من المرجعية النسوية إلى رحاب الإنسانيات: قراءة في مجموعة “هزائم صغيرة” لنادية الأزمي

أحمد بيضي الخميس 9 فبراير 2023 - 19:00 l عدد الزيارات : 22784
  • محمد العمراني (°)
 تقديم
القاصة نادية الأزمي، ابنة الشعر والقصة القصيرة والقصيرة جدا ونقدها والرحلة والإنسان، مبدعة من طراز متعدد، شبيهة “سشات” رفيقة تحوت إله الكتابة، إنها سيدة المكتبات ونقاشة معبد هليوبوليس ومدونة أثر الفراعنة، تنهض إذن نادية من ليل الكتابة لتقدم نصوصا إنسانية متسوحاة من الواقع والخيال، تنهل من جدل النسوية والطفولة وسهولة الوصف واللغة الممتنعة، هذه الأضمومة صدرت سنة 2016 عن مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، من تقديم الناقد مصطفى سلوي، وهي أضمومة حافلة بالإنسانية على طريقة المرأة المبدعة، ورقتي إذن ستنصب على مرجعية حس المشترك الإنساني في المجموعة.
    لكن قبل ذلك، هل يحق لنا الحديث اليوم عن أدب نسائي؟
         بعد كل الهزات العنيفة التي تعرض لها الأدب خلال تاريخه الطويل، لا أدري هل بوسعنا اليوم أن نسم أدبا ما بالنسوية من غيرها، الأمر هنا يحيل على ما بعد الحداثة، أو ما بعد التفكيك الذي استفاد منه النقد النسوي كثيرا وهو يرسي دعائم نقد جديد، نقد منفتح على شيطان النظريات الحديثة والنقد الثقافي والعماء الأنطولوجي بتعبير أنطوان كومبانيون (1)، إن مقالنا هذا يروم الإجابة عن سؤال إشكالي، يتعلق بحضور المرجعية النسوية في الكتابة، وقد تفرعت عنه الأسئلة التالية:
  • ما علاقة النسوية بالإنسانيات؟ وكيف حضرت المرجعية النسوية في قصص هزائم صغيرة؟ وكيف شكلت وعيا قبليا سكن القاصة قبل الكتابة، ثم كيف عبرت بمرجعيتها النسوية إلى أفق الإنسانية الرحبة؟
في هذه المقالة سنستعين بآليات النقد النسوي والإنسانيات، من أجل الوصول إلى نتائج خاصة بالمجموعة القصصية قيد الدراسة.
  مبادئ النسوية في التحليل الأدبي
  منذ مدة حين كنت بصدد كتابة مقال ميتا نقدي حول النقد والجندر في كتاب الناقد حميد ركاطة ” القصة القصيرة جدا، قراءة في تجارب مغربية” لم أكن موقنا أنه يمكنني أن أسم أدبا بالنسوية من غيرها، نظرا للفوضى التي تعم الاسم ما بين أدب نسائي، أدب المرأة، أدب نسوي، أدب جندري، إبداع نسائي، أدب أنثوي، رواية نسائية، رواية المرأة… نعم يمكن الحديث عن قضايا وضعية المرأة والاستلاب، أو الكتابة بصيغة الأنثى وليس كتابة نسوية؛ لأن ذلك التصنيف من فعل الرجل ويمكن أن يكتبه الرجل، فهو من يضع المفاهيم جينيالوجيا، إنه من يحدد الأدب النسوي والأدب الطفولي والأدب الهامشي والمركزي، بل إن اللغة من صنعه، كما التاريخ والكتابة والفلسفة والعقل.
لكن هل سمعنا يوما أدبا للرجال؟ نعم يمكن أن نقول أدب الزنوج، أدب الطفل، المفارقة تكمن هنا في أن لسان الأدب الأول عربيا جاء على لسان شهرزاد، وإن كان مؤلف الليالي مجهولا؛ ما يعني أنه لم يتبق للمرأة إلا ما يحكَى. من هنا لابد من “الإصغاء لصوت شهرزاد” (2) من جديد بصفتها فاعلة أندروجينية في الأدب والكتابة، بل الثائرة على احتكار الكتابة والتاريخ والجينيالوجيا، فكان لابد أن يتحمل الأدب هذا الثقل الأنثوي في غياب شروط موضوعية يحكمها التخلف وغياب مدنية حقيقية، كما فشل المنظومات القانونية في هذا المجال، لكل ذلك يمكن الحديث عن كتابة نسائية جديدة تبتغي الحضور في فلسفة الغياب الجنوسية؛ كتابة نابعة من تكوينها الحديث وإن كان عديد المؤلفين كتبوا عن المرأة، بل بلسانها.
    إن الكتابة النسوية أشبه بطفرة علمية، دقة وإنجازا، من خلال هدم النظام الذكوري للكتابة أوعقل البطرريك، وحيث أدوات النقد القديمة لم تعد تصلح لدراسة النصوص النسوية المعاصرة، إن العقل الغربي نفسه الذي انتظم لقرون في النسق الذكوري قد دخل نسق العقل الأنثوي من جديد، تجسد ذلك من خلال كتابات كثيرة دخلت معها المرأة مجال الثقافة عوض البيولوجيا الداروينية السائدة، إن النقد الآن يبحث في أدغال النصوص الأدبية النسوية المتسمة في السطح بكتمان كبير، لكنها عميقة ناتجة عن الهزات العنيفة التي تعرض لها الأدب نفسه في تاريخه؛ ما يفرض على الباحث التسلح بمفاهيم دقيقة في تحليل النصوص وكشف بنياتها العميقة.
 إن الحركات والكتابات الأولى التي أثرت في الأدب النسوي لم تكن مقصودة في ذاتها من خلال كتابات ق 19، أو لم تكن على الأقل تتوقع هذا التأثير الممتد عبر العالم، نتحدث عن كتابات بعينها داخل المنظومة النسوية، أقصد بالضبط تأثير الأدب في الحركات النسوية، خاصة، إذا علمنا أن كاتبات متخصصات في الرواية والقصة والشعر هن الجزء الهام في الدفاع عن الحركات النسوية في العالم.
كما أن مجموعة من الحركات النسوية تنظم ذاتها من تلقاء ذاتها، إن المرأة بغض النظر عن مساندة الرجل لها في حركاتها تظل سيدة تنظيمها. إن هذه الحركات النسوية في العالم لا يمكن التنبؤ بنتائجها ولا بمساراتها ولا بمستقبلها في ظل منزلقات كثيرة وغياب دراسات مرجعية حقيقية عن المرأة، إذ أغلب الخلفيات تعود للرجل ابستيميا. كما أن الحركات النسوية الحديثة متعقدة كما متاهات ألف ليلة وليلة، أو جذامير دولوزية، وهولوغرامات معقدة تعود لإدغار موران.
 بما أننا نستند إلى النظرية النسوية التي تقترب كثيرا من نظرية التفكيك، وبما أن الإبداع النسائي، كان مرتعا خصبا للكتابة الجديدة (حركات جندرية، كتابة المرأة، النقد النسوي، كتابة الأنثى، الأدب النسائي، الكتابة بصيغة المؤنث، كاتبات كثيرات…)، كتابات لا ترضخ للمحكي الذكوري الأبوي وتعج بالمفارقات والفوضى والاختلافات المعرفية، وكذا موسوعية الثقافة والمرور بعوالم جديدة، إن بعض الكاتبات تملكن لعبة اللانهاية، كما أن أخريات كان وعيهن بفلسفة التفكيك والوجودية متجسدا.
  إن النقد النسوي الذي يلي الإبداع قد أصيب بعدوى العماء (التفكيك والتأويل النفسي والنقد الثقافي…)، على هذا سيزداد التفكيك غورا وبصيرة مع النقد المترابط الشبكي والذوقي اللذين يمارَسان على المقاطع السردية النسائية، إنها رؤية وبصيرة ابستيمولوجية لم تكتف برؤيا عامة للناقدات النسويات، بل عمت ترسناتهن النقدية وتنظيراتهن، فيما تدخل النقد الذكوري سطحيا ليضيف لمعايير النقد معيار النسوية أو الأنوثة، فتجد أحيانا فضاءات ذكورية كانت فيما مضى تقصى صارت الآن مثل طباق إدوارد سعيد، لا هي من هنا ولا من هناك، النقد الذكوري للأدب النسائي يجب أن يركز على التأثير العميق لهذه الثورة الأدبية.
 المرأة ستركب هذا الخطر وتغوص في متاهة المينوتور عوض الرجل تيسيوس وتتحمل أريادنا بكبة خيوطها التاريخ لتعيد قانون الكتابة، أليس السرد قديما جنس الذكور اللقيط (اللاأصل) بينما المرأة على الأقل نتجت عن أصل ولو أسطوري، أليس الأدب ابن الأسطورة حسب نورثروب فراي.
  في كتابها ” دفاعا عن التاريخ الأدبي النسوي” تبرز جانيت تود ” (3) أن النسوية مرت بمراحل عديدة منها النسوية الأمريكية والفرنسية والبريطانية وأنها مرت بأخطاء منها المافيا النسوية في الجامعات الأمريكية، لكنها دائمة في تجاوز لذلك، كما بينت مرجعياتها النفسية الفرويدية واللاكانية والتاريخية والتفكيكية والاجتماعية. ومن أهم منظرات النسوية أليس غاردان وماري هيوموريتش وأدريان ريتش وشوالتر وغيرهن.
إن النسوية مذهب يدافع عن حقوق النساء ويرفع قضية المرأة، “إنها منظمة فكرية مدافعة عن مصالح النساء” (4)، هي نزعة ضد البطريكية الوجودية التي يخضع لها الابن والبنت على السواء، إن الكتابة النسوية عامة والسردية خاصة، تحفل بالتحدي والتمرد والإبداع والصراخ وتهشيم المركز، هذا لا يعني أنها لم تكن تكتب، لقد فعلت لكن على هدي الرجل وتحت وصايته قديما (شهرزاد، الشاعرات العربيات، الخنساء، رابعة، ولادة، ليلى الأخيلية، هيباتيا…) لكن لم يكن يسمح لها بتجاوز سقف الوصاية.
    لكن في العصر الحديث تغير ذلك، ظهرت الفراشات: فيرجينيا وولف ( كتاب غرفة خاصة بالمرء وحده) وسيمون دي بوفوار بكتاباتها المدافعة عن المرأة (الجنس الثاني)، ثم جوليا كريستيفا في كتبها (غرباء على أنفسنا، الشمس السوداء، الثورة الحميمية، العبقرية الأنثوية…)، لتنتقل العدوى لأوربا وأمريكا والغرب متعقدة الاتجاهات، ثم الدول العربية التي انتشرت فيها مثل إعصار تسبب فيه جناح فرجينيا (غرفة فرجينيا وولف للطيفة باقا)، وتنجب كاتبات مدافعات عن الأدب النسائي سواء من داخل الكتابة عامة أو السرد خاصة، نوال السعداوي، غادة السمان، سحر خليفة، فاطمة مرنيسي أحلام مستغانمي، زهرة رميج، فاتحة مرشيد…
       تطلق زهور كرام الكتابة النسائية معتبرة إياها ” حصيلة نضال نسوي طويل، لكن
أصلها فلسفي” (5)، إلى ذلك فقد تعددت الحركات النسوية في الغرب، خاصة، فرنسا وأمريكا الشمالية، لكن المرجعية النسوية لم تكن تفرز طبيعة الكتابة، بل تركز على الجندر، وهو أمر مناف على الأقل بالنسبة لطبيعة المواضيع التي تكتبُ في الرواية أو الشعر، في حين ترفض خالدة سعيد هذا التقسيم الجنسي مطلقا في كتابها المرأة، التحرر، الإبداع، (6) مشددة على غموضه، بل جعله هامشيا لمركزية الأدب الذكورية، وتغييبا للإنسان في جوهره (7)، بل إن الكتابة عامة فعل تحرر من نير الماضي. فيما تدين نوال السعداوي الرجل وتعتبره المسؤول عن اختيار الأعمال السيئة وترك الجيدة. إلى ذلك فإن عديد الروائيات يرفضن أن يصنفن ضمن خانة الأدب النسوي أو الأنثوي الذي ينطلق من الجسد أو من كتابة مختلفة من هؤلاء: أحلام مستغانمي، وزهور كرام وخناتة بنونة والناقدة التونسية زهرة جلاصي.
 من النسوية إلى الإنسانيات
إن الدعوة إلى أدب نسائي يعيد الكرامة للمرأة في جوانب عديدة مطلب إنساني، ما دام النسق واحد، إنها دعوة للمساواة والكرامة والحرية موضوعا وجسدا، إذ طالبت المرأة بالتعليم والحقوق المختلفة كالعمل والسياسة والثقافة والمجتمع، هي أمور ترقى بالمستوى الإنساني، من خلال التمرد على التقليد والتحلي بالكونية، إن “المرأة وهي تبحث عن ذاتها تبحث عن أدب إنساني” (8)، سيما أن القضايا التي يتناولها الأدب اليوم لم تعد حكرا على رجل أو امرأة، وبهذا المنظور فالنسوية لا تلبس أن تكون مرحلة ضرورية من أجل النضال على الحق الإنساني،  اليوم نظرية الأدب تحتكم لقواعد صورية أدبية مع قضايا إنسانية جعلت مثلا نساء يفزن بجائزة نوبل للسلام عن قضايا إنسانية عادلة، مع بعض الخصوصيات التكوينية واللغوية، لكن عامة فخطاب المرأة للروح والجسد والعقل.
 يجب علينا التفرقة بين النزعة الإنسانية التي رفعت من شأن الإنسان في الفلسلفة والتصوف والدين، وبين المرجعية التي تكتب بها القاصة لتؤسس نصوصا بخلفية نسوية إنسانية محضة، وتعود جينيالوجيا الإنسانيات إلى اهتمام الفلسفة الإغريقية عامة ورفعها من مكانة العقل، يقول سارتر: ” إذا كان من المستحيل أن نجد لدى كل إنسان ماهية كونية ستكون هي الطبيعة الإنسانية (9).
 إن الإنسانية تيار أدبي ظهر في القرن السادس عشر، يهدف إلى تعزيز التسامح والحرية وحب الإنسان، من خلال كتابات رابلي وإيرازم ومونتين، وتطور المفهوم مع فلسفة نيتشه وسارتر الذي أقر في كتابين أن الإنسانية مذهب العقل، في هذا هو الإنسان وكذا في إنسان مفرط في إنسانيته قائلا: “يجب أن تصير الإنسانية يوما شجرة تغطي هذا الكوكب بظلها” (10).   
يشعر قارئ مجموعة هزائم صغيرة أنه أمام نصوص حافلة بالنماذج الإنسانية، تلامس الهزائم الصغيرة التي تعرضت لها الأنثى ونخرت حلمها من خلال الصمت والخيانة والاستغلال وعدم الاهتمام؛ لتنتصر في الأخير للذات الأنثوية في أفقها الإنساني الرحب، لتحلق فراشة ضوء تحترق من أجل الإنسان.
قضايا النسوية والإنسانيات في الأضمومة
تحفل هذه المجموعة بقضايا نسوية صارت إنسانية من قبيل الإنسان “والمرأة والهجرة والسلطة” (11) والحب والطفولة والحياة والتضحية والضمير والفرح والصداقة والحرية والإنصاف والتضامن وغيرها من المثل العليا التي دافعت عنها المرأة طيلة تاريخها؛ لتصبح مبادئ إنسانية تقر بها كل المواثيق والعهود الدولية، إن كفاح المرأة أنتج قيما عليا وهي قيم لم تكن المجموعة في معزل عنها، بل إنها تدخل في صلبها كما عبر عن ذلك الناقد مصطفى سلوي في معرض تقديمه لها قائلا “هكذا تقدم نادية الأزمي نماذجها الإنسانية” (12).
 فينومينولوجيًا، يمكن أن نستعين بتحليلات باشلار وسعيد علوش وحميد لحمداني في تحليل القضايا والموضوعات التي تناولتها المجموعة، لكننا نروم القراءة المصغرة التي تلتقط الجزئيات بدل الانشغال بتيمة كبرى كان كثير من النقاد يطاردونها في أعمال كثيرة، وهو الشيء الذي يجعل هذا النوع من الدراسات أقرب للفلسفة منه للأدب، إلى ذلك فإن المجموعة كما سبقت حفلت بعديد القضايا؛ ما جعلها أنموذجا “لتحدي الواقع الأليم الذي تعيشه شخصيات القاصة” (13)، ما يجعلها مجهضة الأحلام.
 تيمة الأمومة
في قصة إلى متى !؟ ص 14- 17 أم ثكلى جراء فقد ابنها في قوارب الهجرة السرية عبر سرد عاطفي نسوي، أم معطاءة حنون صبور تنتظر فلذة كبدها لعل بوسيدون يجود بجثته، في قصة “فلذة” ص55 سرد أنثوي عن الشابة الأم نورا التي لم تتخل عن حضانة طفلها “يزن” بعد الطلاق قائلة: “صممتُ على المواجهة، أمومتي .. أنا من سيدافع عنها…” (14)، أما في قصة العيادة (15) التي تبدو مثل لوحة سوريالية تظهر أنثى عاقر سحقها الألم والانتظار يراودها حلم الأمومة والإنجاب، تلج العيادة وتأخذ طفلا من لوحة مرسومة في الجدار وتنصرف، صورة الأم التي حضرت وشكلت قيمة إنسانية كبرى على مدار الأدب من خلال رواية الأم لمكسيم غورغي وغيرها من المحكيات والأشعار التي مجدت براديغم الأم عبر التاريخ أو أحلام الأدب وتكوينه النفسي الأسطوري ( الأوديبي)، إنها تحضر هنا قيمة نسوية لتصبح إنسانية.
تيمة المرأة في الأضمومة
تحضر هذه التيمة بقوة في المجموعة، إن المرأة وهي تكتب القصة القصيرة غالبا ما تكون ذات حساسية مفرطة للنوع (16)، إذ تقدم للقارئ صورا وبراديغمات يومية تلامس وضع المرأة وعلاقتها بالرجل سواء الزوج أو الأب أو الآخر، علاقة محكومة بالصمت والنسق الاجتماعي التقليدي الذي يرهن المرأة في القفص الذهبي المنزلي، في قصص كثيرة لاحظنا الدونية التي تعاني منها شخصيات القاصة، كما غياب حرية القرار والاختيار، بل تسليع المرأة وخوفها من المجهول وسيطرة العقلية الذكورية ومتطلبات العيش بعد الكبر، كما ضيق الأحلام وشظفها وعدم القدرة على الإفصاح، تجلى ذلك من خلال قصص مختلفة؛ في قصة ظلال الأحلام ص 21، تحلم امرأة بإنجاب طفلة دون جدوى رغم تعاطيها الأعشاب، حلم يجعلها تفعل أي شيء.
في قصة استسلام ص 23، تظهر شخصية المرأة سمر المنبطحة لخيانات زوجها المتكررة؛ حفاظا على زواجها ودفاعا عن زوج من عشيقة ستأخذه منها؛ لذا راحت وأعدت له القميص الأحمر الذي اشترى مثله لخليلته، إنها الأنثى حين تحب وحين ترضخ للخيانة وتواجهها بطريقة الاستسلام وتظنها نوعا من المواجهة، بل تظنها هزيمة صغيرة وانتصارا آتيا.
في قصة الفرح ص 26، عروس تهرب مع خليلها تاركة عريسها والمدعوين فريسة للظنون والأقاويل التي تضرب في المرأة وشرفها، لكن الشخصية تظهر قوية هنا إذ فرت من جحيم زواج قسري. في قصة انكسارات ص28، نجد الشخصية القصصية من دون اسم إمعانا في الصمت والذل، ما يذكر بقصص كافكا، حيث امرأة منكسرة بفعل الانتكاسات المتوالية، تسكنها الهواجس بعد موت والديها، تعود لبلدتها في رحلة طائرة فلا تجد إلا الفراغ والذكريات في استقبالها.
تنتصر المرأة في قصة أضغاث لقاء، ص 31، حيث يحلم رجل بأنه انتصر على امرأة لتحسم معه أن ذكرياته لم تعد تهمها، إنها حساسية نسائية متحررة، تظهر بين الفينة والأخرى بين ثنايا القصص.
في قصة سيل دعاء ص 33 تسرد القاصة مكابدة امرأة عجوز لأجل زوج مقعد، حيث اضطرت لبيع البيض في الرصيف مع معاناتها من رجال المخزن الذين يمشطون المكان، انتصارات المرأة ولو صغيرة تبرز من جديد في قصة انتصارات صغيرة ص 34، حيث يمكن للرجل أن يبوح بعلاقاته السابقة بخلاف المرأة، فتضطر الأخيرة لإخفاء الحقيقة مجربة سلاح الخداع كما الرجال أحيانا. في قصة تسونامي ص 39 موج غاضب يجر معه الرجل الكاذب لصالح المرأة، في قصة تقاسيم الموت والصدى ص 40، ترصد الساردة حالة معاناة امرأة جراء فقدِ زوجها وهي تأتي به في تابوت لتبدأ حياتها من جديد.
في قصة القرار ص 46 تنهزم فتاة في معركة الحب والثقة، يُكسرُ خاطرها؛ لأن شريكها ليس الشخص المناسب لها؛ ما جعلها تائهة في الطريق حتى صدمتها سيارة فراحت ضحية الحب من طرف واحد، هي قصة انكسار وإحباط تعانيه المرأة. في قصة مباغتة ص 59، تنتصر المرأة على لص طريق، لكنه ليس لصا محترفا، بل شابا عاطلا عن العمل وله ابنة تنتظره ليأتي لها بلقمة العيش.
أما قصة بين حياتين ص 61، فالمرأة بين سندان الرجل حميد ومطرقة المخدرات التي يتعاطاها، المرأة تتحمل صابرة رفسه وركله لها أمام صغيرتيها وقد هدّها ذلك، لكن عودته لصحوه وذهابه للمسجد ليكفر عن ذنوبه تجعلها تسامح بكرم كبير، هي حياة متكررة رتيبة تكابدها تلك الزوجة الأم بين فناء وتجدد. تعود المرأة لانتصاراتها في قصة أوهام ص66؛ شاب يعمل بستانيا عند امرأة غنية ويلاحقها في خياله بنظراته ليعود لرشده على وقع تذكيرها إياه بأنه خادم.
     في قصة نقص ص 74 يحس الزوج بالنقص في حياته لا لشيء إلا لأن زوجته موظفة وهو يعول عليها في ترتيب حياته وتنظيم فوضاه، في القصة نقد لاذع للهيمنة الذكورية بتعبير بيير بورديو الذي يجعل من المرأة خادمة في المنزل على الرغم من أنها موظفة مثله. تترى المكابدة في قصة الكبش ص 75، امرأة متعبة تفكر في كبش العيد وذبحه بينما زوجها طريح الفراش كثير الشخير يهده المرض، إنها آلام تجثم على صدر المرأة وأحلامها مذ اختارت شهرزاد سبيل الحكاية ثم صمتت بعدها عن الكلام المباح،
في قصة صمت الكلام ص 77، يُصادرُ الحلمُ من المرأة الزوجة ويسلبُ منها فحتى الحلم ضيق، لقد تحررت فعلا من نير الزوج الرجل لكن في الحلم فقط، وحينما استيقظت لعنت حلمها وظنته كابوسا مزعجا، فقدمت اعتذارا لزوجها، أي ترد وانتكاسة أكبر من هذا، إنها أحلام الحريم المجهضة على حد تعبير فاطمة المرنيسي (17)، في قصة انتقام ص 79 تحاول امرأة الانتقام من رجل تخلى عنها بعدما تعلقت روحها به، لكنه لم يعد يجيب على مكالماتها؛ لذلك أضحت مهزوزة الكيان.
تظهر المرأة أختا وإنسانة مكافحة في سبيل أخيها في قصة هزيمة أخيرة ص 81، تصبر الأخت وتربي أخاها لكنه يتعاطى طريق الخمر فيأتيها ذات ليلة مواقعا إياها، تاركة إياه لندم مستقبلي مجهول، مطبقةً على شفتيها في صمت رهيب. المرأة بما هي إنسان تحضر في قصة إيميل… ص 83 حين لا تجد الفتاة في الطرف الآخر فهما يليق بكيانها فتنهي العلاقة متأسفة حزينة تجر خيبة الزمن، تختم القاصة قصصها بخواطر ثلاث جمعتها في قصة نبضات ص 85، حيث تشتغل على تقنية التقعير السردي بهدف رسم خارطة طريق تبدأ من التغيير وصولا للدرب الأخضر، ختاما بزلزال قوي.
هي إذن احتفالية بالمرأة الإنسانة على طريقة البوح القصصي، لكن الانتصارات تبقى قليلة والهزائم الصغيرة بنظر الرجل تظل كبيرة بعين المرأة، إنها التي بذلت أحلامها ووقفت وراء كل الرجال صابرة معاندة، إنها موجودة بالآخر فهي زوجة في الغالب لفلان في صورة كرّسها النظام الذكوري، إنها صيرورة هابطة بتعبير خالدة سعيد (18)، من ثمة فإن القاصة نحت بها إلى أفق أرحب لتعبر عن قضاياها ومعاناتها وهذا مبدأ إنساني ودعوة للتحرر. 
  الطفولة تيمة إنسانية
   تحظى هذه التيمة في المجموعة بقسط وافر من القصص، في قصة آباء وأمهات ص 43، تجد الساردةُ طفلةً يتيمة بعمر العشر سنوات، لكن لها الأعمام والأخوال والخالات والعمات وكل الناس، إنها دعوة للاهتمام بالطفولة اليتيمة والمشردة. في قصة دمية ص 50 سرد عن مكابدة طفلة جراء فقد أمها – ربما – وهي تلاعب دميتها العزيزة وتبكي بغزارة متذكرة حادثا مأساويا وقع في الماضي، ربما سقوط أمها من طرف والدها من الشرفة، لتبقى حبيسة الذكرى، في قصة براءة ص 70، تسرد القاصة علينا أحداث قتل صبية للكتاكيت معتقدة أنها ستصبح طيور جنة مثل أطفال الحرب، هي قصة تدعو للسلام ونبذ العنف والحرب بين الشعوب، تلك التي يروح ضحيتها آلاف الأطفال.
 الفن والإنسانية
يعتبر الفن بابا رحبا للإنسانية، إذ إن قيمه الجمالية ترفع من شأن الإنسان، شأنه شأن الأديان والفلسفات، لذا فإن الفن مدخل إنساني هام، ومنه فالإبداع عامة شرط ضروري للمرأة، تجسد هذا في المجموعة كلها، كما بدا خاصا في قصة الكراسي، ص 64 حيث يحضر القاص من أجل تكريمه في قاعة مليئة بالكراسي التي تصفق فارغة للقاص، إنها دعوة إنسانية للاهتمام بالقصة القصيرة نوعا أدبيا رفيعا، في زمن غياب القارئ، وهو سؤال الكتابة عامة بما هي أحلام وبما هي احتفاء باللغة الأنثوية، حيث تصبح القصة امرأة تقاوم، هو تبادل للدور “يختلط فيه الحياتي بالكتابي” (19).
 إن القصة القصيرة حمالة القيم الإنسانية بومضها وتكثيفها وتنويرها للقارئ بقضايا الطفولة والأمومة، هي موضوعات أصيلة تحبل بها القصة في دلالتها ومعانيها الكونية. إن الأدب عامة والقصة القصيرة لغة الإنسان.
على سبيل الختم
 هكذا يبدو أن مجموعة “هزائم صغيرة” حافلة بقضايا الهزيمة التي جثمت على صدر المرأة، لكنها صغيرة لن تثنيها عن الانتصار. تبين أن الكاتبة مسكونة بهاجس المرأة والإنسان بشكل عام، ما وسم نصوصها بدفقة عاطفية ولغة مؤنثة تحمل هما إنسانيا على بساطتها المتمنعة، إن هذه المرجعية التي حكمت كتابة النصوص لم تكن لتلغي الجوانب الفنية لكتابة القصة القصيرة سواء ما تعلق بالعتبات أو النهايات التنويرية أو التكثيف الذي جعل القصص أحيانا تنزع إلى إلى التشذير والومض والأدب الوجيز أو الققجي، نعم بدت اللغة أحيانا تقريرية ولم تجنح القصص للفنطاستيك والتغريب المنتظر، لكن الكتابة الواقعية وعي واختيار على حد تعبير حسن البقالي ذات حوار مقتبسا إياه من بورخيس؛ نظرا لطبيعة المواضيع والتيمات المتناولة.
الهوامش 
  1. Antoine compagnon : Le démon de la théorie, Edition du seuil, mars1998
  2. سلمان زين الدين: شهرزاد والكلام المباح، قراءات في الرواية النسوية، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 2010 ص 7
  3. جانيت تود: دفاعا عن التاريخ الأدبي النسوي، تر: ريهام حسين إبراهيم، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، ط1، 2002، ص11 – 29
  4. مجموعة من المؤلفين: الفلسفة والنسوية، دار الامان، المغرب، منشورات الاختلاف، الجزائر،2013، ص 204
  5. هور كرام: السرد النسائي العربي (مقاربة في المفهوم والخطاب)، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، ط1، 2004، ص 65
  6. خالدة سعيد: المرأة، التحرر، الإبداع، سلسلة نساء مغاربيات، دار الفنك، الدار البيضاء، 1991، ص86
  7. نفسه ص 87 – 88
  8. عبد الهادي لبيتي: جدلية المرأة والكتابة اتجاه نحو إنسانية الأدب، طنجة الأدبية، 18 ديسمبر 2020
  9. جان بول سارتر: الوجودية منزع إنساني، تر: محمد نجيب عبد المولى، ط1 2012، دار محمد علي، تونس ص 64
  10. فريديريك نيتشه: إنسان مفرط في إنسانيته، الجزء 2، تر: محمد الناجي، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2001، ص 185
  11. عبد الرحيم التدلاوي: هزائم صغيرة للمغربية نادية الأزمي: ثنائيات لكشف الصراع وتعميق أبعاده، جريدة القدس العربي 22 يونيو 2018
  12. نادية الأزمي: هزائم صغيرة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط1، 2016 ص 9
  13. محمد الدخيسي: ثنائية الواقع والحلم/ قراءة أولية في ( هزائم صغيرة)، صفحة فايسبوك نادية الأزمي، 27 غشت 2016
  14. نادية الأزمي: هزائم صغيرة، مرجع سابق، ص 58
  15. نفسه ص 68
  16. رشيدة بنمسعود: جمالية السرد النسائي، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، ط1، 2006 ص 41
  17. فاطمة المرنيسي: أحلام النساء الحريم، تر: ميساء سري، ورد للطباعة والنشر، ط1، 1997. كما يمكن العودة لكتاب الحريم السياسي تر: عبد الهادي عباس، دار الحصاد للنشر والتوزيع، سوريا من دون طبعة ولا تاريخ.
  18. خالدة سعيد: المرأة ، التحرر، الإبداع، مرجع سابق ص 93
  19. سلمان زين الدين: شهرزاد والكلام المباح، قراءات في الرواية النسوية، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 2010، ص 14
 (°) ناقد وفاعل مدني

    

تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الأربعاء 7 مايو 2025 - 00:54

انطلاق “موسم الولي الصالح الشيخ أبي يعزى يلنور” بمولاي بوعزة: تظاهرة ثقافية وروحية تراهن على التنمية والسياحة

الثلاثاء 6 مايو 2025 - 21:16

انطلاق عملية استقبال طلبات الدعم العمومي المخصص لقطاعات الصحافة والنشر…

الإثنين 5 مايو 2025 - 20:08

القصابي بميدلت تستضيف باحثين في التاريخ والتراث بملتقاها الوطني لتوثيق تاريخ المنطقة وحفظ ذاكرتها الجماعية

الأحد 4 مايو 2025 - 18:10

العيون تحتضن ندوة علمية كبرى: من أدب التحرر والمقاومة إلى فكر التنمية في إفريقيا

error: