إسماعيل هواري وهَمُّ تحديث المجتمع: السينما والتربية والبحث في الجماليات

أحمد بيضي الخميس 20 أبريل 2023 - 02:08 l عدد الزيارات : 27481
  • خالد العياشي (°)

تعد السينما، أحد أعقد المواضيع وأخطرها، فلما أطلق الناقد السينمائي الإيطالي ريتشيوتو كانودو على السينما لقب الفن السابع1، كتعبير إنساني شأنه شأن باقي الفنون؛ العمارة، الموسيقى، الرسم، النحت، الشعر، الرقص، لم يعتقد يوما أن تتحول لأداة تحكم لجبروت، فلا مجال لذرة شك في كونها رافدا مهما من روافد السلطة الرابعة، بل ذهب البعض لاعتبارها سلطة خامسة2، وفي رسالة مارلون براندو خلال حفل الأوسكار عام 1973 كأفضل ممثل عن فيلم العراب الجزء الأول عن شخصية فيتولو، وموقفه الشهير من رفض الجائزة، ما يجعلنا نتأنى ونتريث أمام أي حكم عن السينما. فلا يجب أن ننسى أنها دخلت المغرب وهي تصور جثث آبائنا وأجدادنا، لذا فالسينما ليست موضوعا متاحا للكل.

إن أهمية كتاب “خطاب السينما المغربية وتخوم التربية: بحث في الجماليات” تكمن في كون إسماعيل هواري حاول استمالة السينما، ليس لرفع اللبس ومصالحتها مع قضايانا وهويتنا، بل لنقلها لمجال حيوي وحساس، للتربية وعلومها. فبحكم أن إسماعيل رجل تعليم، وكونه مولعا بالسينما، المسرح، سيجد نفسه متسائلا عن موقفه من السينما والتربية، قبل أن تنص عليه الإصلاحات التعليمية الجديدة “المذكرات الوزارية، الميثاق الوطني للتربية والتكوين، الرؤية الإستراتيجية…”..

بل إن واقع الحال سيسائل إسماعيل، عن نوع الإضافة التي سيقدمها رجل تعليم للحقل التربوي، فكم عدد المشتغلين بالحقل التعليمي لا يتجاوزون في مطالعتهم غير المقرر التربوي، إن لم يكن أقل، فبحسب تقرير البحث العلمي والتكنولوجي بالمغرب لسنة 2022، فإن الإنتاج العلمي بالجامعة المغربية ضعيف لأقصى حد، حيث لا يتعدى نصف مقال لكل أستاذ سنويا، أي أن هناك عدد كبير من الأساتذة لا ينشرون شيئا، ولا يقرؤون إلا قليلا3.

إسماعيل لم يكتف بالكتابة، بل له إسهامات أخرى في مجالات متعددة، في المسرح، في المعلوميات وكتابات نقدية في السينما، وعديد الجوائز الوطنية في مجال التربية والتكوين.

أما النقطة الثانية في مسألة أهمية الكتاب، أنه جاء بعد أزمة كوفيد 19، وهو معطى مهم، لأننا عشنا أجواء الجائحة، ونعلم كيف أثرت على الدراسة، كأن الأستاذ إسماعيل يتساءل، أي تعليم بديل سنقدمه لأبنائنا إذا ما ضربتنا أزمة ما، كأزمة كجائحة كورونا؟ ألا يمكن اعتماد السينما التربوية، خصوصا أن تجربة الأفلام والمسلسلات التربوية ناجحة؟..

يحتوي كتاب خطاب السينما المغربية وتخوم التربية: بحث في الجماليات، بين دفتيه، 142 صفحة، عن دار بصمة لصناعة الكتاب، استهلها إسماعيل بالإهداء، ثم كلمة الأستاذ والناقد محمد العمراني، وبعد التقديم، نجد إسماعيل يقف معنا في الفصل الأول على مجموعة من المفاهيم التي تنتهي عند الصفحة 38، في الجماليات، معنى الخطاب، حول التربية، الخطاب التربوي، السينما المغربية، …، أفاض فيها إسماعيل واستفاض، مما يعكس رصانة وغزارة المعلومة التي تغزو مادته المعرفية..

والواضح أن الرجل خزان معرفة، وباحث معلومات متمرس. وفي الفصل الثاني نجد السينما والتربية العلاقات الممكنة، تمحورت حول موضوعين رئيسيين، الرهانات التربوية المرجوة من السينما، بشكل عام، صاغ فيها إشكالات السينما والمجتمع، والقيم، والهوية، ثم الرهانات التربوية الخاصة، مركزا على الأثر النفسي، والاجتماعي والمعرفي للسينما على الطفل. أما الفصل الثالث السينما والتربية بالمغرب: الكائن والممكن، فتطرق إلى كيف تناولت السينما المدرسة المغربية، نساء ورجال التعليم، ثم الأطر القانونية والمرجعية المنظمة للسينما والتربية المغربية، وفي الفصل الرابع جماليات الخطاب في السينما المغربية: قراءة في فيلم “ماجد”.

السينما والتربية:

تشكل السينما والتربية، نقاشا تربويا حادا داخل كل مجتمع، بحكم الموقع الذي تحتله السينما، وقوتها التأثيرية؛ صنع بشر، تجسِّد أفعالا بشرية، والبشر من يشاهدها، فأموس فوجل يقول في كتابه “السينما التدميرية”:

“مهما تعددت التحليلات فإن الصورة تظل قوية وفعالة، وليس بمقدور المرء أن يصدها أو يصرف نظره عنها، لأن المرء لا يستطيع مقاومة جاذبية الحركة… والتغيرات المروعة التي يسببها المونتاج…”4 

فليس من قبيل الصدف أن نجد السينما وما يحوم حولها من الوسائل السمعية البصرية عصى الحكومات، السحرية، التي تستثيرها عند الحاجة.

خلال حديث إسماعيل هواري، عن مسألة تحديث المجتمع، داخل الفصل الثاني السينما والتربية: العلاقات الممكنة، وهي مسألة مؤرقة، أورد عدة نقاط مدعمة بحجج:

فالسينما تشتغل على الفرد لأنه العينة الحيَّة للمجتمع، فأي سلوك يغرس فيه تتفرع أغصانه داخل المجتمع.

السينما بإمكانها التأثير على سلوك الفرد والجماهير، فالقرن العشرين غني بالتجارب، تجارب الثورات، والصراع الإيديولوجي بين المعسكرين الشرقي والغربي، ونقله لمستوى التفكير.

انفتاح السينما على الثقافات العالمية، تنتقل عبرها ثقافة مجتمع لمجتمع آخر.

تشتغل السينما عبر النظرة العلمية؛ العلم والبحث والاكتشاف العلمي.

السينما نفسها ما لم تسع لتحديث نفسها فهي دون شك صناعة نكوصية.

في كتاب السينما وعلم النفس علاقة لا تنتهي، تحدث الكاتب سكيب دان يونغ، بكلية هانوفر، إنديانا، بالولايات المتحدة الأمريكية، أن الكثير من علماء النفس، تنبهوا منذ عشرينيات القرن الماضي إلى التأثير الذي ستمارسه السينما على حياة الناس، وفي الستينيات، ازدادت وتنوعت الدراسات والبحوث العلمية، الأكاديمية، والكتب، والمجلات، أورد أن التأثير يأتي على ثلاث نقاط رئيسية تتفرع بدورها لجزئيات، وهذه النقاط هي:

تأثيرات على السلوك، بما يسمى ب”الإغواء الشعوري”؛ جميعنا ينكر أن الفيلم يؤثر علينا لكن الدراسات والبحوث تؤكد أن عملية التأثر حصلت بالفعل.

التأثير على الأفكار والمشاعر؛ بقدر ما يتم التركيز على السلوكيات الظاهرة، بالقدر نفسه يتم التأثير على الأفكار والمشاعر، التي تشكل أساس السلوك الظاهري، فهذا ما يخبرنا به علم السلوك المعرفي.

الدعاية والتأثير على الثقافة، فالدعاية صممت لتجعل عددا من الناس يفكرون بنفس الطريقة، فجميع الأفلام دون استثناء دعائية، والتأثير هنا لا يكمن في سلوكاتنا وعادتنا، بل لا يمنحنها إلا طريقا واحدا لفهم العالم5.

في نفس الكتاب، يقول الكاتب: في 20 أبريل سنة 1999، قام إريك هاريس وديلان كليبولد بإطلاق النار بطريقة هستيرية في مدرسة كولمبين الثانوية في مدينة ليتلتون، مما أسفر عن مقتل 13 شخصا وإصابة 21 آخرين بجراح6…  

ما أثار انتباه الكاتب هنا ليست عملية القتل الجنونية، بل لباس الشابين، حيث كان لهما لباس محدد؛ معطف مطري أسود طويل، يشبه إلى حد كبير ذلك الذي كان لدى “كيانو ريفرز” يرتديها في فيلم “الماتريكس”، وهو أيضا نفس المعطف الذي كان يرتديه “دي كابريو” في فيلم “باسكيتبال ديارياز”، حيث نجد في الفيلمين إطلاق نار غير طبيعي، وعدم وجود أي اهتمام بالضحايا، خاصة فيلم “باسكيتبال ديارياز” الذي تشبه طريقة القتل فيه تلك التي استخدمها الشابين إريك وديلان.

وكتب إريك في مذكراته: سنرتدي اللون الأسود كاملا، سنرتدي معطفا وسروالا أسودين، سيحاكي الأمر أعمال شغب لوس أنجلس، وتفجيرات أوكلاهوما، والحرب العالمية الثانية، وحرب الفيتنام. 

يقول مدير المدرسة فرانك دي انجلس خلال تصريح له لبرنامج التقرير النهائي لقناة ناشيونال جيوغرافيك7: كانا تلميذين نجيبين، كان بارعين في الحاسوب، يتقنان ألعاب الفيديو، وكانا في صف إنتاج الأفلام. وقد تساءل الكاتب دان يونغ: هل الأفلام من دفع الشابين لارتكاب تلك الجريمة؟ أم أن العنف هو انعكاس للثقافة السائدة في المجتمع، بالتالي لا تعد السينما إلا ناقلة لما هو قائم؟ يجيب وكله يقين، على أن الشابين كانا تحت تأثير الفيلمين بشكل مبالغ، فالإدراك، الاستيعاب، التفسير، وهي الوسائل العقلية التي تؤثر بها الأفلام على الناس، وتجعلهم يعيشون ويغرقون داخل الفيلم، ولا يستيقظون. 

عقب مذبحة كولمبين أثيرت جدالات ونقاشات واسعة داخل أمريكا، وكانت التساؤلات التي تعلوا السطح: ما الذي يعرفه الآباء عن أبنائهم؟ لماذا سيلجأ تلميذان في سن المراهقة، للتفكير في ارتكاب الجريمة؟ ما الحياة التي سيعيشها التلاميذ الذين نجوا من الموت؟ وعن أي دور للأفلام وألعاب الفيديو والانترنيت، داخل المجتمع؟

كتداعيات للحادث الأليم، اهتدى المكتب الفيديرالي الأمريكي لتخصيص ثلاثة مليارات دولار، لتطوير برامج حماية المدارس الأمريكية، الصرامة والتعاطي بجدية كل مدارس أمريكا مع العنف والشغب، وعدم السماح للتلاميذ بحمل السلاح تحت أي نوع كان، تحسين الشرطة للاستجابة للأزمات، المؤسف أنه تحولت كلمة كولمبين داخل مخيال الشعب الأمريكي مرادفة للعنف المدرسي.

إن تأثير السينما والسعي نحو تحديث المجتمع، قد يكون فراشة تحرك حراشفها، أو موجة تعم الجميع، فمع نهاية الحرب العالمية الثانية، أطلقت اليابان برنامجا ضخما لمواجهة العالم، فبعد أن ذاق الآسيويون الويل من جرائمها اللا إنسانية، خلال الحرب العالمية الثانية، التي فاقت ما قام به أدولف هتلير في أوربا؛ لم تكتفي باحتلال أراضي الصين، الكوريتين، هونج كونج، ميانيمار، فيتنام، تايلاند، الفلبين، ماليزيا، سانغافورة، أندونيسيا، نصف قارة آسيا كان يقع تحت سيطرتها، بل قتلت 36 مليون صيني، مليونين فيتنامي، وأربعة ملايين أندونيسي، مستخدمة كل أنواع القتل المحرمة أخلاقيا..

الساموراي كانوا يتنافسون بينهم في من يقتل أكثر، فجروا البشر، قطعوا أجهزتهم التناسلية، أخضعوهم لتجارب كيماوية، في قضية تعرف بعمليات الوحدة 731، ما قامت به اليابان خلال الحرب العالمية الثانية لا يتصور8. لكنهم استغلوا تراثهم الضخم، الغني، وثقافتهم المتنوعة، واتجهوا لمصالحة العالم عبر قصص المانغا وأفلام الأنيم، وأفلام فنون القتال، اليابان قدمت نموذجا للطريقة الأمثل للتعامل مع السينما، للمصالحة مع العالم.    

في المغرب ومنذ بداية العهد الجديد للملك محمد السادس، وقع تصالح مع التاريخ المعاصر، تحديدا ما عرف باسم “سنوات الجمر والرصاص”، فظهرت الكثير من الأفلام التي تناولت الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، خلال تلك السنوات، كنوع من المصالحة، أنتج أغلبها مع بداية الألفية الثالثة أي منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش، وبخاصة بعد أن وقع ظهيرا بإنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2004، نتحدث عن فيلم “علي، ربيعة والآخرون”، من إخراج أحمد بولان سنة 2000، “جوهرة بيت الحبس” للمخرج سعد الشرايبي أنتج سنة 2003،  “الغرفة السوداء” أو “درب مولاي علي الشريف” لحسن بنجلون، أنتج سنة 2004، فيلم “ذاكرة معتقلة” للجيلالي فرحاني أنتج سنة 2004، فيلم “زمن الرفاق” من إخراج محمد الشريف سنة 2007.

إن كتاب إسماعيل هواري، “خطاب السينما المغربية وتخوم التربية، بحث في الجماليات”، وإن كان في الحجم المتوسط إلا أن غناه لا يحد، فكل عنوان، لفقرة أو فصل، يتطلب بحثا مطولا، فالظرفية التاريخية تحتم علينا؛ الصورة تغزونا من كل مكان، والأزمات تطل علينا من كل صوب، لذا كان من اللازم سماع صوت إسماعيل هواري.

(°) قاص وناقد من أعماله مجموعة “حديث الدكان 145”

الهوامش:

1- الفن السابع  Septieme art اسم للفن السينمائي، وكان أول من أطلقه عليه هو الناقد الفرنسي (الإيطالي الأصل) ريتشيوتو كانودو Riciotto Camud . معجم المصطلحات السينمائية، ماري-تيريز جورنو، أستاذة في جامعة باريس/ السوربون الجديدة.

2- السلطة الخامس The Fifth Estate ‏عنوان فيلم أمريكي-بريطاني 2013 من بطولة بنديكت كومبرباتش كتاب سلطة السينما السينما السلطة، نوار جلاحج.

3- تقرير البحث العلمي والتكنولوجي بالمغرب سنة 2022.

 4 – أموس فوجل يقول في كتابه “السينما التدميرية” ترجمة أمين صالح ص 12  

5 – كتاب السينما وعلم النفس علاقة لا تنتهي، تحدث الكاتب سكيب دان يونغ، ترجمة سامي فرج مراجعة إيمان عبد الغني نجم

6 – نفس الكتاب، الفصل الثامن الصفحة 161

7 – برنامج التقرير النهائي لقناة ناشيونال جيوغرافيك، 14 يونيو 2012.

 8– مقال جرائم العدوان الياباني على الصين البروفيسور جين شي ده، الأستاذ بمعهد الدراسات اليابانية بالأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، موقع الصين اليوم. 8  غشت/ آب 2005

 9– قصة استعباد الجيش الياباني للكوريات للترفيه عن جنوده على موقع بي بي سي نيوز عربي، 16 يناير/ كانون الثاني 2022

تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الأحد 4 مايو 2025 - 18:10

العيون تحتضن ندوة علمية كبرى: من أدب التحرر والمقاومة إلى فكر التنمية في إفريقيا

السبت 3 مايو 2025 - 10:44

وزارة الثقافة تسطر برنامجا وطنيا متنوعا احتفاء بأبي الفنون

الجمعة 2 مايو 2025 - 23:54

الحي المحمدي يحتفي بالمسرح في دورته الخامسة تكريما لروح الفنان الراحل أحمد كارس

الجمعة 2 مايو 2025 - 13:10

مهرجان موازين يكشف أسماء فنانين عالميين وعرب جدد في برمجة دورته العشرين

error: