أحمد بيضي
الثلاثاء 28 فبراير 2023 - 19:20 l عدد الزيارات : 79887
محمد عياش(°)
علاقة الشعر بالهوية علاقة موسومة بالتوتر، والالتباس، والارتباك منذ اختار الإنسان أن يتخذ من الشعر طريقا سحرية نحو عالم ملائكي يغمره نور الجمال، وروحه من كل جانب. ويغدو الأمر أكثر إثارة للارتياب، والدهشة حين تقترن الهوية بالانفتاح وكأن السجل العدلي للشعر لايخلو من سوابق جنائية مع سؤال الهوية، وما يحوزه من فضائل الانتماء، والتجذر، والخصوصية المتدفقة بهدوء نحو مصب الكونية
إذا كانت الهوية في علم النفس تعني إدراك الفرد لذاته ، وفي السوسيولوجيا تفيد صيغ تدبير علاقة الفرد مع العالم ، فإنها في حقل الأدب تقذفنا إلى تخوم الفلسفة بالنظر إلى ما يثيره المفهوم من قضايا أنطولوجية تهجس بأسئلة مرهقة عن الماهية ، والحقيقة ، والحرية …أي ما يجعل من الأدب مشروعا جماليا يخترق – من خلاله- الإنسان كل حدود الضرورة بحيث تمسي الحرية طبيعة ، والطبيعة ذاتها حرية كما يرى كانط.
مصدر هذه العلاقة الإشكالية بين الشعر ، وبين الهوية هو ما قد يرتسم في متخيلنا الثقافي من تباين جلي في المقومات ، والمقاصد إذ يكتسي الشعر ميسما نرجسيا ، واحتماليا يتحرك في كل الاتجاهات بمنتهى الحرية ، والمرونة بحثا عن قيم نبيلة ، وكونية قد تشكل الهوية إحداها . في حين أن الهوية تنحو في اتجاه التجميع ، والمعيرة ، والاحتواء بدعوى الحفاظ على النظام ، والتناغم ، والاستقرار . ومن ثم ، قد يشكل كل سلوك غريب عن النموذج المتعارف عليها اجتماعيا نوعا من الانحراف المرفوض الذي يجيز للجماعة اتخاذ قرار بإقصاء مرتكبه كما حدث لطرفة مع قبيلته حين قال :
قد تبدو مساحة الهوية داخل القول الشعري ضيقة بسبب طبيعته الغنائية ، وصوته المونولوجي الذي لايكاد يغادر ذات مرسله حتى يرتد اليها خائبا ، مغبونا أمام ماتتمتع به الاجناس الأخرى ، خاصة تلك المنتمية الى السرد الروائي ، من ثراء بوليفوني، وتعددية في وسائط التعبير تسمح له بتعقب آثار الهوية في مختلف مستوياتها ، واتجاهاتها ، وأبعادها .وعندما اجمع النقاد القدامى على أن الشعر ديوان العرب، لم يكن يغرب عن بالهم أنه الحاضن الامين لهويتهم ، والحصن المنيع لصيانتها من عوادي الزمن الجائرة . إلا أن اتصال العرب بالسرد الروائي – في إطار المثاقفة ، والتفاعل مع منجزات الحداثة الغربية ، وإقبالهم المفرط –من كل حدب أدبي ،وصوب معرفي – على الاسترفاد بأدواتها الفنية المتنوعة، وتقنياتها الجمالية المتطورة لمواكبة الواقع بمختلف تحولاته، وتعقيداته، وانفلاتاته ، وتناقضاته …
أقول : مع اكتشاف السرد الروائي ، ودخوله غمار منافسة غير متكافئة مع القول الشعري سيزداد الوضع سوءا بالنسبة إلى هذا الأخير . فقد أصبحنا أمام وهم شقي بأن الشعر بابه الذات في عزلتها المتعالية عن المعيش المشترك ، والهوية المنفتحة ، والحية ، والمتجددة . بل إن المتتبع للشعر العربي منذ العصر الجاهلي إلى اليوم ، إذا كان فاقدا لما يكفي من الصبر ، والتريث، والتبصر ، والإصغاء لمنطويات هذا الشعر الوجودية، والإنسانية ، فضلا عن أنه إذا كان يحنط مفهوم الهوية في قوالب دوغمائية ، أومؤدلجة ، فإنه لن يتردد في إنكار وجود علاقة ممكنة بين الشعر العربي ، والقديم منه بشكل خاص ، وبين سؤال الانفتاح الهوياتي ، وارتباطه الوثيق بسنّة التحول . وهذا – دون شك – موقف مجحف ، و مردود إذا ما وضعنا الشعر العربي ،وعلاقته بمفهوم الهوية في سياقهما الثقافي الطويل ، والمتحول.
في العصر الجاهلي ، انبثق مفهوم الهوية من بنية عشائرية بسيطة ، ونشأ ضمن نمط إنتاج رعوي كانت فيه قيمة الكرم تحظى بمكانة مخصوصة ، ولهذا اتخذ هذا المفهوم طابعا أخلاقيا عنوانه البارز السماحة ، والبذل ، والإيثار . فكلما كانت الشاعر / القبيلة أقوى تجسيدا لهذه القيمة الرفيعة ،كانت صورته/صورتها اكثر إشعاعا خارج دائرتها الجغرافية المنعزلة . بل إن الشاعر قد يعرض نفسه للطرد من القبيلة كما هو حال الشعراء الصعاليك دون ان يضطره هذا المصير المأساوي إلى التفريط في قيمة الكرم . يقول عروة بن الورد :
أُقَسِّمُ جِسمي في جُسومٍ كَثيرَةٍ//وَأَحسو قَراحَ الماءِ ، وَالماءُ بارِدُ
2-الشعر الإسلامي، والهوية: من الحمولة الدينية الإيمانية إلى الحمولته الصوفية، الروحانية :
مع ان هذا المفهوم في صدر الإسلام سيغدو محكوما بحمولة دينية مرتبطة بقيمة الإيمان (المومنون / الكافرون) ، فإنه سيصبح أكثر انفتاحا ، واحتضانا لكل ما هو إنساني بالنظر إلى مركزية قيمة التسامح داخل الفكر الصوفي الذي دفع بقيمة المحبة ، واحترام الحق في الاختلاف إلى أبعد الحدود. وهذا ما جسدته أشعار المتصوفة ، وعلى رأسهم ابن عربي في أبياته الشهيرة :
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي // إذا لم يكن ديني إلى دينه دان
وقـد صـار قـلبي قابـلاً كل صورة // فــمـرعـى لـغــزلان وديـر لــرهــبـان
3-الشعر العباسي : الهوية العروبية في مواجهة الشعوبية :
سيشهد العصر العباسي ارتجاجا فادحا في مفهوم الهوية بسبب صعود المد الشعوبي الذي تزعمه كل من بشار بن برد ، وابو نواس ، ومهيار الديلمي …وكان الهدف البعيد من هذه الحركة المعادية لكل ما يعبر عن خصوصية الهوية العربية، وشموخها هو تقويض البناء الهوياتي للعرب بدعوى أنه ماكان لهم أن يظفروا بنعمة التحرر من خشونة البداوة لولا احتكاكهم بأجناس سبقتهم إلى الحضارة ، وفي مقدمتها الفرس. بيد أن ساحة الصراع لم تكن خاضعة لسيطرة الشعراء الفرس إذ كانت مساحة كبيرة منها تضج بأصوات شعراء أفذاذ إليهم يرجع الفضل في تمنيع الهوية العربية من المسخ ، والسقوط ، وفي مقدمتهم المتنبي ، وأبو تمام . فقد كانت أشعارهما في وصف الانتصارات العربية، وفي تمجيد البطولات الملحمية لقادتها من أبلغ الرسائل الفنية لرد التهم المغرضة التي تستهدف الهوية العربية .ومن منا من لا يحفظ عن ظهر قلب مطلع قصيدة المتنبي الذي يقول :
أتوك يجرّون الحديد كأنما // سروا بجياد مالهن قوائم
او مطلع قصيدة أبي تمام الذي يقول :
السيف أصدق إنباء من الكتب // في حده الحدّ بين الجدّ ، واللعب .
4-الشعر الحديث ،من الهوية الثقافية إلى الهوية المثقفة :
في العصر الحديث، لاسيما في ظل انبثاق ثنائية شرق/غرب ، وانتعاش عملية المثاقفة ، والانفتاح على منجزات الحداثة الغربية في الفكر ، والسياسة ، والأدب …، والتأثر بمكاسب الفكر الليبرالي ، وظهور النقد الثقافي / مابعد الكولونيالي الذي لفت الانتباه إلى الهوية كمبحث معرفي قائم الذات …في ظل هذه العوامل المستجدة ، وغيرها ستبدأ رحلة الشعر العربي الحديث في اختراق مناطق كانت مهملة في جغرافيا الهوية ، واستغوار امتداداتها الواقعية ، والرمزية على مستوى الذات ، والجماعة ، والعالم . لم تعد الهوية مفهوما محتشما، ومتكتما كما هو الحال في التجارب الشعرية السابقة ، بل صارت أكثر جنوحا إلى التعبير عن نفسها داخل قصدية ظاهرة بفضل ما سيعرفه الشعر العربي من تنام للأفكار التحررية، وتلاقح مثمر مع ثقافات مغايرة –
وهذا ماتبلور ،مضمونيا ، وشكليا ، على ايدي شعراء الرومانسية ،وفي مقدمتهم شعراء المهجر الشمالي في أول الأمر – واغتناء مستمر بتقنيات الأجناس الأخرى من حيث البناء ، وأدوات التعبير ، والرؤية ، واسترفاده بلعبة الأقنعة المتمثلة في الرموز ، والأيقونات ، والأساطير ، واستثمار الطاقة الفنية لتقنية التناص دون أن نغفل مساحة الحرية التي باتت أكثر رحابة بعد ان تحرر الشعر العربي من قداسة الذاكرة الشعرية التقليدية، ومما كانت تنوء به من أغلال ثقيلة ، وكوابح مرهقة للمبدع التواق إلى التجاوز ،والتميز، والفرادة.
في ضوء هذا التحول الكبير ذي المظاهر المتنوعة ، ستعرف علاقة الشعر بالهوية في سياقنا العربي الحديث تطورا ملحوظا تجلى في ما سيطبع الخارطة الشعرية من تنويعات تيماتيكية ، أملت على الشعراء الحداثيين التفكير في صوغ متخيلات ذات أبعاد هوياتية ، وإيجاد إمكانات جمالية قادرة على التقاط مافي هذه الأبعاد الهوياتية من ذبذبات تتصادى مع الصوت الكوني المرتحل بين الآفاق دون اشتراطات عرقية ، وإيديولوجية . داخل هذا النسق المتحول ، والخصيب لمفهوم الهوية ، ومابات يحكمه من رؤى أدبية واعية بأدواتها ، وغاياتها سنفهم لماذا سيبادر عدد كبير من الشعراء إلى تطويع القصيدة من أجل التعبير عن تمثلاتهم لمفهوم الهوية ، وما تضمره مغامرة عبور الذات الشاعرة نحو الآخر من رهانات فكرية ، وجمالية .
4/1 – الشعر،والهوية: الفيتوري والزنوجة المشتعلة:
اخترت لهذه التيمة شاعرا سودانيا كرس وقتا، وجهدا ليسا باليسيرين للانحياز – إبداعيا – إلى القارة الأفريقية وهي تقاوم جشع الرجل الابيض، وتتمرد على كبريائه ، وتسلطه ، وقسوته المفرطة نحو ضحية لاذنب لها سوى انها تحمل لونا أسود، وقلبا خاليا من الأحقاد . وهذا ماعبرت عنه بكل إخلاص هوياتي عميق ، وروح ثورية صاخبة الدواوين الأربعة التالية: أغاني أفريقيا 1955/عاشق من أفريقيا1964/اذكريني يا أفريقيا 1965/أحزان أفريقيا 1969.
تشكل التجربة الشعرية للفيتوري في شقها الزنوجي ظاهرة غير مسبوقة في الشعر العربي برمته ليس لأنها اهتمت بمعالجة تيمة إنسانية جديدة تنتصر لكرامة قارة بكاملها ، أو لأنها قدمت الجرح الأفريقي في صورة شعرية جريئة،وثورية متحررة من سلطة النموذج التراثي فحسب ،بل لأنها صاغت هذا الاهتمام في قالب يمتزج فيه الواقعي ، بالرومانسي ، وتتخلله نفحات ميتافزيقية ذات شحنة روحانية (صوفية)أيضا . وهي صوفية غير انهزامية كما قد يتوهم البعض إذ يوضّح الشاعر نفسه هذه النقطة الملتبسة قائلا :” إن صوفية الشاعر، أو شاعرية الصوفي الذي أتكلم عنه موقف إنساني إيجابي ،واع ومدرك ، وليس موقف الدرويش المنجذب إلى مجموعة من الأفكار المشوشة ،والأحاسيس التجريدية العمياء .إنه الصوفي الثوري ،وليس أبدا ذلك الصوفي التقليدي المتهالك المهزوم “(¹)
يقول الفيتوري مشيدا بهذه الإرادة القوية للروح الزنجية المصرة على استرداد هويتها المستعبدة في قصيدة “أنا زنجي”
الفجر يدك جدار الظلمه..
فاسمع ألحان النصر ..
هاهي ذي الظلمة تدّاعى ..
تسّاقط ..تهوي في ذعر
ها هو ذا شعبي ينهض من إغماءته ..
عاري الصدر ..
هاهو ذا الطوفان الأسود..
يعدو عبر السد الصخريّ..
هاهي ذي افريقيا الكبرى ..
تتألق في الفجر .(²)
4/2 محمود درويش، من الهوية الممانعة إلى الهوية التفاوضية:
ما من أحد من قراء الشعر الحديث ، والمنتصرين للقضية الفلسطينية ينكر أن أيقونة شعر المقاومة الفلسطينية بامتياز هو محمود درويش ، وأن رحلته مع الشعر ،و مع القضية كانت مسكونة بالأسئلة القلقة حول رهانات هوية شعب لم يكن وحده ، ولا عدوّه بالطرفين الوحيدين المتحكمين في خيوط الصراع حتى يكون بمقدورهما التوصل إلى حل وسط يرضي الطرفين معا . طبقا لهذا المنظور الواقعي ،والمتناغم مع سياق تطور القضية الفلسطينية ، وما تستدعيه من آليات جديدة ،ومنطقية لإخراجها من النفق المسدود ، ومن اجل الحسم في الموقف الوحدوي العربي ،والإسلامي المتذبذب إزاءها ، سيشيد الشاعر رؤياه الشعرية بطرح أكثر مرونة ، وانسيابية لسؤال الهوية الفلسطينية اقتناعا منه بأن القضاء الكلي على العدو، أو دحره مجرد أضغاث أحلام . هكذا يقرأ محمود درويش الحالة الفلسطينية من زاوية ارتباط الهوية /المصير الفلسطيني بموازين القوى التي باتت تحتم استحضار الفلسطيني للآخر/العدو بوصفه قدرا لا مناص منه ..بالتالي ، يمسي تقاسم الهوية مع العدو أمرا لامعدى عنه للخروج من دائرة السيناريوت الطوباوية التي تؤجل الحل الواقعي إلى أجل غير مسمى .
قصيدة “سيناريو جاهز” تعكس بدرجة عالية هذا الإبدال الفكري في رسم الهوية الفلسطينية حيث يتخيل الشاعر نفسه رفقة عدوه في حالة سقوط من السماء تنتهي بهما إلى الوقوع في حفرة، وهناك يدور بينهما حوار شفاف حول الطريقة الأنسب لمغادرة الحفرة معا بعدما بات مصيرهما مشتركا .
لنفترضِ الآن أَنَّا سقطنا،
أَنا والعَدُوُّ،
سقطنا من الجوِّ
في حُفْرة …
فماذا سيحدثُ ؟
سيناريو جاهزٌ :
في البداية ننتظرُ الحظَّ …
قد يعثُرُ المنقذونَ علينا هنا
ويمدّونَ حَبْلَ النجاة لنا
فيقول : أَنا أَوَّلاً
وأَقول : أَنا أَوَّلاً
وَيشْتُمني ثم أَشتمُهُ
دون جدوى،
فلم يصل الحَبْلُ بعد …
يقول السيناريو :
سأهمس في السرّ:
تلك تُسَمَّي أَنانيَّةَ المتفائل
دون التساؤل عمَّا يقول عَدُوِّي
أَنا وَهُوَ،
شريكان في شَرَك واحد
وشريكان في لعبة الاحتمالات
ننتظر الحبلَ … حَبْلَ النجاة
لنمضي على حِدَة
وعلى حافة الحفرة – الهاوية
إلي ما تبقَّى لنا من حياة
وحرب…
إذا ما استطعنا النجاة !
أَنا وَهُوَ،
خائفان معاً
ولا نتبادل أَيَّ حديث
عن الخوف … أَو غيرِهِ
فنحن عَدُوَّانِ …
ماذا سيحدث لو أَنَّ أَفعى
أطلَّتْ علينا هنا
من مشاهد هذا السيناريو
وفَحَّتْ لتبتلع الخائِفَيْن معاً
أَنا وَهُوَ ؟
يقول السيناريو :
أَنا وَهُوَ
سنكون شريكين في قتل أَفعى
لننجو معاً
أَو على حِدَة …
ولكننا لن نقول عبارة شُكْر ،وتهنئة
على ما فعلنا معاً
لأنَّ الغريزةَ ، لا نحن،
كانت تدافع عن نفسها وَحْدَها
والغريزة ليست لها أَيديولوجيا …
ولم نتحاورْ،
تذكَّرْتُ فِقْهَ الحوارات
في العَبَث المُشْتَرَكْ
عندما قال لي سابقاً :
كُلُّ ما صار لي هو لي
وما هو لك
هو لي
ولك!
ومع الوقت ، والوقتُ رَمْلٌ ورغوة صابونة
كسر الصمتَ ما بيننا والمللْ
قال لي : ما العملْ؟
قلت : لا شيء … نستنزف الاحتمالات
قال : من أَين يأتي الأملْ ؟
قلت : يأتي من الجوّ
قال : أَلم تَنْسَ أَني دَفَنْتُكَ في حفرة
مثل هذى ؟
فقلت له : كِدْت أَنسى لأنَّ غداً خُلّباً
شدَّني من يدي … ومضى متعباً
قال لي : هل تُفَاوضني الآن ؟
قلت : على أَيّ شيء تفاوضني الآن
في هذه الحفرةِ القبر ؟
قال : على حصَّتي وعلى حصّتك
من سُدَانا ومن قبرنا المشتركْ
قلت : ما الفائدة ؟
هرب الوقتُ منّا
وشذّ المصيرُ عن القاعده
ههنا قاتلٌ وقتيل ينامان في حفرة واحده
.. وعلي شاعر آخر أن يتابع هذا السيناريو
إلى آخره(³)*
يتبين لنا أن النص ينبه إلى أن شهوة القتل تقتل إنسانية القاتل ، وتهدد وجوده -أيضاً – قبل وجود غيره ، وأن الحرب على الآخر الذي نعتقد ان استمرارنا في البقاء رهين بزواله ما هو إلا سقوط جنوني في كمين الهويات القاتلة بتعبير “أمين معلوف” . لا مفر من الاستجابة لنداء هوية مشتركة قد تكون ضد أحلامنا البعيدة ، لكنها تظل شرطا حتميا لتفادي خسارات مشتركة لا نملك حدس الأنبياء لمعرفة حجمها الكارثي بالنسبة الى الجميع .
5- جدلية الهوية ، والشعر داخل السياق المغربي :
الحديث عن جدلية الشعر ، والهوية في السياق الشعري المغربي له نكهته الخاصة ، ووقعه الوجداني المدفوع بتموجات تخييلية موغلة في حميمية الاستذكار ، وغرائبية الحلم ، وفخاخ الأسطورة . وهو أيضا سفر في الزمن ينتشي عبره الجسد كبريائه ، وانفلاته من خطاطات جاهزة تخنق انفاسه التواقة إلى لحظة صفاء مترامية الأمداء ..صفاء صاخب تتعانق داخله أناشيد النوستالجيا ، ومايات التجذر في الحاضر ، ونداءات الأفق الواعدة بعودة النافورات إلى منابعها النقية ،المنسية، والسخية .
5-1:عبد الرحيم الخصار، الكتابة الشعرية بوصفها ملاذا من قسوة اليتم الهوياتي.
يشكل الارتداد الى الهوية التي كاد يطويها مكر الزمن ، وغواية الجغرافيا لدى عبد الرحيم الخصار إحدى الاستراتيجيات الإبداعية لاستعادة ، وإعادة صوغ الهوية كسلاح لمقاومة الضياع ، واليتم ، والفقدان ، والمحو .وهو مالا نجد صعوبة في القبض عليه حين نرجع إلى ديوان “أنظر ،وأكتفي بالنظر ” الذي تعكس قصيدة ” الأمازيغي” ضمنه مايمكن أن نعبر عنه بلعبة ترميم الهوية في مواجهة اليتم الوجودي .
يقول الخصار بنبرة تخترقها المرارة، وتختبئ وراءها نرجسية جريحة يتلبس فيها زهو الماضي المجيد بمهانة الحاضر الناصل :
أنا حفيد الملك الأمازيغي القديم
لا كتاب يذكر شيئا مما أنتظر
كل الكتب تروي –دائما- عكس الحكاية
غير أني حين أنظر الى وجه جدتي
كأنما أنظر إلى وجه امرأة من الهنود الحمر
قالت لي في ما مضى : انت حفيد الجبال
فاتجهت إلى الجنوب كما يتجه أركيولوجي إلى صحراء بلا خريطه (4)
إن الإصرار على العودة إلى الهوية البعيدة في مكونها الأمازيغي لاينغلق داخل شرنقة نوستالجية عند الخصار . إنه فعل محيّن لتجذير الذات في الراهن ، وتمجيد قطاعها النرجسي الشامخ شموخ الجبال ، والعميق عمق الجنوب الصحراوي ، رغم أن الصحراء التي يتجه إليها الشاعر لمعانقة ذاته المنسية لا خريطة لها ،أي أنها هوية ضبابية ، دون أن يعني ذلك أنها عصية على المطاردة ، والقبض.
5-2: فتح الله بوعزة : الهوية بوصفها تعاقدا افتراضيا لتبادل الأدوار
في ما يشبه قصيدة “سينايو جاهز” لمحمود درويش حيث الهوية مشروع مفتوح على الحوار ، والتفاوض ، والتراضي المنصف للطرفين ، يقدم لنا الشاعر فتح الله بوعزة من خلال ديوانه “أصابع آدم” ، وتحديدا في قصيدة “يغزل الماء في صبر بارد ” منظورا مرنا ، وافتراضيا للهوية يدعو من خلاله الآخر الى القبول بمقترح لايتطلب الا تكريس بعض الوقت لتكسير شرنقة الذات المتورمة ..مقترح / ملتمس ينص على هدنة ، ولو مؤقتة، تغدو فيها فوهة القلب مفتوحة عن آخرها . أليس تبادل الأدوار من أقوى اللحظات الإنسانية درامية عندما يتعلق الامر بتمرين ذواتنا على احتضان هواجس الآخر بمعزل عن أكاذيب الواقع المقدسة ، وما تتدثر به من استعارات شائهة عن بعضنا البعض ؟ ألا يجو لنا أن نتخذ من تبادل الأدوار تمرينا ،ولو مؤقتا ، للانقلاب على خطاطاتنا المنزعجة من توجسات الانغمار في علاقات إنسانية تعبد الطريق نحوالعيش المشترك ؟
مع فاطمة الزهراء أمسكين في ديوانها الموسوم بعنوان “هكذا تكلمت ديهيا ” ، وهو عنوان مشبع برغبة مكينة في معانقة الهوية الأنثوية تختار الشاعرة من بهارات القصيدة ما يمنح هذه الهوية روحا ثورية / انقلابية دون أن تسقط في عنف المعنى ، أو تنساق مع نزوة تصفية حسابات وهمية تشكل الصورة المتوارثة عن المرأة أحد تمظهراتها البئيسة . تحت سماء التأمل الشارد بتعبير “باشلار”(6) ترسم لنا ف. الزهراء أمسكين صورة ممكنة لهوية تتخلق، وتنمو، وتتلألأ كلما تمادت في احتراف الغياب .
إن الغياب هنا يمرق من دائرته المعجمية المتداولة ليحوز دلالات أكثر توغلا في استثمار الطاقة الإيحائية لتجربة الحدود في الكتابة حيث لا يشكل الغياب إلا ضفة محاذية للفراغ . وإذا كان محمد بنيس قد اختار أن ينسب للفراغ هبّة في ديوانه “هبّة الفراغ “، فإننا مع ديوان “هكذا تكلمت ديهيا” سنتحدث عن هبة للفراغ ، ونحن نقصد بها ما يحبل به الفراغ من نعم الحرية ، والصمت، والعري ،والعزلة المورقة ، والبياض الخلاق .. في انتفاء الغياب سيفشل مشروع تشكيل هوية جديدة تنتعش بنسع القطيعة مع ماقبلها ، ولن يكون في وسعها أن تتطهر بماء خرافي ليس في حاجة إلى مجرى ، أو منحدر كي يتدفق ، ماء يفيض عن اللغة ، ويتجاوزها لأنه ينبع من ذاته ليصب فيها – بحركة أفعوانية – دون توقف .
تقول الشاعرة فاطمة الزهراء أمسكين في قصيدة “أمنيات قد تزهر بكف الحناء”
ابغيت …
أن أختار للجسد شكل امتداده
كي يتشظى في لانهائيات
المسافات
لأتجاوز حدود شكلي
وحدود الكلام ..
ابغيت…
أن أكون نسقا
بيني ،وبيني
لأختار بحجم قلبي
سماء
تستطيب كناياتي
كي ترتب كل الاستفهامات في اللايقين
حتى أبعث مدركا ،وغير مدرك (7)
5-4: الشعر، والهويّة والعصيان السيمولاكري :
يندرج تحت هذا العنوان زمرة من الشعراء لا يرون في شعرنة السؤال الهوياتي مايدعو إلى الجدية، أو يستلزم التضحية ببعض قطرات من دم القصيدة للانسياق مع تيمة مفخخة اسمها الهوية .ربما لأن الموضوع – في منظورهم المتمرد على مختلف ضروب السيمولاكر، والهابيتوس – لا يحمل من مظاهر الجدوى ،والمشروعية، وصفات الجاذبية ما يستحق الاهتمام .
يقول حسن بولهويشات في قصيدة “أشتري ذاكرة خيال ، وأسافر”
أمّا أنني أدّعي الكونية
والتضامن اللامشروط مع حقوق الإنسان ،
وحقوق الحيوان في قصائدي ،
فهذه مجرد شطارة لغويه،
أهشّ بها على خساراتي المتكرره (8)
الشاعر حسن بولهويشات يسعى في هذه الومضة الشعرية المشاكسة إلى تأكيد الهوية عبر نفيها . حالما أنه لايدعي الكونية في قصائده –كما يفعل البعض لمجاراة الموجة- فهو ينتصر لهوية هامشية مثقلة بالخسارات . هوية المكتوين بنار الفقدان ، المكبلين بلعنة واقع تتناسل فيه الهزائم باستمرار.
أما الشاعر محمد أعروش ، فإنه يفضل أن يسافر بنا على امتداد نصوص ديوانه “طويل هذا المنتصف” إلى أفضية الهامش ،واليومي ..قد تبدو طريقته في هذا الاختيار الجمالي مجرد كولاج لأجزاء صور مبثوثة في أرخبيل اليومي ، لكننا حين نضعها في سياقها الفضائي المحلي نكتشف أنها مأهولة بهواجس ذاتية ذات اتصال وثيق بمفهوم الهوية خارج التصور السائد عنه .
نشعر في نصوص هذا الديوان المهداة إلى المدينة التي تغفر له زلاته الكثيرة ،وهي خنيفرة أننا أمام رغبة جامحة في تشكيل هوية تتزامن داخلها حركية الذات في علاقتها الحميمة بالمكان : بأصواته ، وروائحه ،وأسراره، وتشظياته …هو تشكيل عفوي ، ومتحرر من فتنة المجازات العمياء .. مشاعر رمادية تطغى عليها ألوان الكآبة ، والتشاؤم ، إلا أنها يظل متوهجة بما يطرزه الشاعر من وشائج مدهشة بين ذاته ، وبين الشخوص ، والأشياء ، والفضاءات كما في قصيدته” العزلة “.
في هذه القصيدة تغادر العزلة عزلتها كي تتحول إلى ذات مصاحبة للشاعر ..الأمر الذي يجعل من العزلة طقسا من طقوس مواجهة الاغتراب ،واللامعنى .. اكثر من ذلك ، فإن فضاء المدينة يصطبغ بهوية انثوية تستوعب أنا الشاعر المتسكعة في عزلتها الصاخبة ..وكلما جنحت المدينة / الذاكرة / المرأة/ الوطن إلى الغياب ،وتمادت في الصمت تضاعفت أحاسيس مخاوف الشاعر من فقدان دفئها ، وأخذ روحها المثقلة بالأحلام المتعبة معه إلى مهرجان القصيدة الأبدي. هي مدينة الأخطاء كما يقر الشاعر بذلك (ص46) ، لكنه غير مستعد لهجرها ، أو نسيانها لكونها مفعمة بالأنوثة من جهة ، وأمينة أسراره الجريحة من جهة أخرى . ومن فرط عشقه إياها ، وحرصه على الامتلاء بروحها يخشى أن تتنكر له كما تنكر له الوطن .
يقول محمد أعروش في قصيدة “اصمتوا..إنها تكرهني بحبّ عظيم”
أيتها المقيمة في ذاكرة المدينه
مايزال عطرك الأطلسي يكنس الأحياء من غبار النسيان
وينثر عبيره في درب
يحتفظ بأسمائنا على الجدران
لم يتغير أي شيء
غير حضورك المسائي الذي أدمنته
صار الغياب لحنا مقيما فينا
……………….
هل تذكرين غربتنا ذات شتاء؟
أنا لا أذكر إلا ارتعاش الأصابع حين أكتب إليك
ما أجمل الذكرى حين ترتعش الذاكره
أيتها الغائبه..
أخشى أن يصير الغياب عاديا مثل الوطن
يسكننا ولانسكنه … (9)
على العموم ، فإن ملاحقة الجدلية الخلاقة بين الشعر ،وبين الهوية في الشعر العربي –الحديث بشكل خاص- تبين لنا أن هذه الجدلية كانتدوما حاضرة في لاوعي الشاعر ، ووعيه معا ، أي أن الهوية كانت موضوعا تخييليا في الشعر متأرجحا بين الإضمار ،وبين الإظهار طبقا للسياق الثقافي العام المحتضن لها . بل يمكننا أن نذهب بعيدا لنقول : مامن قول شعري موسوم بالفرادة ، والسمو إلا ويحمل معه هويته ،وهوية مبدعه ، وعصره . بيرنار نويل Bernard Noel يرى أن “الإبداع الشعري فعل فردي ،لكنه ليس فعلا منعزلا”(10)،مايعني أن الشاعر ليس بمقدوره أن يعيش عزلته كيفما كانت درجة تعلقه بهذه العزلة .
وكلما كانت مساحة الحرية في المجتمع الذي ينتمي إليه الشاعر واسعة ، ازدادت علاقة الشاعر بالهوية الجمعية وثوقا ، وحميمية . وهذا مايفسر خفوت الصوت الهوياتي في الشعر العربي خلال فترات معينة كان فيها صوت السيف ، والسوط أقوى من صوت انجراح الريشة ، وهمس الأنشودة ، وخفق جناحي الفراشة .
حتى في زمن العولمة ،والهويات العابرة للقارات حيث الوهم يسود بان دائرة الحرية تجاوزت كل الحدود بفعل انتفاء الحواجز الفيزيقية ، والأسلاك الشائكة، فإن الهوية الجديدة ليست بمنجاة من الشبهات . والشاعر أمام مثل هذه الوضعيات المبهمة لايملك إلا أن يتسلح بالكثير من الحدس اليقظ ، والذكاء الإبداعي العالي لتشييد هوية على مقاس نضجه الرؤيوي ، وشهامته البرومثيوسية ، ورهافته الأورفيوسية .هذا هو الرهان الشعري / الهوياتي الحكيم الذي يكشفه حسن بولهويشات عندما يقول :
محمد الفيتوري – حول تجربتي الشعرية /مقدمة الأعمال الشعرية للشاعر /المجلد الأول/الهيئة المصرية العامة للكتاب -1998-ص35
نفسه – ص87
3- محمود درويش – سينايو جاهز –htp //diwandb.com/poem .
*اضطررت إلى الاستشهاد بالنص الكامل لقصيدة “سيناريو جاهز ” لأن أي اقتطاع لسطر أو مقطع سيؤدي إلى تشويه المعنى الكلي ،لاسيما أن هذه القصيدة تتوفرعلى وحدة عضوية ، وموضوعية من جهة ، وتستثمر تقنية الحوار الأجناسي مع السرد ، والمسرح ، والسينما بكيفية ذكية من جهة أخرى
5- فتح الله بوعزة- أصابع آدم –منشورات ديهيا – بركان – ط1- 2014- ص30.
6- في كتابه الموسوم ” التحليل النفسي للنار ” يقترح كاستون باشلار تمييزا لطيفا بين الحلم(Rêve)، وبين الحلم التأملي( rêverie) . يقول باشلار : إن الحلم يشق طريقه بشكل خطي ، ناسيا طريقه وهو يعدو .أمّاالحلم التأملي فإنه يشتغل مثل نجمة . إنه يرتدّ إلى مركزه كي يرسل أشعة جديدة.
Gaston Bachelard – la psychanalyse du feu –Edition Gallimard -1992-Collection FOLIO/Essais- p24.
تعليقات
0