فتلك وظيفتها الأساسية. لكنها جسد عليل يعاني من اكتساحه من طرف أمراض متعفنة كالرشوة والفساد بشتى أنواعه.
تهادت في خاطري صور عدة لنهر أم الربيع، وهو يشق طريقه انطلاقا من هاته المنابع، مارا في مساره الطويل نحو المحيط الأطلسي ، حيث يصب هناك في شاطئ مدينة أزمور قاطعا أكثر من خمسمائة كيلومتر، في لحظة ما تخيلت نفسي قطرة ماء، تنطلق من هذه المنابع وتستمر في طريقها متدحرجة، تمر بشعاب ووديان وسهول وهضاب، تستمتع بسفرها الطويل، حاملة معها ذكريات جميلة عاشتها في هذه المنابع الثرة، ممتزجة ببعض هموم الناس وشقائهم.
تركنا وراءنا المنابع، وتوجهنا صوب بحيرة “أكلمام ازكزا” التي نعتزم التخييم على ضفافها. في طريقنا مررنا بجبال وأشجار، ورأينا خياما سوداء للبدو الرحل، واقتنصت أعيننا أطفالا يرعون الماشية، كما صادفنا أنواعا نادرة من الطيور، كنا نتوقف ونتتبعها بأعيننا الشغوفة لالتقاط كل ما هو جميل في المنطقة. توقفنا مرة أو مرتين لالتقاط بعض الصور، أو للاستفسار عن الطريق الأفضل الذي يوصلنا إلى البحيرة، دون أن نتيه في الغابة الشاسعة.
بلغنا وجهتنا فأصابنا الخرس للحظات، انعقدت ألسنتنا أمام جمال المشهد وعنفوانه. تدريجيا فكت عقدتها فانطلقت معبرة عن إعجابها بهذا المكان الاستثنائي، البحيرة متمددة في رحاب المكان، وكأنها صفحة صقيلة، تتدرج ألوانها من نقطة إلى أخرى. مشكلة مزيجا من الألوان المتناسقة. أسراب من الطيور تحلق في أجوائها الهادئة، ثم لا يلبث بعضها أن ينزلق بقوة وانسيابية ملفتة ليلتقط بعض الأسماك الطافية على سطح المياه.
في خلفية المشهد جبال ضخمة متراصة تحيط بها من كل جانب كأنها تحرسها من غزو مفاجئ، أشجار متشابكة ضخمة تنتشر في كل مكان.. على ضفاف البحيرة، وبالضبط في الأسفل نمت أعشاب كثيفة وناعمة. بعض الرعاة يراقبون ماشيتهم وهي تلتهم هذا العشب الشهي.
كانت بعض السيارات متوقفة في غير انتظام. أوقفنا سيارتنا ثم ترجلنا، بعض المقاهي الشعبية تظهر هنا وهناك وخلفها، تحت الأشجار السامقة ينتصب عدد من الخيام. كان نسيم لطيف يداعب وجوهنا. تطلعت إلى البحيرة فلاحظت أن بعض المصطافين يسبحون في جنباتها. دخلنا أحد تلك المقاهي. وأخذ أبي يستفسر صاحبها عن الإقامة في هذا المكان، فأخبره بأن ليس هناك فنادق أو شقق للكراء، وبأن المصطافين يقيمون في خيام، إما أنهم أحضروها معهم من حيث أتوا، أو يستأجرونها من أصحاب المقاهي.
تداولنا في الأمر بيننا، فقررنا أن نكتري خيمة، نقيم فيها بضعة أيام. لم تقبل أمي الفكرة طبعا، فهي لا تتصور نفسها مقيمة في خيمة منصوبة في الخلاء. بيد أنها أذعنت للأمر الواقع حينما لمست إصراري أنا وأبي على الفكرة، فضلا عن انعدام أي بديل يمكنها التشبث به والدفاع عنه.
نقلنا بعض ما لدينا من أغراض إلى الخيمة، وطفقنا نرتبها بشكل يجعلها تضمنا نحن الثلاثة بالشكل المطلوب. كان كل شيء جديدا علي ويتمتع بمسحة من الجمال اللافت. أحببت الإقامة في هذه الخيمة وسط الغابة، على بعد خطوات من البحيرة التي تستلقي في السفح، تحيط بنا الجبال من كل جهة مكسوة بخضرتها الأزلية.
جاء المساء بسرعة ذلك اليوم، فاكتست الأجواء بمنظر رائع يعجز المرء عن إيفائه حقه في الوصف. إنه – بصدق- يفوق الخيال. توزعت الأضواء والألوان، وانعكست على صفحة البحيرة مشكلة كرنفالا مبهجا للنفس.
انتشرت أصوات الطيور في كل مكان، إنها تفد زرافات و وحدانا للمبيت في أوكارها على مشارف البحيرة. والأجمل من كل ذلك تلك القردة التي انبثقت من العدم فامتلأ المكان بها. كانت جائعة تبحث عن الطعام الذي تجود به أيادي المصطافين. إنها قردة تختلف في أعمارها ما بين الكبيرة حجما وسنا، وتلك التي تبدو صغيرة جدا بدرجة لا تصدق، هذه القردة الصغيرة كانت أكثر حركة وشجاعة، لا تكاد تتوقف عن النط والصعود إلى أعالي الأشجار، متعلقة بالأغصان حينا ومتدلية حينا آخر. بعضها يلازم أمهاته، وبعضها الآخر ينتقل بعيدا عن الأمهات مكونا ثنائيا أو ثلاثيا بديعا، يلعب ويتقافز هنا وهناك، وسيماء الشيطنة تلوح من حركاته المتوترة والجميلة.
كادت هذه المخلوقات الظريفة تسلب لبي. انهمكت في التقاط الصور لها، حتى أنني أنفقت أكثر من ألبوم على صورها. فيما بعد حملت لها بعض الطعام ،لأغريها به كي تقترب مني أكثر. إنها حيوانات ذكية ومرحة. تلتقط الطعام بخفة ثم تركض بعيدا، حتى تجهز عليه وتعود من جديد، في مرات عدة كانت تنخرط فيما بينما في صراع قوي وشرس، من أجل الطعام أو من أجل احتلال مكان ما ييسر لها اختطاف ما تجود به الأيدي بسهولة. كانت في بعض الأحيان تقوم بحركات بهلوانية تنتزع الضحك من المتفرجين.
في لحظات أخرى كانت تسترخي في مكان ما على غصن شجرة، وتشرع في تأمل المصطافين مقلدة إياهم، فيظن الرائي أنها كائنات عاقلة، لا يميز الإنسان عنها سوى الشيء القليل. حقيقة إنها حيوانات تشبهنا كثيرا، يكفي المرء ليقتنع بذلك أن يشاهد أنثى القردة وهي تحضن رضيعها، ويلاحظ الطريقة البديعة المترعة بالحنان وهي تلاعبه أو تطعمه أو تنظف وبره من الطفيلات المزعجة، أو تدافع عنه من أي خطر محتمل.
حل الظلام فاختفت تلك الحيوانات اللطيفة. وعاد المصطافون إلى خيامهم ثم ما لبثوا أن تحلقوا في مجموعات من أجل السمر. كان بعضهم يشعل النار ويشكل حلقة حولها. فيما كان البعض الآخر يتبادل رواية النكت، فيما كان آخرون يعزفون على بعض الآلات الموسيقية ويرددون بعض الأغاني الشهيرة. وبعضهم الآخر وخاصة النساء يتحلقن حول صينية شاي، وهن يلكن حديثا لا ضفاف له.
اخترت الجلوس على تلة مرتفعة، مقابلة للبحيرة. الظلمة خفيفة ووديعة، ضوء القمر الذي انتشر ببطء في المكان زاد الأجواء سحرا وروعة. السماء صفحة متمددة تتلألأ بالنجوم. بدت لي هذه النجوم وكأنها عيون بلا حصر تحرس المكان من أعلى. الأشجار تداخلت فيما بينها فأضحت كتلة أقرب إلى السواد يصعب تمييز تفاصيلها، فيما اكتست الجبال بسيماء خاصة. بدت وكأنها كائنات عملاقة تحيط بالبحيرة، وهي مستغرقة في تأملها بصمت وخشوع، ذكراني بطقوس البوذيين أثناء ممارستهم للعبادة.
تقدم الليل أكثر فصمتت الموسيقى، وساد المكان سكون شامل، تخترقه في فترات متباعدة أصوات بعض الحيوانات الليلة التي تبحث عن طرائدها تحت جنح الظلام.
التحق بي أبي أعلى التلة، أحضر معه مذياعا، فاستمعنا معا لبعض الأغاني الشرقية الكلاسيكية. كانت هذه الأغاني بحق ملائمة لهذا المكان، وكأنها سجلت من أجله. أم كلثوم تصدح بصوتها الجهوري القوي، فيزيدنا ذلك انتشاء وافتتانا بالمكان من حولنا.
قضينا ليلتنا الأولى في الخيمة. مر الليل بسرعة، فانبلج الصبح مشعا وقويا. غادرت الخيمة فَلاَح لي منظر بديع. قبيل الشروق، كانت سحابة خفيفة من الضباب تحف بالبحيرة، فيما امتلأ المكان بالطيور محلقة في الأجواء أو قابعة على سطح مياهها أو متنقلة على ضفافها، مستغلة فرصة خلوها من المصطافين ،الذين يمكن أن يعكروا صفوها.
اقترحت على أبي أن نغوص بأجسادنا في المياه قبل أن تمتلئ بالمصطافين فوافق على ذلك. توجهنا نحو البحيرة متحمسين فيما طاردتنا تحذيرات أمي من خطر السباحة دون وجود منقذين محتملين.
كانت المياه باردة ذلك الصباح، لكن جسدي سرعان ما اعتادها. تقدمت سباحة نحو أعماق البحيرة، فيما اكتفى أبي بالعوم في المياه الضحلة قرب الشط. أحسست بكثير من الحماس والانشراح، وأنا أجرب كل طرق السباحة التي أعرفها، سباحة على الظهر، وبالذراعين، والغوص في عمق الماء. التفتت نحو أبي فرأيته يلوح إلي، طالبا مني العودة نحو الضفة، رفعت يدي محيية له، ثم عدت قافلة نحوه.
خرجت من البحيرة، التففت بفوطة كبيرة ،حتى أتخلص من قطرات الماء التي علقت بي، وأحمي نفسي من نزلة رشح محتملة. فيما فضل أبي أن يركض قليلا على الضفاف.
حين عدنا إلى الخيمة، وجدنا أمي تنتظر متلهفة عودتنا، كان الخوف والقلق باديين على ملامحها، كررت تحذيرها لنا، غير مصدقة تهورنا بالسياحة في بحيرة لا نكاد نعرف عنها شيئا.
تناولنا طعام الفطور في المقهى، الذي كان شبيها بذلك الذي تناولناه أمس في منابع أم الربيع، ثم خضنا في بعض الحديث. حدثت أمي عن الانتعاش الذي حصلت عليه بالسباحة في البحيرة وعن جودة مياهها وصفائها. لاذت بالصمت، فاقترحت عليها أن تجرب السباحة فيها، لكنها رفضت ذلك رفضا قاطعا، ثم استغلت الفرصة لتطلب من أبي أن يأخذها إلى أقرب حمام عمومي لتغتسل، وتنظف نفسها من الأوساخ التي علقت بها في هذا المكان الذي نعتته بالقذر.
وعدها أبي خيرا، في الوقت الذي حمل فيه مذياعه، ومضى بخطوات بطيئة نحو وجهة لا أعلمها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعليقات
0