القصة القصيرة جداً وابستيمولوجيا العماء الرقمي

أحمد بيضي الجمعة 18 فبراير 2022 - 22:31 l عدد الزيارات : 32574
  • محمد العمراني (°)
تقديم
  إن حركية الإبداع تعني فعل القطيعة مع الأًصل، إذ الإبداع لابد فيه من التفرد والأصالة، هذا ما يجسده مفهوم التجاوز؛ الأمر الذي تقره الممارسة الإبداعية في نوع القصة القصيرة جدا في حالتها القصوى أو ما سماه رولان بارث ” النصوص الحدود ” (1) تلك التي تتمنع على كل نقد، وربما أمكنها أن تهدمه، إنها فسيفساء مخلخلة لكل قديم حسب بارث نفسه يقول: ” إن النص… ما يحدده هو قدرته على خلخلة التصنيفات القديمة” (2).
ما يجعلنا نزعم ذلك هو أن خصائص جديدة ميزت هذا النوع الجديد في الكتابة بغض النظر عن الطابع الجمالي والشكلي والبلاغي( إيحاء – إضمار – مفارقة – سخرية – قفلة – صدمة – دهشة – تلميح – شاعرية –تعقيد- غموض – تأويل- تثغير- تشظي- هدم – ميتا ققج… ) الذي يدافع عنه أغلب نقاد هذا النوع، تلك خصائص لا  نماري أنها ميزت هذا النوع الأدبي واسمة إياه بجمالية عمائية تراهن على تجاوز المنجز التقليدي وإدماج الجماليات بتقنيات الحاسوب..
لكنها على كل حال لا تؤسس نظرية ثابتة – ولو لحين من الزمن – في الققجة كما فعل حميد لحمداني في كتابه (3) حيث جمع آراء النقاد وتعاريفهم وشروطهم مقتحما حقل نقد النقد والتنظير بمنهج ابستيمولوجي علمي منسجم في القصة القصيرة جدا وهو يضع نظرية منفتحة على كل جديد، فهل ستصمد هذه النظرية القائمة على جمع المصطلحات النقدية، ألا يمكن صنع نظرية للققجة تستند إلى أصول فلسفية ومرجعيات معرفية وعلمية بغض النظر عن النص الشبكي؟
توجد كتابات نقدية كثيرة واكبت هذا النوع في مجملها كانت معيارية أو انطباعية أو تكاملية أو منهجية: مثل أعمال أحمد جاسم الحسين وجاسم خلف إلياس وأمين مختار وحسين المناصرة وعباس عجاج وذكريات حرب ونضال أبو نزيه ومحمد يوب ومحمد رمصيص ومسلك ميمون ونور الدين الفيلالي ومحمد داني وجميل حمداوي وعبد العاطي الزياني وحميد ركاطة وحسام الدين نوالي ويوسف حطيني وعبد الدايم السلامي ونادية الأزمي وعبد الحميد الغرباوي، وشريف عابدين وصلاح سر الختم وفاطمة بنمحمود وهيثم بهنام بردى ومحمد محقق ومحمد شويكة وحميد لحمداني وسعاد مسكين ومحمد أقضاض…
 نظرية العماء والقصة القصيرة جدا
ما نروم إليه في هذه الورقة هو بيان اكتساح نظرية الفوضى والعماء للقصة القصيرة جدا، بمنطق ابستيمولوجي يراجع فهمنا لهذا الوليد، ويجعلنا ننتقد مفاهيمه انطلاقا من مبادئ ابستيمولوجيا الكاوس الخمسة كما هي محددة في كتابي جيمس غليك (نظرية الفوضى علم اللامتوقع) وجون جريبين( البساطة العميقة، الانتظام في الشواش والتعقد)، هذه المبادئ هي:
 أولا: أثر الفراشة حيث إن الشروط الابتدائية الطفيفة تؤثر على المدى البعيد كحدوث إعصار بسبب جناح فراشة مثلا (4).
ثانيا: علاقة الكل بالأجزاء: إن الجزء يلعب دورا مهما ولهذا فهو أكبر قيمة من الكل (ضرب منطق سقراط والكليات).
 ثالثا: التنظيم الذاتي؛ إنها أمور دقيقة باطنية تتولد فجائيا خارج البنية وثباتها. (5).
رابعا: الانبثاق؛ أي لا يمكن التنبؤ بالنتائج انطلاقا من الأسباب، إنها ضرب لمبدأ السببية الأرسطي.
خامسا: التعقيد أو التشعب؛ وهو الضغط أو التحول الذي يولد الانفجار، هنا يكون المسار فوضى وعماء مناف للاتجاه المرسوم سلفا كالثورات العلمية أو الثورات الاجتماعية (6).
 ألم يقل محمد برادة ذات يوم:” الكتابة هي الفوضى الوحيدة وسط السديم الذي صعقتنا حقيقته ومشاهده العنيفة المتتالية “؟ (7)، إن هذا القول يجعلنا نزعم أن القصة القصيرة جدا هي نص حديث مفعم بالفوضى والتيه والعمى والانفلات من النقد، تتمرد على قيود الكتابة وتقاليدها وقوانين اللغة عبر هندسة التعجيب والغموض والتلغيز والانفجار والتشتت والتشذير والتشويش والتعقيد والتشظي، هي أمور تصبح ظاهرة عادية مناسبة للنسق العصري، بمعنى أن العماء اكتسح كل شيء، ما يؤكده سعيد علوش” العماء هو نحن ممثلين بكائنات جدلية وجدالية (8) هذا العمى الإبداعي الذي مس العلم أولا ثم العلوم الإنسانية ثانيا والأدب ثالثا والنقد أخيرا خاصة مع بول ديمان الذي تحدث عن عماء النقد التفكيكي مع ديريدا (9) وربما سيمس نقد النقد لاحقا..
ألم تكن روايات “كافكا وكونديرا وكامي” كذلك؟ ألم تكن قصص ألان بو وخورخي بورخيس وأنيس الرافعي كذلك؟ ألم يكن شعر أبي تمام وأدونيس والسرغيني فوضويا عميقا حسب ما نظر له محمد مفتاح من خلال ديوان من فعل هذا بجماجمكم’ لمحمد السرغيني – “يطغى عليه العمى على الانتظام والفوضى على النظام والمفارقة على الاتساق…” (10). إنه العماء الصوفي وحيث تصير الحداثة معطوبة بنظر محمد بنيس وشريدة بنظر غالي شكري، ويصير الوضوح ضد الشعر وضدا لكل إبداع، إن القصة القصيرة جدا تهدف إلى بلاغة البياض والانمحاء أو ما سماه بنيس كتابة المحو، يقول: ” الكتابة تمحو وهم الأصل” (11).
     إن الطرس الذي تكتب فيه القصة القصيرة جدا ليس شفافا ليبين كتابة قبلها تتشكل من رحمها، بل هي كتابة المغايرة، حيث يغدو التجريب الأعمى( المبصر) صلصالا للكتابة القديمة، فالقصة القصيرة جدا بموقف كتابها كانت مرتعا خصبا لهذا العماء وربما يمثل هذا الموقف النقدي عبد الرحمان التمارة (عماء التجريب) (12) في القصة المغربية القصيرة والقصيرة جدا، يقول: “التشذير ليس بناء قصصيا عفويا، بل هو تشكيل دلالي وجمالي؛ يعكس الطابع الكاوسي الذي يسم العالم في تَكْوينه وفي انبثاقه الأوّلي من جهة، ويُعبِّر عن تنوع إمكانيات تحقيق النص القصصي من جهة ثانية” (13)، وقد تحدث عن خرق النسق القصصي التقليدي وبناء عالم التشظي والشتات يقول: “يصير البناء القصصي خاضعا لجمالية التشذير… منفتحة على اللانتظام والفوضى والسديم والتيه المجتمعي أو الذاتي جمالية الكاوس (14)”..
وإذا كانت القصة القصيرة بنظر محمد أمنصور” انتصارا للنظرة الشذرية للعالم” (15) فإن القصة القصيرة جدا هي انتصار للإنسان الممزق والمشذر وكذا انتصار للكون ولا نهائيته، هنا قد تصير غايتها اختصار الأدب في العبث حسب تودوروف (16) لكنه عبث قائم على خلفية فلسفية كاوسية قوامها الوجودية وغياب المعنى في عالم ما بعد حداثي وعولمة تشيء الإنسان وتسلعه، ذاك ما ناقشه بعضهم..
 يقول مثلا محمد يوب: “نظرية الجذمور تحطم الوحدة الخطية” (17)، لقد شبه القصة القصيرة جدا بالجذمور، وهي نظرية ذات أصول عمائية فلسفية خاصة مع جيل دولوز حين تحدث عن تشبيه الكتابة المنفلتة الخارجة عن التصنيف بهذه النبتة التي أصل لها ولا جذور، كما ذهب آخرون إلى تشبيهها بنظرية” المينيمال” المعمارية والتشكيلية ومن أولئك حميد ركاطة (18)، وقد كنت في مقال سابق (19) شبهت هذا النوع بالكتابة” النياندرتالية القزمية” نسبة إلى القزم الوجودي وتلك النظرية العلمية التي تعيد الإنسان إلى قزميته في الحكي وإلى ما قبل العمالقة وما قبل الألسنة الطويلة.
إن القصة القصيرة جدا كتابة عمياء لا يدري سرها إلا العارفون بخباياها، إنها كتابة الطلاسم لا يفكها إلا كهنة النقاد والقراء، إنها كتابة العميان حيث لا يدري سرها إلا ذوي البصائر، بلاغتها تؤسس الغرابة والقلق والفوضى وسؤال العصر، تنبني على نظام المقطعية والتشتيت على مستوى البنية السطحية، وهذا يجعلها محكمة النسق الداخلي والعميق حيث يصير” عماء المقطع من إيجابيات البصيرة ” (20) ما يجعلنا نقر  أن اعتماد القصة القصيرة جدا على نظام المقطعية يجعلها  “تحتفي بجنة أفكاره وتهويماته الطائرة وأجنحته الفراشية والتماعات نفاياته وجمله المعزولة وإيجازاته الغنية وتأملاته النافذة وخصوبة توالداته” (21)
إن القصة القصيرة جدا كتابة مضادة للنسق سواء من حيث الطول أو النظام أو المنطق أو السببية، إنها ببساطة تلك الفراشة ( اليسروع ) الناجي من شرنقة الدبابير، بل إنها القادمة من علم الفيزياء ونظرية الشواش أو العمى أو الفوضى ( الدادية الفلسفية) أو اللامتوقع إنها “أثر الفراشة” في الفوضى الخلاقة، فمن حيث المعنى فالقصة القصيرة جدا انتشرت بسرعة في أمريكا الجنوبية مثل كرة الثلج المتدحرجة التي يقال عنها: إن رفرفة جناح فراشة في الصين قد يتسبب عنه فيضانات وأعاصير ورياح هادرة في أبعد الأماكن في أمريكا أو أوروبا أو أفريقيا..
إن رفيف فراشة جناح واحد لهمنغواي أو نتالي ساروت بهذا المعنى كان له إعصار في المغرب والعالم العربي، أما من حيث المبنى: فالفراشة تمارس تأثيرها وسحرها رغم صغرها، فألوانها زاهية وأشكالها مختلفة (إنها تشبه القصة القصيرة جدا)، حتى في تشكلها فمرورا من دودة إلى يرقة إلى التشرنق الذي يستمر ساعات طوال، تلك هي عملية كتابة النص القصير جدا بمعايير كاوسية/ نسقية صوفية، جمالية وبشكلانية روسية تعيد للشكلية والكونية قيمتهما في عالم موبوء بالهم الإيديولوجي والقومي، وإن التشرنق لهو باب واسع ومدخل لنظرة إشراقية حدسية قد تنفع مع هذا النوع الأدبي..
هنا لا يفوتنا أن نشير لمجموعة قصصية قصيرة جدا لحميد ركاطة ( دموع فراشة) للتدليل على ما ذهبنا إليه وكذا مجموعة ” ثقل الفراشة على سطح الجرس” لأنيس الرافعي، ولا يفوت كذلك أن نذكر بدراسة قيمة لحسام الدين نوالي نشرت في كتاب العقل الحكائي عن دار فاليا سنة 2017 بعنوان:”الجناح والدوائر”، وهي دراسة عرفانية لمفهوم الفراشة كما هي عند النقشبندي وشوانغ تسو.. إنها الفراشة المحترقة.. وكما هي عند محمود درويش في ” أثر الفراشة شعرا.
عليه، فإن العماء الذي يحكم إنتاج النصوص القصيرة جدا هو عماء مقصود لأنه يحوي نسقا مضمرا هو البصيرة والفوضى المنتظمة، تلك ميزة كثير من النصوص الجميلة والمجاميع القصصية القصيرة جدا ذات الوعي العمائي كنصوص حسن البقالي ( قط شرودنجر) وحميد ركاطة ( دموع فراشة) وحسن برطال (أبراج وغيرها) وعبد الحميد الغرباوي (أكواريوم) وأنيس الرافعي (ثقل الفراشة فوق سطح الجرس) وغيرهم كثير طبعا، وهنا لا نقصد من يكتبون بفوضى عارمة غير واعية بهذا التشكل البورخيسي للوجود الققجي والأدب الوجيز، من الذين يركبون موجة عدمية العماء هكذا من دون وعي؛ وهم المستسهلون من الشباب وحتى الشيوخ وأصحاب الكتابات المستنسخة من الكلشيهات والتقارير الصحفية المباشرة؛ لأن هدف الكثير منهم هو حفر الاسم في التاريخ عبر كتابة متسرعة تقوم على التخريب بدل التجريب حسب ما نظر له أحمد بوزفور (22) فهل من مبصر؟..
عماء النشر الرقمي للقصة القصيرة جدا
 مست الفوضى التي نتحدث عنها في الأدب، خاصة، القصة القصيرة جدا والنشر الإلكتروني، ما ناقشه سعيد علوش في نظرية العماء وعولمة الأدب الناتج عن “تأثير التكنولوجي وتقنيات التشظي في الرواية والموسيقى والرسم” (23)، الشيء الذي جعل الإبداع والقراءة والنقد تتغير لتأخذ أشكالا أخرى، إنها فوضى مست” خارطة العلاقات بالأشياء والكائنات: بالزمان والمكان، بالاقتصاد وبالإنتاج، بالمجتمع والسلطة، بالذاكرة والهوية، بالمعرفة والثقافة” (24) حسب تعبير علي حرب.
إنه عماء يمس النظم المعرفية والتقنية والجمالية، ناهيك عن فوضى المصطلحات الواعية تقول زهور كرام مثلا: “الأدب الرقمي أو المترابط أو التفاعلي يتم في علاقة وظيفية مع التكنولوجيا الحديثة ويقترح رؤى جديدة في إدراك العالم، كما أنه يعبر عن حالة انتقالية لمعنى الوجود ومنطق التفكير” (25) فما بين الترابطي والتفاعلي والرقمي والشبكي والمعلومتي والسبيرنيتكي وغيرها فوضى في التسمية، بل وفوضى في أسامي القراء (مبحر، محلق، مستعمل، مبرمج…) كما أن (نظرية) الأجناس والأنواع الأدبية هي الأخرى عرفت تشتتا (نص مركب، بسيط، مقطعي، بصري، رواية تفاعلية، قصة في دقيقة، قصة تفاعلية…).
إن القصة القصيرة جدا بما هي -عند بعضهم- وليدة عصر النص الشبكي قد مستها فوضى التسمية، فإذا كانت الرواية والقصة القصيرة قد رسختا هويتهما التجنيسة (النوعية بنظرنا) والاسمية فإن القصة القصيرة جدا على الرغم من شيوع هذا الاسم ما زال الكثير لم يقتنع به ( قصيصة، أقصة، ومضة، لوحة، لقطة، قصة مينيمالية، كبسولة، برقية، ومضة، شذرة، رصاصة، أقصودة…).
يظهر جليا أن الكتابة الإلكترونية من خلال تجربة مجموعة من الرابطات والمنتديات  صالحة للتعاطي مع نوع القصة القصيرة جدا، بل هي باب مشرع للتعلم السريع إبداعا ونقدا، على الرغم مما يطرحه النص الشبكي من مشاكل ملكية النص وتعديله ووضع الأدب الاعتباري على المحك، فالكاتب يمكنه أن يعدل النص مرات عدة؛ ما يتعارض مع شروط إنتاج النص وظروفه ومسودات الكتابة؛ ما يجعل الجينيالوجيا مفقودة، عليه، فالنص الجيد هو الذي يتعدى ظروفه الزمانية والمكانية ليبقى خالدا دون تعديل محافظا على أصله، بل على الزمن أن يتذكره لأنه خالد سام وباق ما بقي الزمن (خلود شعر المتنبي، وألف ليلة وليلة، وروايات دوتسويفسكي.. حذاء همنغواي القصير جدا…)..
إن النص الرقمي القصير جدا بما هو كذلك وبما هو مسودة إلكترونية تتعرض للنقد الآني، فإنه يصبح جاهزا للنشر الورقي، وتلك مشكلة أخرى في القراءة من سيقرأ؟ إذا علمنا أن معظم الذين يتعاطون هذا النوع يملكون حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي أو يملكون حسابات في منتديات عديدة؟ أكثر من ذلك فإن تبادل الدور بين القارئ والكاتب في النشر الشبكي (الفايسبوك مثلا) جعل سعيد يقطين يقترح مفهوم “القاتب” (26) في فوضى نسقية جعلت باحثا جزائريا يطلق “الكارئ” (27).
هذا سيجعل الكثير من الكتاب يفكرون في الإنتاج الجماعي؛ ما يجعلنا مع عبد السلام بنعبد العالي لا نكتب بيدين فقط، بل بخمسين يدا في كثير من المجموعات القصصية القصيرة جدا في مفارقة غريبة لمفهوم المؤلف وتعددية مفرطة ( غاليري الأدب،  مؤسسة لوتس للتنمية بمصر، جروب مختبر السرديات، مجموعة كتاب ومبدعو القصة القصيرة جدا، إشراقات لكتاب أقلام، منتدى مطر، مسابقات شبابية كثيرة…)، إن النشر الجماعي  لهو باب آخر  لنشر نصوص لكتاب يتعارفون، وقد قرؤوا نصوص بعضهم من قبلُ ومع ذلك يدفع كل واحد منهم قسطا ماليا أحيانا لتنشر له قصة أو قصتان أو ثلاث مقابل نسخة من الكتاب إلى خمسة على الأكثر، واحدة له وأربعة لبعض أصدقائه مجانا..
حقا إن هذا كاوس وتشعب آخر من نظرية العماء التي نستند إليها في هذه الورقة، ما الذي يريده كاتب / يتحول فجأة إلى قارئ لنصه؟ ولنصوص قرأها وساهم في تكوينها الجنيني؟ إنها فوضى القراءة بل فوضى العماء الذاتي المقصود حين يُقرأُ النص مرارا، ألم يُقرأ في المرة الأولى؟ لكن الخفي كما سبق هو هذا النسق المضمر الصالح للنوع الأدبي الملتبس الذي يصعب التعاطي معه، فكل نص قصيرٌ جدا وكل كاتب قصير جدا كذلك من هذا الباب، وإن حاول الخروج من العالم الأزرق أو التحليق خارجه (نص البحر أو الفضاء بتعبير يقطين) إلى عالم الحبر والسواد فإن عليه أن يكون كالسندباد الذي غامر في البحر وبعدها عاد لليابسة، وحتى مجال النشر الورقي الققجي فإن معظم من ينشرون لا قارئ لهم إلا النزر..
ذلك أن العالم الرقمي يوفر قصص الكاتب، لذا تجد دور النشر إن نسخت لكاتب معروف أو دافع لمال الطبع فالنسخ محدودة جدا ربما لا تتجاوز المئة إلا قليلا، وإن سعت لنشرها فهي تعطي الكاتب تلك المئة جاعلة إياه يبحث عن قنوات لتصريفها (حفلات توقيع استجداء، استرزاق…)، في ظل بحث عن اعتراف من لدن المؤسسات ذات الصبغة الأكاديمية ومن لدن أصحاب الطغمة المالية السائدة على الجوائز الضخمة للإبداع العربي والعالمي، ما هكذا تورد الإبل يا أدب!
إن النشر الرقمي إذن بما هو فاعل أساس في تطور هذا النوع الأدبي نظرا لقصره المفرط وإمكانية تعديله والحفاظ عليه، ليبدو أنه أليق وأنسب به، في ظل نقد منهجي يصعب التعاطي معه ونقد مقاربتي ينتشر كالنار في الهشيم، وانطباعات ترتسم وتكامليين يخلطون المفاهيم الضخمة ومنهجيين يحلون هتك عرض القصيرة جدا بمناهج ضخمة وبلاغيين يجهضون أحلام الجرجاني.     
على سبيل الختم
 هكذا يتبين على الأقل من خلال توجه الكتابة الققجية أو النشر الرقمي أن العماء كان سيد المخاض، وأن الأطباء الورقيين لم يكونوا مستعدين لهكذا مولود قصير الحجم، فكانوا ينتظرون نموه وتعدد أبناء جنسه، فلما استوى على عوده ولم يكبر حجما انبرت القابلات( المنظرين) لتحديد نظريات وتجنيسات جديدة (إن القصة القصيرة جدا شبيهة بإنسان النياندرتال، المينيمال، الجذمور، الأندروجين) إنها القزم الوجودي الأصلي…
من هذه الزاوية القزمية العلمية التي تبحث عن الصغير دائما (الذرة، الجزيئة، الإلكترون، النانو…) كانت توجهات  كثيرة ( غالبيتها غير أكاديمية) واعية بالعماء التنظيري المبصر، تتعامل مع النوع بمنطق قصره المفرط وصعوبة تناوله، ضدا في ذلك نهضت تلك المعيارية الأكاديمية (المقاربة الميكروسردية، ابستيمولوجيا، بلاغية، معيارية جمالية، انطباعية تاريخية، تكاملية أنطولوجية )،  إنها “نظرية الفوضى الخفية”.
 إن النشر الرقمي عامل مساعد بل أولُ في تطور  نوع القصة القصيرة جدا نظرا لما يتيحه من احتكاك مباشر بقاعدة عريضة من القراء، زد على ذلك سهولة التواصل مع الكاتب، وكذا التشريح الدقيق للنص الواحد بخلاف النقد الورقي، إنه نقد يجابه الأكاديمية والتصنيم الققجي المعياري ويدين للحاسوب والشبكة العنكبوتية بالعرفان وللترابط والرابطة بالإشراق، كما يدافع بشراسة عن القصة القصيرة جدا باعتبارها نص العصر الرقمي، لكن مشكلته هي صناعة أصنام أخرى بل أقزاما قصصية ترى نفسها ملوكا يمتد ظلها في الفضاء الأزرق..
إنه فضاء مليء بالمجاملة والمحاباة والتزلف، فضاء لمن هب ودب يسمي نفسه ناقدا كما كاتبا، فيمارس سلطته المزيفة على كاتب مزيف، إن مقولات من قبيل رائع  وجيد وروعة… هي مقولات كثيرة ليست نقدية بالمطلق؛ ما يمكن الحديث معه عن صناعة الاستسهال التي يتخوف منها أصحاب الكتاب الورقي( المنهجيون والمقاربون والانطباعيون والتكامليون)، على أن نقادا ومبدعين مختلفين لهم باعهم في المغرب والعالم العربي، لكن ظروفا مختلفة لم تمكنهم من نشر آرائهم ورقيا وهي آراء محترمة؛ ما يجعل في الأخير هذا العمى الرقمي يكتسب بصيرة فيما بعد على الورق.
(°) ناقد، فاعل تربوي

ــــــــــــــــــ

الهوامش:
[1] –  كرستين بوسي ـ علوكسان: الفتنة أو اختلاف الحب الذي لا يمكن تذويبه ضمن المناضل الطبقي على الطريقة التاوية لعبد الكبير الخطيبي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 1986، ص 58
2  رولان بارث: درس السيميولوجيا، ترجمة عبد السلام بن عبد العالي، دار توبقال للنشر، البيضاء،  ط 1  1986 ص61
3 – حميد لحمداني: نحو نظرية منفتحة للقصة القصيرة جدا ، مطبعة أنفو برانت ط 1، 2012 
4 – جيمس غليك: نظرية الفوضى علم اللامتوقع، ترجمة أحمد مغربي، دار الساقي، ط 1 – 2008، بيروت، لبنان. ص 2 وجون جريبين: البساطة العميقة الانتظام في الشواش والتعقد، تر: صبحي رجب عطا الله، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب ط 1 /2013 ص 9
5 –  عبد الفتاح سعيدي: البعد الاجتماعي لنظرية الكاوس، مجلة العلوم الاجتماعية،ع 18 ، مارس 2015
6 –  البساطة العميقة: مرجع سابق  ص  52 إلى 67  و ينظر معين رومية: مدخل إلى نظرية التعقيد والشواش  http://maaber.50megs.com/issue_december03/epistemology_1.htm
7  – محمد برادة:  دراسات في القصة العربية ( كتاب جماعي ) مقال:كتابة الفوضى و الفعل المغير، مؤسسة الأبحاث العربية، لبنان ط1، 1986، ص 18
8  – سعيد علوش: نظرية العمى وعولمة الأدب، تشظيات الإبداع وتشويش النقد، فيدبرانت، الرباط، ط1، 2000، ص 50
 9 – ينظر كتاب: بول د يمان / العمى و البصيرة : مقالات في النقد المعاصر، تر: سعيد الغانمي، المشروع القومي للترجمة، ع 189 ، المجلس الأعلى للثقافة ،2000
10 –  نفسه ص 199
11 –   – محمد بنيس: كتابة المحو، دار توبقال ط 1، 1994، ص 13
12   – عبد الرحمان التمارة: القصة المغربية الجديدة و التجريب ، العلم الثقافي ،3/5/2013
13   – عبد الرحمان التمارة : مستويات التجريب في القصة القصيرة بالمغرب، الكينونة والتّجلي* العلم الثقافي 13/2/2014
14 –  عبد الرحمان التمارة: جمالية النص القصصي المغربي الراهن، منشورات وزارة الثقافة بالمغرب، سلسلة الكتاب الأول ،مطبعة دار المناهل، 2010 ص 14
15  – محمد أمنصور: شهوة القصص، أوراق من مفكرة قاص تجريبي،دار الحرف ،ط1، 2007، القنيطرة، المغرب ص 39
Todorov, la littérature en péril, Flammarion, Paris 2007, p 17. 16- Tzvetan –
17  – محمد يوب: القصة القصيرة جدا في ضوء نظرية الجذمور،الحوار المتمدن،ع17/05/2014  و كذلك في كتاب الخروج على الإطار، دار الثقافة و الإعلام، حكومة الشارقة مع مجلة الرافد، ع 96 ،2015 ص 47
18 – حميد ركاطة: القصة القصيرة جدا، قراءة في تجارب مغربية، منشورات وزارة الثقافة، مطبعة المناهل، الرباط ط 1، 2013
19  يراجع مقال جسور الحلم بين خورخي لويس بورخيس وحسن البقاليhttp://bayanealyaoume.press.ma/
20   – سعيد علوش: نظرية العماء وعولمة الأدب،  مجلة علامات  ج 49، م 13  سبتمبر 2003  جدة، السعودية ص 242
21 – نفسه ص 241
22  أحمد بوزفور: النظر إلى بحيرة القلب، تأملات، قراءات حوارات، منشورات ديهياط1، 2017 ص 25 – 31
23 – سعيد علوش: نظرية العماء وعولمة الأدب ،مرجع سابق ص 225 – 226
  24 – علي حرب: حديث النهايات: فتوحات العولمة ومآزق الهوية، ط2، الدار البيضاء-بيروت، المركز الثقافي العربي، 2004، ص39.
25زهور كرام: الأدب الرقمي أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية، ط1، القاهرة، رؤية للنشر والتوزيع،2009، ص 22.
26 –  سعيد يقطين: النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية، نحو كتابة عربية رقمية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2008 ص 201.
27   –  أحمد زهير رحاحلة: إشكاليات “المتلقي” في ضوء الإبداع الرقمي، المفاهيم والشروط والوظائف، جامعة البلقاء التطبيقية، كلية السلط للعلوم الإنسانية، قسم اللغة العربية التطبيقية ص 12
لائحة المراجع:
بالفرنسية:
  Tzvetan Todorov, la littérature en péril, Flammarion, Paris 2007, p 17.
بالعربية:
– أحمد بوزفور: النظر إلى بحيرة القلب، تاملات، قراءات، حوارات، منشورات ديهيا، ط1، 2017
– بول ديمان: العمى والبصيرة، مقالات في النقد المعاصر، تر: سعيد الغانمي، المشروع القومي للترجمة، ع 189، المجلس الأعلى للثقافة،2000
– جون جريبين: البساطة العميقة الانتظام في الشواش والتعقد، تر: صبحي رجب عطا الله، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب ط 1 /2013
– جيمس غليك: نظرية الفوضى علم اللامتوقع ، ترجمة أحمد مغربي، دار الساقي، ط 1 – 2008، بيروت، لبنان.
– حميد ركاطة: القصة القصيرة جدا، قراءة في تجارب مغربية، منشورات وزارة الثقافة، مطبعة المناهل، الرباط ط 1، 2013
– حميد لحمداني: نحو نظرية منفتحة للقصة القصيرة جدا، مطبعة أنفو برانت ط 1، 2012 
رولان بارث: درس السيميولوجيا، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، البيضاء،  ط 1،  1986
–  زهور كرام: الأدب الرقمي أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية، ط1، القاهرة، رؤية للنشر والتوزيع، 2009
سعيد علوش: نظرية العمى وعولمة الأدب، تشظيات الإبداع وتشويش النقد، فيدبرانت، الرباط، ط1، 2000
–  سعيد يقطين: النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية، نحو كتابة عربية رقمية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2008
– عبد الرحمان التمارة: جمالية النص القصصي المغربي الراهن، منشورات وزارة الثقافة بالمغرب ،سلسلة الكتاب الأول ،مطبعة دار المناهل، 2010
 – علي حرب: حديث النهايات: فتوحات العولمة ومآزق الهوية، ط1، الدار البيضاء-بيروت، المركز الثقافي العربي، 2000
–  كرستين بوسي علوكسان: الفتنة أو اختلاف الحب الذي لا يمكن تذويبه ضمن المناضل الطبقي على الطريقة التاوية لعبد الكبير الخطيبي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 1986،
 – محمد أمنصور: شهوة القصص، أوراق من مفكرة قاص تجريبي، دار الحرف، ط1، 2007، القنيطرة، المغرب
– محمد برادة: دراسات في القصة العربية ( كتاب جماعي) مقال: كتابة الفوضى والفعل المغير، مؤسسة الأبحاث العربية، لبنان ط1، 1986
 – محمد بنيس: كتابة المحو، دار توبقال ط 1، 1994 
  • محمد يوب: الخروج على الإطار، دار الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة مع مجلة الرافد، ع 96،2015
 المجلات والمواقع:
– أحمد زهير رحاحلة: إشكاليات “المتلقي” في ضوء الإبداع الرقمي، المفاهيم والشروط والوظائف، جامعة البلقاء التطبيقية، كلية السلط للعلوم الإنساننية، قسم اللغة العربية التطبيقية
– سعيد علوش: نظرية العماء وعولمة الأدب، مجلة علامات ج 49، م 13  سبتمبر 2003  جدة، السعودية
  – عبد الرحمان التمارة: مستويات التجريب في القصة القصيرة بالمغرب، الكينونة والتّجلي* العلم الثقافي 13/2/2014
– عبد الرحمان التمارة: القصة المغربية الجديدة والتجريب، العلم الثقافي،3/5/2013
–   عبد الفتاح سعيدي: البعد الاجتماعي لنظرية الكاوس، مجلة العلوم الاجتماعية،ع 18، مارس 2015
  –  محمد يوب: القصة القصيرة جدا في ضوء نظرية الجذمور، الحوار المتمدن،ع17/05/2014
    معين رومية: مدخل إلى نظرية التعقيد والشواش http://maaber.50megs.com/issue_december03/epistemology_1.htm
تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الأربعاء 7 مايو 2025 - 00:54

انطلاق “موسم الولي الصالح الشيخ أبي يعزى يلنور” بمولاي بوعزة: تظاهرة ثقافية وروحية تراهن على التنمية والسياحة

الثلاثاء 6 مايو 2025 - 21:16

انطلاق عملية استقبال طلبات الدعم العمومي المخصص لقطاعات الصحافة والنشر…

الإثنين 5 مايو 2025 - 20:08

القصابي بميدلت تستضيف باحثين في التاريخ والتراث بملتقاها الوطني لتوثيق تاريخ المنطقة وحفظ ذاكرتها الجماعية

الأحد 4 مايو 2025 - 18:10

العيون تحتضن ندوة علمية كبرى: من أدب التحرر والمقاومة إلى فكر التنمية في إفريقيا

error: