قراءة في “رائحة الموت” للكاتبة المغربية ليلى مهيدرة
أحمد بيضي
الجمعة 21 يوليو 2023 - 08:14 l عدد الزيارات : 30359
الدكتور المصطفى سلام (°)
تقديم : يعرف الإنتاج الروائي العربي دينامية فــي التحول و التكون ، واجتراح أساليب و مسارات جديــدة فــي التعبير و البناء الفني، فالرواية العربية حالة تعبيرية، تنطلق مــن أسئلـة التحولات الاجتماعية وإكراهات الوجود، ساعية إلى تقديم صياغة أو جواب عنها مـــن خلال اختيار جنس الرواية لأسباب فنية ومعرفية وإيديولوجية أيضا .
هــذا الاختيار يسعف الكاتب فـي عرض تصوره للقضايا والموضوعات العديدة من موقع التخييل السردي وفلسفة عوالم الإمكان و قدرة السرد على الإقناع وعرض وجهــات النظر …ليس مــن موقع المنطق العلمي الذي يربط النتائج بالأسباب، والأعراض بالشروط، بل وفق منطق التخييل السردي حيث يربــط المبدع تصوره مــن خلال تسريد مادة حكائية وصوغها أو تشكيـلها فنيا وجماليا، دون حصر الجواب في صيغة نهائية . التجربة السردية وجــه من أوجه المقاربات الفنية لكثير مــن الظواهر والقضايا التي تخص الإنسان وتشغل ذهنه فــي مختلف أبعاده النفسية والاجتماعيــة والثقافية والسياسية والدينية …ومــن بين أكثــر الظواهر شأنا عند الإنسان عبر التاريخ قضية الموت . لقد تناول الإبداع العربي، سواء كــان شعرا أم مسرحا أم رقصـة أم روايــة ظاهرة الموت، السؤال القديم الجديد، والذي لا ينتهي بالجواب عنه، بقدر ما يفتح آفاقا للتفكير فيه وتجديد التأمل في آثاره، وتمثيل مختلف أشكال الوعي به (1). إن سؤال الموت لا ينتهي بمعرفة السبب والمصير الذي يصير إليه الميت، و لكنه يظل حيا، مؤثرا، ملغزا، ملتبسا، مادامت الحياة مستمرة وهي العنصر الأكثر إغراء وفتنة للإنسان . الموت يصنع التاريخ والتاريخ يصنع المــوت، و الإنسان محكــوم بهما وجودا وعدمــا، لهـذا يظل سؤال الموت مرافقا للإنسان و يتعمق السؤال أكثر كلما تقدم في تحـدي الطبيعة وتسخير العلم والتقنية والاجتهاد في تجــويد الحياة ، و كــأن الموت سبيل إلــى إفساد تلك الجودة والمتعة التــي حصل عليــها الإنسان إن المتغير في هذا الأمر، هـو طبيعة الـوعي المتشكل حول الموت، و تمثل ذلك فنيا من طرف الإنسان الموغل فــي القدم أو المتقدم فــي الحداثة أو المشبــع بالميثولوجيا أو المحكــوم بالدين والمؤطـر بالمقدس (2)… هنــاك نصــوص سرديــة، عربيا وغربيا، انتظمت حول ظاهــرة الموت، و اختلفت فــي تظهيرها أو تمثيلها سرديا، و من بين تلــك النصوص ، رواية ” رائحــة الموت ” (3) للكاتبة المغربية : ليلى مهيدرة – كيف تم تمثيل سؤال الموت في الرواية ؟ – ما هي صورة الموت في هذا النص ؟ العنوان و تنوير العتمات : أكدت كثير من الدراسات الأدبية والنقدية أهمية عتبة العنوان كنص مواز في تجذير دلالة النص أو الأثر الفني و جعله يتداول في سوق القراءة والنقد . يتركب عنوان هـذا العمل من ترطيب لغوي يتماشى مع عناوين السرديات العربية القديمة التي تستهل ذلك بتركيب لغوي إضافي أو وصفي منزوع الخبر: – رائحة: جمعها روائح ، و هــي النسيم سواء كان طيبا أم نتنا. وتدل رائحــة الشيء علــى أثره، أي ما يدرك عــن طريق حاسة الشم؛ جــاء في الأثر: مــن قتل نفسا معاهدة لــم يرح رائحة الجنة أي لــم يشم رائحتها. والرائحة مــا ينبعث في الهواء لشيء مادي و يدركه الإنسان أو الحيوان . كما أن الرائحة هي أحد أبعاد الأجسام أو النباتات أو الحيوانات، و هي قد تكـون طبيعية أو اصطناعية، ناتجة عن تركيب أو مزج كيماوي بين أكثر من عنصر … – الموت : أو الموتان ضد الحياة (4). من فعل مات يموت موتا والمــوت زوال الحياة عــن كـل كائن حي (إنسان أو حيوان أو نبات) . وفــي القرآن الكريم ذكرت أشكــال للموت مثل الموت ضربا أو خنقا أو غرقا أو سقوطا …وهناك تصنيف آخر للموت حسب رمزية اللون : – الموت الأبيض: أي الموت الطبيعي . – الموت الأحمر: زوال الحياة قتلا . – الموت الأسود: أو الموت خنقا – الموت الزؤام: الموت فجأة ….. كمــا يحمـل الموت دلالات ومعان سياقية مثــل السكون والركود والجمــود والجهــل ، قــال تعالى: “أو من كان ميتا فأحييناه ” (5) أي كــان جاهلا كافرا. و يلاحظ أن المداخل المعجمية أو الدلالية السياقيــة المختلفة التي يـرد فيها لفظ الموت تميل باتجاه الخلو من الخير عامة وترسيخ المعاني السلبية سواء أكان الروح بالنسبة للإنسان أو الزرع بالنسبة للأرض أو الجنون بالنسبة للعقل (المــوتة بالضــم جنس مــن الجنون والصرع يعتري الإنسان). ومن حيث التركيب، أضيفت الرائحة إلى الموت فكان الموت حدثا أو معنى يدرك من خلال رائحته. أي عندما تزول الحياة مــن الكائن الحي أو عــنه، تخبر أو تــدل عليه الرائحة. كمـا أن هذا التركيب أو الإضافة مــنزوع الخبر: كيف هي رائحــة الموت؟ مــا الصفة التي تأخذها؟ كيف نميزها ضمـن نسق الروائح ؟، المـوت فعل ناتج أو ناجم عــن سبب، و يخلــق أثرا أو آثارا عــلى الجسد أو الكيان الذي حــل بـه، وانتزعت الحياة منه . جــاء في النص : “أنا هنا حتى أموت، وساعتها قرروا أن تدفنوني أو تتركوني أنشر رائحة الموت بالمكان …. (6) فأولى آثار الموت : تحول الجسد إلــى جثة، و ثانيها تعفن الجثة وانبعاث رائحة نتنة …فمــن مـات ؟ و كيف مات؟ و ماهي رمزية أو دلالة الموت هنا؟. هذه أسئلة تقتضي أجوبة محكومة بسياق النص وموضوعه ، وبثقافة القارئ أو المؤول لدلالات النص وخاصة العلامات النصية التي تنتظم حول ثيمة أو فكرة الموت . التظهير السردي في النص : اتبعت الروائية صيغة خاصة فــي تمثيل مادة الرواية الحكائية وتظهيرها، أي منح موضوعها بنية وشكلا يدرك من خلالهما الموضوع، و ذلك بتوزيع النص عامة إلى مسارين أو صيرورتين :
أ – خطاب الجثة أو مسار الجسد بعد الموت ب – خطاب الذات قبل الموت أو سيرة بلقايد . بهذه الصورة يكون القارئ أمــام بناءين سـرديين للحكاية أو مسارين مختلفين لموضوعين يبــدوان في الظاهر مختلفين ، و يحتمل أن يكونا متماثلين . يقترن المسار الأول بحديث جثة: أي سرد وقائع جرت وانتظم مسارها بعد الموت (7) . هذا الحديث تميز فـي “رائحة الموت ” بعناوين خاصة : المسودات، وقد جاءت مرتبة من المسودة الأولى إلى التاسعة . هذا المسار يمكن أن نصطلح عليه تسريد الموت ويمكن أن نضبط تمفصلاته كالتالي : 1- ما قبل الانتحار 2- الإعداد للانتحار والتفكير فيه . 3- التنفيذ والإعلان : الخبر ـ رائحة الموت 4- التوثيق: توثيق الحادثة من طرف الشرطة والطب الشرعي ثم القضاء 5- التشريح : نقل الجثة إلى المستشفى ووضعها في غرفة الموتى استكمالا للتوثيق . 6- التصريح بالدفن: بعد إصدار شهادة إدارية تسمح بدفن الجثة. ينتظم السرد في هذا المسار حول عنصرين، الموت والكتابة. فكيف ذلك ؟ يدرك القارئ ذلك من خلال الثنائيات التالية : أولا :- المــوت حدث فاصل بـين عالمين ، عالــم الحضور أو عالم الشهود و عالــم الغياب أو الاندثار . الموت حدث تام ومكتمل سببا و نتيجة. – المسودة في الأصل كتابة أولية أو محاولة بدئية لمشروع أو عــمل قبل أن ينقح أو يصحح بشكـل نهائي . المسودة نسخة مبدئية تقبل الحذف أو الإضافة و التغيير . المسودة دليل على فعل لم يكتمل بعد .
ثانيا : – الموت إبدال تحويلي، تحـويل الجسد إلى جثة، إبدال الحركة بالسكون، تعويص للمتعة واللذة بالألم . إلغاء لـكل إحساس طبيعي ومــألوف، تعطيل للسان وإسكـات للنطق وبعثرة للنظام. الموت تحويل للطيب إلى نتن والزكي إلى عفن … – المسودة بذرة أولى للتفكير ، تعبير في حالة طفولية، حركة في صيغة حَبْو، نهوض بعد سقوط ، وقــوف بعد كبوة، نقص يسعى إلى اكتمال. المسودة ذاكرة قبلية تقاوم جرثومة النسيان، تذكـــير للنص بأرومته، وجود يبحث عن استقامة واعتراف وإقرار . ثالثا : – الموت حاضر والمسودة ماض، لكنها في النص غدت مستقبلا والموت ماض، جاء في النص: “لم يوهموننا بأن الموت يأتي بعــد أن تضع الحياة نقطة نهايتها، فهــل الموت نقيض للحياة أم يتماهى معها ؟ وهل نموت مرة واحدة …” (8) “كلما تملكه هذا الإحساس إلا و غادر بيته مخترقا العالم الخارجي هاربا من هواجسه ….متأبطا حقيبته المتهرئة وقد جمع بها بعض مسوداته التي جعل منها بديلا عن صداقات لم يجد بها واقعه ….” (9)
رابعا : الـموت سؤال يواجــه الإنسان، عقبة كأداء تقلق وجوده ، كأس علقم يتجرعه كــرها . والمسـودة حيــاة لم تتضح معالمها بعد، حياة تبحث عــن الاكتمال و الاستواء، أخطاء تسعى إلى أن تكون صوابا. المسودة فــي اقترانها أصلا بالكتابة، و الكتابة تعبير وتجذير للأفكار والخيالات المقلقة .كمـا الكتابــة تجذير لثقافة المــوت سواء كانت حبـرا على ورق أم نقشا علـى حجر أم وشمــا على جسد أم تمثيلا على ركح أو شاشة … تكشف ملفوظات النص وخاصة في الشق المتعلق بحديث الجثة أو استيهام الموت عن طبيعة المسودات وعلاقتها بالموت: الموت هاجس ومبعث قلق و سؤال يدفع الذات إلى البحث عن جواب أو أجوبة ، ليس بالضرورة أن تكــون منطقية أو علمية أو موضوعية…و الجواب هنا فـي هذا المسرد لم يكن علميا ولا دينيا ولا طبيا إكلينيكيا، و لكن الأمر هنا اتخذ شكلا تخييليا وتعبيرا استيهاميا. هذا التخييل السردي جاء خارج المدار البشري ولم يقف عـند حدود الطبيعة البشرية. لقد جاءت المسودات تعبيرا عــن مشروع روايـة عن هاجس الموت لدى الشخصية الرئيسية (بلقايد). جاء في النص:
“كلما تملكه هذا الإحساس إلا وغادر بيته مخترقا العالم الخارجــي هاربا من هواجسه حتـى وإن كان الهروب نحو عالم لم يستطع حتى الآن أن يستوعبه بالشكل الذي يجب، متأبطا حقيبته المتهرئة وقد جمع بها بعض مسوداته التي جعل منها بديلا عن صداقات لم يجد بها واقعه …..وبالرغم من ذلك كـان إحساس الوحــدة لا يفارقه، كثيرا ما كان يسخر من نفسه وهــو الذي تخلى عن حريته وقرر أن يسجن نفسه محاولا إتمام رواية حول الإشكالية التي تسكنه ” (10)، “ومع ذلك يوهم نفسه أن هذا الكتاب الذي يستجمع فيه مسوداته الآن قد يكون سابقة في عالم الكتابة رواية أدبية بمحور موضوعي صرف” (11). – تسريد الحياة أو خطاب الذات قبل الموت : تم تبئير الحكي في الشق الثاني من الرواية حول شخصية مرجعية تاريخية: بلقايد. و قد تكفل السارد بعرض سيرة ذاتية لها أي كتابة تاريخ حياتها : الميلاد والنسب والأصول ثم العلاقات والمصائر …وكأن الأمر هـنا شبيه بتسريد حياة بلقايد و توثيقها. و يلاحــظ أن المنطق الذي يحــكم هذا المســار شبيــه بالمنطق السردي فـي أدب أو ترجمة السير الذاتية . والمتأمل في مسار سيرة بلقايد يدرك أن يتوزع بين آليتين : – آلية الإخبار : إذ تكلف السارد بتقديم معلومات عــن هذه الشخصية و تتبع مسار حياتهـا منذ الولادة أو ما قبلها و ما تعرض له من معاناة و مـا عاشه من تجارب بصمت وجدانه و فكره و ضاعفت من معاناته وعمقت عزلته ووحدته .و هذا يتوافق والسرد التقليدي في تخيييل الذات أو أدب السيرة : “لا يعرف له اسما غير بلقايد، ولا مدينة غير هــذه التي يقطنها، كهل خمسيني ….خطيئته هي أنـه يحمل اسما وسمه العار منذ الصغر وجعله منبوذا، …” (12). – آلية الاعتراف : في كثير مــن مواقع التلفظ في هذا المسار، نصادف بلقايد يحكــي عـن ذاته وكـــأنه لا يكتفي بأهلية السارد فـي الإخبار عــن حياته بكل صدق، بل يتسلم الكلمة ليواصل السرد عــن تجربته وخاصة في المواقع الأكثر حساسية وحميمية أو تلك التي تأخذ بعدا وجدانيا : ” أنا بلقايد وسأظل بلقايد ما دمت لا أملك القدرة على تغيير ذلك، مرارا تخيلتني أحاول وأفشل، فتغيير الاسم في حالتي مرتبط بتغيير المكان ….” (13)، “أبي يا أبي ، أيها الذي اختارته الطبيعة ليزرعني فـي رحم زينب ثم يموت بعدها، هل ألومك لأنك لم تصمد أكثر، أم أعتذر منك لأنني أرغمت علــى حمل اسم غير اسمك ولــم أتمرد؟ إن كــان عذرك الموت فما عذري أنا المكبل بالحياة ؟ …” (14). إن الإخبار والاعتراف إجراءان متبعان في تقديم سيرة بلقايد أو تسريد حياته عبر تقنيات الاسترجاع والحوار والتذكر والمناجاة. ويلاحظ أن السرد هنا انتظم حول عنصرين أساسيين : الذات : شخصية تامة العناصر أو مكتملة الهوية، بيولوجيا و ثقافيا واجتماعيا …. المرجع : مـن حيث الفضاء والزمن والشخصيات، هيمــن البعـد الواقعي علــى التخييلي حرصا عـلى إثبات حقيقة هــذه الوقائع (مغرب الحماية، ما قبل الاستعمار، الحركة الوطنية، الاستقلال، القيـاد وفترة السيبة، المثقف والسلطة، الكتابة والممنوع …..) الآن، ما العلاقة بين الخطابين : حديث الجثة وسيرة بلقايد؟ أو كتابة الموت من جهة وكتابة الحياة من جهة ثانية؟، يدرك القارئ أن نص المسودات و إن كـان مؤطرا بالتخييل والاستيهام ، فإن سيــرة بلقايــد مؤطــرة بالواقعي والتاريخي ، وهما يتقاطعان في كثير من النقط : أولا : الموت
تقترن سيرة بلقايد بالموت وتتعدد صور الموت في سيرته، فقد توفيت والدته زينب ( ص24 و 19 ) كما تأثر بموت والده المختار (ص 34 ) ومات جده القايد حمو ( ص15 – 20 و 119 ) وكان لموت صديقه الاثر البالغ في حياته (ص 66) . وفي المسودات ينطلق السرد من حدث الانتحار باعتباره شكلا مـن أشكال الموت أو صيغة تحقق مــن خلالها . ثانيا : الوحدة و العزلة : بلقايد عاش وحدة و عزلة، بعــد أن فقد أمه التي كانت رفيقته في الحياة، لا خلان له ولا أصدقاء، والشخصية الروائية فــي المسودات عاشت بدورها عزلــة حيث اختطفت وعزلت عــن أسرتها وعاشت بعيدا عن محضن أسرتها . ثالثا – الانتساب إلى الريف و التعلق بالمدينة : الشخصيتان معا تنتسبان إلــى البادية، إلى قرية مطلة على المحيط الأطلسي (ص 23) وحرما معا مـن ذلك الفضاء حيث نفيا عنه وأحرجا منه قسرا أو غصبا (ص 137) ناهيك عن تعلقهما بالمدينة ودروبها وحاراتها وبحرها ….والعلاقة بين الفضاءين تكـمن في أنهمـا مرجعين لسيرة كــل من بلقايد والشخصية الورقية : العربي بلقايد رابعا – الحوار مع الأموات : بلقايد يتحاور في مواقع كثيرة من الرواية مع أمه زينب (ص 34 – 117 ) و تحاور أيضا مع صديقه الميت كما جرى حوار مع المرأة الغانية في اللوحة (ص 111) و أجرى أيضا حوارا مع جده (ص 112) خامسا – الوعي بالموت أو التفكير فيه وجعله مادة للتأمل على أساس أنــه هاجس وسؤال مقلق، مصير ومنتهى، حدث ونهاية.. سادسا – الانفصام : ظاهرة الانفصام متحققة فــي النصين معــا و لدى الشخصيتين كلاهمــا من خلال وجود قرين أو شبيه (ص 87) سابعا – العصيان و التمرد : خاصة على المواضعات الاجتماعية من خلال الخروج عاريا أو الجولان منزوع الملابس كتحد للرجولة المبتورة أو الذكورة المخصية (ص 138 ) من منطق الموت إلى استيهامه الموت إبدال قرباني مــن زاوية ميثولوجيا الموت، وهو أيضا إبدال وجودي للحياة، و بالعودة إلــى الروايـة ندرك أن الموت حدث مؤسس للســرد، ومصدر للتخييل، و باب للاستيهــام، ومصير مهـدد لمجتمع الرواية . هكذا انبثق السرد في “رائحة الموت” بسبب هواجس أثارها لدى الشخصية المحوريـة بلقايد، فجاء تفكيره فيه في صيغة بناء سردي وإمكان تخييلي: ” كتابة رواية تكون أحداثها و وقائعها، زمانها ومكانها، شخصياتها ومصائرها …..استجابة لهاجس أو سؤال الموت ” (15) إن التفكير في الموت شأن إنساني، بغض النظر عــن مستواه المعرفي . و يتعمق هذا البعد مـن خلال النسق الثقافـي والطبيعـي المؤطرين له، وهذا مـا نلحظه مـن أدبيات أو ثقافة المــوت عند المجتمعــات الاجتماعية . من خلال ما تقدمه المدونات الأسطورية و الدينية وما يطرحه المقدس عامة من تمثلات وترميزات للموت .
وبالعودة إلى الرواية ، نلاحظ أن مسارها الســردي تحقق بدايــة و انتهاء بالموت: العنوان (رائحة الموت وتصريح بالدفن) ناهيــك عن تمظهرات نصية كثيــرة للمــوت أو صوره . و خاصة ما اصطلحنا عليه بحديث الجثة أو تسريد الموت . لقد كان الانتحار مؤشرا على الموت، و فعلا أقدم عليه العربي بلقايد راغبا وقاصدا إياه، للعبور إلى عالم الأموات، ومفارقة المــدار البشري . هكذا كان الانتحار نواة للتخييل وإمكانــا من إمكانات كثيـرة لبناء عالم روائي مترامي الأطراف ومتعدد الأبعاد … الموت فــي الرواية حدث مؤسس للحكي و نواة للتخييل، سواء فــي المستوى الأول “المسودات ” أو توثيق سيرة بلقايد. هــذا الإجراء يرتبط بفترة تاريخية مـن تاريخ المغرب المعاصر، يتعلق الأمر بفترة الحماية أو الاحتلال ثم الاستقلال و مــا بعده، وانطلاقا من الاسم أو الكنية ” بلقايد ” يتبادر إلــى الذهن فترة القياد وما تميزت به من شطط في السلطة وخدمة المستعمر وظلم للعباد واعتداء عليهم … هذه الكتابة التخييلية ذات البعد التاريخي تتأسس في عمقها حول تيمة القتل أو الموت : – موت الأب المختار من طرف القايد حمو – موت الأم زينب – موت الجد / القايد موت الصديق رفيق الطفولة … ما تبقى من هؤلاء هو رائحة موتهم، و قــد اختلفت تلك الروائح ، فرائحــة الأب غير رائحة الأم . لقد حفلت الروايــة بتشييد متخيل الموت مــن خلال تركيب مصفوفــات سردية وصياغــة بناءات وقوالــب رمزية للموت جاءت كالتالي : أولا : التطبيع مع الموت تحقق هذا الأمر من خلال تجربــة حديث الجثة أو الخــروج من الجسد و العودة إليه، حيــث استأنس القارئ مع الموت، و لم يعد ذلك الحدث المرعب المخيف، بل أصبح مثل العالم العادي المألوف، وأن هناك حيــاة طبيعية بعد الموت، إذ ترجع الروح إلى الجسـد ويستعيد وظائفه مثل الكلام والانفعال …وأن الأمر ليس كما تصوره أدبيات الموت الميثولوجية أو الدينية: إما نعيم أو جحيم . ثانيا : جدوى الموت في مستهل الرواية ، يتخذ الموت صورة طقس احتفالي ، احتفل المنتحر بموته : تطهير الجسد و تزيينه و انتقاء وسيلــة الانتحار “ربطة العنق” التي تحمل دلالة المــوت من خلال معنــى الربط و الخنـق و العقدة .ثم الموضــع الذي توضع فيـه .إن الموت هــنا فعـل مبارك لــدى صاحبه، عكس طـقس الميــلاد الخاص ب”بلقايد ” الذي كــان ميلاده لعنـة ، و جسـده خطيئـة ، و اسمـه نحس يتبرم منـه النــاس ويتطيرون منه، و يسعون إلى الابتعاد عنه أو منه . الرواية عامة صورت ثنائية الموت و الحياة تصويرا تطبعه المفارقة : – الموت مقدس والميلاد / الحياة ملعون – الموت طهارة و الميلاد نجاسة – الموت نعيم و الحياة جحيم -الموت سعادة و انتشاء و الميلاد عذاب و شقاء …
ثالثا : الموت تشيئ للجسد بعد الموت يصبح الجسد شيئا عاديا ومتلاشيا ، يخضع لبرنامج تحويلي في طبيعته و وظيفته : ينتقل أولا مــن الحرارة إلــى البرودة ، و ثانيا مــن المرونة إلى الصلابة ، و ثالثا مــن الطهارة إلـى التعفن والتحلل، فتكون الرائحة آخر ما ينبئ عن الجسد ، و هذا منطق الأشياء عامة و خاصة الكائنات الحية بعد الموت ، ليصل في النهاية إلى الاندثار و التلاشي . رابعا : الموت و الفرجة على الجسد إذا كان الميلاد يقتضي مشهدا و احتفالا أو فرجة على الجسد في ظهوره أو قدومه إلى هذا العالم، من خلال طقوس الميلاد كما ترسخت اجتماعيـا بواسطة إجراءات وتدابيــر استقبــال المولود والاحتفــال به، فإن المــوت فـي الرواية جعل جســد الميت / المنتحر أو جثتــه موضوع فرجـة و مشهدا يتطلب حفاوة واحتفالا خاصين في الزمن و المكان ؛ هنا تتأكد المفارقة التي انبنت عليها الرواية : في ميلاد بلقايد تبرم الناس منه وابتعدوا عـنه خوفا من أن تلحقهم لعنة جده ” القايــد حمو” . وعند الموت / الانتحار تحلق الناس حول الجثة و صاحبهم الفضول (ص 26 ) للتعــرف والاطلاع على جثة المنتحر. في الحياة كان الإهمال والتهميش والنفور، و بعـد المــوت أصبحت الجثة موضــوع كـلام وعناية، و كأن الموت قضية الأحياء جميعهم بينما الحياة قضية صاحبها فقط . خامسا : عمرانية الموت : إذا كان العمران إشارة إلى الحياة و الحضارة في الوجود والعبقرية في الإبداع ، فإن المــوت لم يتخل عــن نصيبه في هذا الإرث ، فهــو حاضر ودال فــي مختلف المظاهر العمرانية، و قـد تجلى هذا في الرواية في المقبرتين في المدينة (16). المقبرة فضاء يتربع الموت على عرشه ، يقف في بابه، يحضر في كثير من أنشطته ورموزه : الدفن مثلا وهو سلوك ثقافي وشاهــد على تطور فـكرة الموت عند الإنسان، ثم هناك الخطــاب أو أشكال وعبارات الكتابة في هذا الفضاء مثل القرآن والأدعية والتلاوة …ثم صلاة الجنازة . إن المقبرة فضاء يقترن بتصريف حدث الموت ، وتأكيد حضوره رغم الانهمام بالحياة وبهرجتها. سادسا : استيهام الموت انطلاقا مــن حديث الجثة أو تسريد ما بعد الموت ، وكما أبانت عنــه المسودات، يتضح أن الكاتبــة اعتمدت تقنية الاستيهام كإنتاج خيالي يمثل فيه الموضوع داخل سيناريو محدد: المسودات كتابة تخييلية تمثل موضوع الخــروج من الجسد أو عودة الــروح إلى الجثة، وهذا إمكان تخييلي يندرج ضمـن عوالم الإمكان أو يمكــن لنا أن نصيغه فــي العبارة التالية : مــاذا لو: تخيلنا عـودة الروح إلى الجثة و بالتالي عادت إليها الحياة. لقد عادت الروح إلى الجثة ورجعت الحياة إلى الجسد، و هذا إمكان يمكن أن نتخيله كاستيهام من بين استيهامات كثيرة ينتجها الإنسان ويفكر فيها ليس كتحد للموت أو إلغاء له و بعثــرة لنظامه، و لكن رغبة منه في التعبير عن عمق تمسكه بالحياة و أن الرغبات و مشاريع الإنسان في الحياة لم يسعها الحيز الزمني ” العمر ” و لم يبلغ فيهــا الإنسان مرحلــة الإشباع النهائي ، فيكون الاستيهام في مثل هذه الحالـة فعلا تعويضيا من الحــرمان الذي عرفه الشخص في حياته وسبيلا إلى تحقيق بعض الرغبـات التي كان محروما منها، و لدينا في الرواية بعض مظاهر تحقيق الرغبات المؤجلة مثل : – اعتقاد المنتحر أن موته نجاح يعوض تجارب الفشل التي عاشها في حياته ( ص 11 ) – بموته انتزع الاعتراف من المدينة التي يعيش فيها ( ص 25) – بموته أصبح مشهورا بعد أن كان مغمورا ( ص 32 ) – حديثه بعد موته كان فرصة لقول الحقيقة دون نفاق أو كذب – كان موته سخيا و كريما حيث أتاخ له فرصة الاستمتاع بغواية المرأة / الطبيبة التي كانت تفحص جسده ، فأيقظت بذلك ذكورة جسده المتعطشة لأنثوية المرأة من خلال الصوت “الهمس” واللمس “الأنامل” والنظرة “العين ” والحركة والرائحة “العطر” .. بهذه الأمثلة وغيرها يدرك القارئ استيهام الميث كان تعويضا لمظاهر كثيرة من الحرمان عاشها في حياته. خلاصة : “رائحة الموت ” نص سردي ينضاف إلى خزانة النصوص الروائية التي انتظمت حــول الموت، إذ قدم هذا النص رؤيته للموت والذي يبقى حدثا غامضا وغير قطعي الدلالة عند الإنسان على الرغم من حتميته، فجاء تمثيل هذا الوعي بالموت والتفكير فيه من خلال حكاية ما اصطلحنا عليه بتسـريد الموت أو حديث الجثة الذي يوازي تسريد الحياة “سيرة بلقايد” .
كما تميز هذا النص بخصائص فنيــة وبنائية تكشف عن انخراطه في تيار الرواية الحديثة مثل: المفارقة حيث جمعت الكاتبة بيــن الموت والحياة في مسار سردي واحد ثم التوازي بين المرجعي الواقعي والتخييلي الفني، بين الموضوعي والغرائبي، إذ سيرة بلقايد تنشد إلى المرجعي التاريخي وحديــث الجثة ينتظم وفق منطق التخييل أو الاستيهــام، ممــا خلق استيهامات وإمكانات وصور تخيييلية للموت. إن قراءتنا لهذا النص ليست إنهائية له وليست تجفيفا لمنابع الدلالة فيه، بل هي خطوة من بين خطوات كثيرة نحــو مغالق هذا النص الذي ينطلق مـن قضية جوهرية تمس الوجــود الإنساني، أي قضية الموت الذي يحدث تحولا ليس في وضع الفرد وحده بل الجماعة أيضا .
هوامش
1 هناك تحققات نصية كثيرة لموضوع الموت في الإبداع العربي و خاصة في الشعر القديم تحت مسمى غرض الرثاء .
2 العودة إلى فكرة الموت في الميثولوجيا عامة و العربية خاصة و كذلك في النصوص الدينية مثل القرآن و الحديث و النصوص الحافة .
3 ليلى مهيدرة : رائحة الموت . رواية . مؤسسة الرحاب الحديثة . ط1 . 2018 .
4 لسان العرب ، مادة موت و روح .
5 سورة الأنعام 122 .
6 رائحة الموت : ص 26.
7 هناك تشابه كبير بين المسودات في رائحة الموت و حديث الجثة للكاتب المغربي محمد أسليم ، يمكن العودة إلى هذا النص : محمد أسليم : حديث الجثة . نصوص سردية . 1996.
8 رائحة الموت : ص 47 .
9 رائحة الموت : ص 47.
10 رائحة الموت : ص 47
11 رائحة الموت : ص 50 .
12 رائحة الموت : ص 13.
13 رائحة الموت : ص 14 .
14 رائحة الموت : ص 34.
15 رائحة الموت : ص 47- 120 .
16 د لحسن رضوان : مقاربة أنتروبولوجية لمقبرة سيدي السنوسي بتلمسان . دراسة ميدانية . مجلة أنتروبولوجية الأديان . مجلد 18. عدد2. تاريخ 5-6- 2022 .ص 977 .
مراجع :
1- القرآن الكريم .
2- ابن منظور: لسان العرب . دار صادر . بيروت .
3- ليلى مهيدرة: رائحة الموت. مؤسسة الرحاب الحديثة. بيروت. لبنان .ط1. 2018.
4- محمد أسليم : حديث الجثة . نصوص سردية 1996 .
(°) كانب وناقد، من أعماله: “المتخيل الأسطوري في الرواية المغاربية)
تعليقات
0