تجليات الزمن السردي المخاتل في رواية “غضب” لعبد الحميد الغرباوي

26٬888
  • عبدالواحد كفيح (°)
ينطلق البناء السردي في رواية (غضب) المعنونة في وقت سابق ب ” بارازيت” بمدخل سردي تحفيزي، يضع المتلقي بأسلوب سلس، في خط زمني يبدو للوهلة الأولى متسلسلا حيث يتحدث الراوي عن غنيمة ثقافية فنية لفيلمين من عيار نادر تحصّل عليهما من ساحة بائعي المهملات على الأرصفة وهو عائد الى منزله بعد قضاء أغراض إدارية، ليقودنا الى الدخول في ” مسالك السرد للبحث عن الحكاية والبحث في الحكاية عن مسالك السرد في موضوعي السينما والموسيقى “فتبدأ خاصية التنوع والمفارقات وتتفرع الحكاية عبر أزمنة مستقطعة بالساعات والدقائق إلى حكايات في انتقالات زمنية تراتبية. وهي لعبة سردية لا يتقنها إلا سارد مخاتل مغامر من أمثال الأديب عبد الحميد الغرباوي الذي خبر عوالم الكتابة القصصية والقصة القصيرة جدا، والرواية، والترجمة، والشعر والتشكيل.
ويظهر ذلك في لعبة الغموض والالتباس حينما يناور السارد في متوالية سردية ليظهر كيف أن حياة الانسان مبنية على التناقض في محاولة منه لإبراز نوع من التوازن الطبيعي بين الضد ونقيضه، فيعود مخاتلا القارئ ليكسر الطرح في موقع آخر ويصفه بالطرح الساذج كون أن العديد من تمظهرات الواقع التي ننسبها للطبيعة هي أمور وقضايا مفتعلة من فعل الانسان .وهنا نلفي أنفسنا مرة أخرى، كما سلف ذكره، أمام انحرافات سردية متنوعة اللقطات وشبكة للأفكار المتقاطعة في لعبة استنزاف من الراوي لطاقة القارئ الفكرية، ودفعه دفعا للمشاركة والتفاعل عوض الاستكانة للاستهلاك القرائي السلبي كما هو الحال في (ص 99) بهدف خلق شراكة نصية منذ البداية، وخلق جدل إيجابي بين “مؤلف تجريبي” – بتعبير أمبيرتو إيكو – و”قارئ نموذجي” .
لهذا ليس من الضروري في هذه الرواية إجهاد النفس في البحث عن رأس الخيط بقدر ما نجد أنفسنا مجبرين على تتبع مسار كبّة السرد ككلّ وإلا فلن يحصل التفاعل والمتعة السردية ونشوء علاقة الحوار والتواصل. وكأننا بالكاتب يتعاقد مع المتلقي منذ البداية أنه يتمرد على جماليات الترابط وبصدد تفجير منطق الحبكة التقليدية القائم على التسلسل المشكّل للبداية والذروة والنهاية.
ففي هذه الرواية يسيل الزمن الروائي بالتقسيط وكأنما أقام الراوي بندولا على ناصية القارئ حيث التعداد والانسياب الزمني بالساعات والدقائق في مناورة سردية تراوح غدوا ورواحا بين الإرباك والتشويق والبحث عن الزمن القبلي، السابق لإدراك اللاحق، في متواليات وتعاقبات زمنية قصيرة تبدو تارة متزامنة مع أحداث أخرى في تقنية هي أقرب الى الكتابة القصصية منها للرواية لما فيها من ضبط في سرد الحكاية ودقة اللغة وصرامة الالتزام بالحيز الزمني الضيق، وكأنما الراوي بصدد تشكيل شبكة الكلمات المتقاطعة حيث الأحداث في الجمل القصيرة تتشابك لديه المعلومات وتتصادم وتتناقض دلالاتها ومعانيها (ص 136) وتتقاطع طولا وعرضا، لتصب في معنى وهدف ومجرى أكبر هو موضوع الإدانة والصراخ عاليا في وجه القبح، ورفض الارتكان والارتهان لما هو موجود وسائد ورائج ومألوف بحثا عن المغاير والمفاجئ والمدهش واللامألوف..
وهذا نوع وشكل جديد في كتابة الرواية حيث يقول الراوي ” رغبتي في تجريب شكل جديد من أشكال الكتابة حفزتني على خوض غمار الكتابة السينمائية ” (ص57( حيث يتبدى فن الكولاج باللوحات الفنية وصفحات الجرائد ومشاهد سينمائية، وبها ومن خلالها يحلّق بنا الراوي بين الزمن السردي والعودة إلى المونولوج الداخلي وتفريغ الذاكرة الغاصة بالحكايا والنوادر والتسجيل التاريخي والجغرافي. وكذا الدفع بالمتلقي لاستحضار القولة الشهيرة: ينبغي أحيانا قلب الصورة لتفهمها بشكل جيد. ولعل أهم ميزة في هذه الرواية وإحدى سماتها الحاضرة بقوة هي خدعة الزمن الماكرة التي تستفز تركيز القارئ وتجعله نهب قلق يستدرجه في فوضى الأحداث ليتقاسم مشاركا حقيقيا للمركز الرابع خلف الشخصيات الثلاثة: الراوي وحمدان والزلاوجي.
أثار الكاتب في روايته (غضب) أو (بارازيت) سابقا، قضية جوهرية غالبا ما يتم تجاوزها والتكتم عنها من طرف مقترفيها. وأماط بغضب بائن اللثام عنها بحرفية سردية سلسة وهي النفاق الاجتماعي المستفحل بدوائر المثقفين وبدواخل أنفسهم. وبهذا يؤكد ما جاء في إحدى حواراته: ” إن روايتي غضب بيان وإدانة للواقع الثقافي والاجتماعي”، لكن ليس طبعا بالمعنى المعياري المألوف للبيان. وجاءت الرسالة واضحة في (ص 90) على لسان حمدان أن النفاق الاجتماعي “عبارة يرددها بعض المتثاقفين مبتسمين دون أدنى وخز ضمير.
وجاءت عصارة ما يجيش في قلب الراوي / الكاتب على غلاف الرواية الخلفي. وهنا تظهر دلالة العنوان بارازيت بشكل جلي حينما ندرك أن البارازيت هو ذاك الكائن الطفيلي الحي الذي يقتات على جسم كائن حي آخر ترك له المجال واسعا والفرصة سانحة ليتمكن منه ليجعله يكره الحياة مع هذا النوع من البشر الذي يتقصّده الكاتب، والذين “يذبحون الشخص من الوريد إلى الوريد ” حسي مسيوبهذا يكون الراوي – في هذه المراوحة بين الزمان والمكان وتفضيء الذات – قد ناقش أفكارا وناور وحاور دواخله في مجموعة من القضايا الكبرى، منها ما هو ديني وجودي نفسي اجتماعي، ويقع ذلك في مواقع شتى من الرواية حيث يعرض إشكالية الموسيقى بين الحلال والحرام ونسبة الرضى بما للإنسان في الحياة من نصيب، والبحث عن الرضى التام وكذا التقابل الضدي الأزلي بين الشر والخير والآلام والويلات والتساؤل الوجودي المفضي للحيرة والقلق إلى أين نذهب؟ ومن أين نأتي ؟ ولماذا ؟ وهلم تساؤلات حارقة ب (ص 44 و45) تمتد إجاباتها في صيرورة لامتناهية من التساؤلات ثم العودة كرّة أخرى للزمن السردي واستكمال عناصر البنية السردية.
في كل لحظة من لحظات البناء السردي يتوقف الراوي في محطات يعتبرها جديرة بالنقاش والتمحيص، فيترك حبل السرد والوصف جانبا في توقف يكون الهدف منه كما هو متعارف عليه لتكسير رتابة السرد وإيقاظ القارئ من تماهيه بإقحام لوحات لظواهر اجتماعية مشينة تشكل وصمة عار على جبين المجتمع وعددها على لسان الزلاوجي في (ص 94)، فيعود من حيث توقف ليغلق الدائرة على المتلقي متابعا الحدث الأكبر الذي تتواشج فيه الأحداث الصغرى وتصب فيه من غير تصنع ولا لي ّ لعنق اللغة ولا الحدث في عملية إرباك متقن زاجّا بالقارئ ، مع سبق الإرادة والتعمد، لملء الفراغات الجديرة بالترميم والبناء وإعادة البناء، حيث ما أن نستعيد خط السرد الأفقي لمتوالية الأحداث في جلسات حمدان والراوي والزلاوجي حتى يزجّ بنا الراوي من حيث لا نحتسب وفي زمن منفلت ومتشابك، في لعبة صغرى للإرباك والحيرة والتساؤل حينما يتحدث عن اللقاء المفتوح المرتقب مع الأديب المبدع في (ص 46) “قد يبدو غريبا أن نبدأ قصة من نهايتها لكن النهايات هي بدايات أيضا إلا أننا لانعرف ذلك في حينه”.
لقد دفع الكاتب عينه، وبخط تشديد أحمر من الراوي، لاقتراح مجموعة من الجمل المشهدية التي تحيل على كتابة قصص رائعة وهذا ديدن الراوي المهووس بالتفاصيل كما جاء على لسانه في (ص 47 )”عصفور ميت وسط حقل” “خبر غرق شخص يهوى الصيد” ” نظرة شاردة لطفل جائع إلى خبز” “امرأة ذابلة تفترش الرصيف وتشرب كحولا ” “مسن يدفع عربة خضار وقد انحنى ظهره”، وهذا جزء من لعبة تفريغ شرائح الذاكرة يستعرض فيها الراوي بتقنية الكولاج السردي صورا ومشاهد مكتملة الأوصاف بأسلوب سلس يتنقل بين المشاهد واللقطات المستقطعة من الحياة اليومية العادية إلى ظواهر كونية سادت في تاريخ المجتمعات ومازالت تبرر وجودها قوى عظمى هدفها استنزاف خيرات عوالم بعينها.
وهكذا بحس سردي ذكي لافت كما لدى الكتّاب الكبااااااار كلما استقطع الروائي فرصة لاسترجاع الأنفاس أمطر المتلقي بما يبتغي الوصول إليه بعناية بالغة التأثير فيأخذ في الموضوع الذي يستأثر باهتمامه فيطرحه على صفحة النقاش وهي عديدة ومتعددة في الرواية (ص 104 ص 91 ص 135 ص 149 ص153) ومنها مثلا صعوبة التوفيق بين العيش الأسري الدافئ خارج الوطن وإكراهات الانضباط لأساسيات الحياة الكريمة، وما يعانيه العديد من الذين فرض عليهم أن يتوزعوا بين حب الوطن ومتطلبات العيش الكريم خارجه (ص (146.
كل هذا كما سميناه في خدعة سردية ماكرة، تارة من قبل الراوي، وتارة أخرى على لسان الزلاوجي أو حمدان، عبّر عنها بالحكاية الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة بالتوازي مع تسريب الزمن السردي المستقطع بالساعات والدقائق الذي يستحيل إلى زمن هيولي ضبابي ملتبس يدفع للتساؤل هل نحن في نفس اليوم؟ في نفس الساعة؟ أم هي أوقات مستقطعة بصرامة من أيام معدودة ومتعددة ومختلفة، فتعض بنواجد الصبر على المضي قدما في استكناه هوية الزمن المتقطع لأنه لا شيء يوحي ويؤكد أنه يوم واحد رغم ما يبدو في ظاهره من تكامل خادع.
تتعدد الأمكنة والفضاءات في رواية “غضب” منها ما هو رئيسي متمثلا في المدينة الغول كازابلانكا، ومنها الثانوي حيث كل مكان له دلالته التاريخية والجغرافية ودوره في استنطاق الماضي واستعادة الذاكرة الجمعية وذاك في (ص 124) (. منزل من ثلاث طوابق.. استرجعت ذاكرتي أرملة ينادونها أمي حليمة” وبيت الخالة مرجانة (ص 131) حيث تنثال الذكريات والأفكار ويغدو المكان في (ص 125) شخصية حقيقة دالّة (المسيد / الحمام الشعبي / الحي)
وفي نهاية الرواية يغلق الراوي الدائرة حيث يجمع بين زمن البدء الحوار للمجلة ونهاية الرواية التي تحيل في اعتقادي الشخصي على بداية عمل آخر منفتح على كل الاحتمالات حينما استأذن الكاتب الصحفي بالضغط على ” زر تشغيل المسجلة وبلطف، دعاني الى البدء في الكلام ” (ص 208)
رواية ” غضب ” عمل إبداعي تخلّق عن وعي بالكتابة الروائية في رحم مختبر التجريب، سلك فيها الكاتب تقنية خرق السائد والمألوف والمتعارف عليه بغرض الوصول الى محطات غير عادية وغير مألوفة تتسم بالمنعرجات والمتاهات الزمانية والتوقفات والاسترجاع والتاريخ والجغرافيات والسينما والفن والصراخ بالأساس في وجه القبح والنفاق الاجتماعي وتجسيد التعبير الحقيقي عن العوالم الداخلية والخارجية للإنسان المعاصر بتقنية الزمن المتخيل ، الزمن الشخصي للأبطال لا الزمن الخطي المستقيم المتعارف عليه بأبعاده التقليدية وكما وصفه أرسطو في كتابه ” الفيزياء” خط مستقيم متفق عليه من قبل الجميع، ونتبعه من خلال الساعات والتقويمات” (ص 13).
وختاما فهذه الرواية تعد مغامرة تجريبية من حيث تقنيات الكتابة الروائية الجديدة المهتمة في المقام الأول بقضايا المتخيل. و التي تعنى بالتفاصيل الصغيرة التي تخلق الحدث الأكبر، والقبض على اللحظات الفانية، وكذا العناية بالمتلقي وإشراكه في إثارة الأسئلة الحارقة، والاحتجاج في وجه القبح السائد الذي غدا من المسلمات، متمردا على الحدود والقيود شكلا ومضمونا بحثا عن الجديد والمغاير واللّامألوف في أفق التأسيس لذوق إبداعي جمالي جديد يعيد للرواية دورها الرئيس في تعزيز الجانب الإنساني في الإنسان الذي تسلب منه قيمه كل يوم، والارتقاء به في بناء الوعي الجمالي وتطوير المعارف، وتمثُّل القيم، وجعلها وسيلة تثقيفية حمّالة لرسائل عميقة وخطاب مسؤول ضد التسليع والتنميط وتأصيل للتفاهة .وهي أولا وأخيرا إضافة نوعية للخزانة السردية المغربية والعربية، متمنيا أن تجد طريقها للقراء والطلبة الباحثين والمهتمين بالقضايا النقدية والرواية بشكل عام .
(°) روائي، قاص وناقد مغربي
error: