عبد الحميد جماهري
تعلمنا علوم البيولوجيا وقوانين الوراثة، قبل التحليل الجيوستراتيجي، أن “وقوع شيء لم يكن من المتوقع حدوثه يعني أن تحولاً كبيراً قد حدث”، وهو المبدأ الذي يفسّر جزءاً مهماً من التقارب السعودي الإيراني المفاجئ مفاجأة مزلزلة، مثل هزيم الرعد في سماء صحوة!
في محاولة الفهم، لا بد من الرجوع إلى الأساسيات، منها أنّ المبادرة هي الخطوة الأولى بعد إبرام الشراكة الاستراتيجية مع الصين الموقّعة من إيران في 2021، وجعلت الصين بمثابة خلفية للجوء الاستراتيجي بالنسبة لطهران. وعناصر التفاؤل ربما نجدها في المناخ الخليجي العام المتصالح مع الفكرة، والذي دشّنه التقارب الإماراتي الإيراني، بعد زيارة مستشار الأمن الوطني، طحنون بن زايد، طهران، في ديسمبر/ كانون الأول 2022.
بيد أنّ نجاح الصين في الوصول إلى مصالحة سعودية إيرانية، في عز التصعيد في المواجهة الغربية مع إيران، حقق لها موقع قدم استراتيجياً في الشرق الأوسط، باعتبار أنها أفلحت في ما لم تفلح فيه وحدة الخريطة الترابية (الخليج) والوحدة الروحية (الإسلام) والوحدة المصلحية (النفط والغاز).
والملاحظ كذلك أنّ هذا الفوز الصيني الذي يحوّل “إمبراطورية الوسط” إلى فاعل قوي في المنطقة الأكثر التهاباً في الكوكب، يأتي في سياق ما أفرزته الحرب الروسية الأوكرانية من تقلبات جيوسياسية في العالم برمته.
كما أنه يدخل في نطاق حدوث تغيرات محايثة للحرب، جعلت دولاً كان كل شيء يدفعها إلى الدخول في حالة نزاع قوي، تقترب بعضها من بعض. من ذلك ما هو مثير مثل الحدث المعلن عنه في البيان الثلاثي الصيني السعودي الإيراني، علاوة على ما تابعناه من تقارب تركي إماراتي مصري سعودي، باعتبار أنقرة فاعلاً إقليمياً مركزياً زادت هالة تأثيره، ونجح في وساطاتٍ لم تستطعها دول أخرى، بشأن الغاز والقمح في غضون الحرب الجارية في أوكرانيا.
وكان أحد تعبيرات النزاع الصراع المسلح بواسطة المنظمات التابعة لهذه العاصمة أو تلك، في ليبيا وفي اليمن وفي سورية وفي لبنان… إلخ.
ومن بين كلّ النزاعات والصراعات، بقيت الحرب اليمنية ساحة الحرب المفتوحة بين الطرفين، والوحيدة التي لم تفقد الكثير من شراستها ورهاناتها، عكس ما يجرى في ليبيا كما في سورية، إذ اتضح أنّ الهدير الكبير للحرب الأوكرانية الروسية قد طغى على أصوات المدافع في الجبهتين العربيتين.
ومن باب الواقعية السياسية، لا يمكن تصوّر انقلاب جذري وراديكالي في الوضع، يجعل السلام يعمّ كلّ خريطة التنافس، ومن هنا يكون السؤال: هل نرى في الاتفاق حلاً من نوع الحلول السياسية القادرة على الاستمرار؟ أي أنّ الراهن يطغى على الاستراتيجي، بحيث يكون التوقيع إعلان هدنة رسمية وتخفيف حظوظ الحرب على إنهاء التنافس الممكن بين الرياض وطهران؟ تصعب المغامرة بالإجابة الإيجابية عن السؤال، لتعقد المعادلة وتعدّد قواعد التشابك بين البلدين.
ومن تعقد قواعد التشابك الخارجية، حصلت قناعاتٌ لدى العواصم المعنية بأنّ لا أحد يمكنه أن يكون المؤثر الوحيد، بل بالأحرى الفاعل الإقليمي الوحيد الذي يمكنه أن يحقّق الاستقرار الذي تطمح إليه المنطقة… علاوة على حصول القناعة ثانية بـ “توقيف الديناميات غير المنتجة التي أفرزت الصراع (قبل إيران، كانت هناك تركيا وقطر)” وبأنّ “التفاعل مع الغرب، ولا سيما واشنطن، لا يمكن أن يكون المبتدأ والخبر” في العلاقات الدولية وتداعياتها الإقليمية (انظر التقرير الصادر عن معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية، ومديره باسكال بونيفاس، سنة 2023).
ومما يزيد في استثنائية الحدث أن الوضع الداخلي في إيران لم يكن يبشّر به، بعد انتصار المحافظ إبراهيم رئيسي، بل كانت التوقعات أنّ النزاع سيزداد حدة. وعليه، بدا أن التعبير الذي ينسب إلى هيغل في أنّ “التاريخ قد يتطوّر من أسوأ جانب فيه” يصلح للوصف الاستراتيجي هنا. ولعلّ رقم معامل النفط موجود كمصلحة في تفسير بعض من التقارب، لكنه أيضاً موجود كدليل سياسي علي الابتعاد عن المقاربة الأميركية والغربية في تدبير ظروف الإنتاج والتسويق في زمن الحرب. وبالنسبة للدول في غرب العالم الإسلامي يُطرح سؤال أكثر تدقيقاً: هل سيكون للاتفاق ما بعده، ويمكن انتظار تداعياته السلمية على مناطق التنافس، في شرق أفريقيا وغربها وشمالها، وفي غيرها من المناطق التي تشكل خريطة السياسة في العالم اليوم، والتي تَعْني الدول العربية بالأساس؟
تعليقات
0