من أجل مقدمة لرواية “الفسيفسائي” بوصفها مغامرة سردية متاهية، ورهانا جماليا جريئا

رواية "الفسيفسائي" تتسلل إلى فضول القراء لحفزهم على تعقب تفاصيلها المتشابكة

17٬565
  • محمد عياش
حينما يقرّ الروائي عيسى ناصري بأن كتابة رواية “الفسيفسائي” تطلبت منه عامين ، ونصف العام ، فإن هذا الاعتراف لا يندرج ضمن نزوع نرجسي عابر قصد إضفاء قيمة مزيفة على العمل، بل هو اعتراف وجيه، ومسؤول يزكي الانطباع الإيجابي الذي يتركه العمل في عقل، ووجدان كل من قرأه سطرا، سطرا الى آخر جملة فيه .
“الفسيفسائي” فَتْحٌ روائيّ عظيم أنجزه صاحبه وفق استراتيجية إبداعية يلتقي فيها الحفر بالرغبة، والسفر بالتيه، والخوف بالتحدي، والألم بالنشوة، ولعل هذا ما يجعلها تحوز كثيرا من مقومات للرواية الحضارية، والشاملة، والتجريبية.
لا غرابة في ما أقول مادام رهان الكاتب ينهض على تشييد صرح روائي فارق يتلاقح فيه التاريخ بالفانطازيا، ويمتح من الغموض، والإثارة، ويتجه عمدا الى الطاولة لقلبها على انتظارات، وتوقعات القراء المفترضين مع سبق الإصرار والترصد.
إن “الفسيفسائي” عمل سردي جامع، ومنفلت، وصادم إلى حد الإرباك المتواصل – على امتداد فصوله – لآليات القراءة المعتادة أيا كانت أدوات التفكيك، والاستغوار المعتمدة فيها، ومن هنا، لن أجانب الصواب إن دعوت القراء الى التوسل ببعض المفاهيم، والإجراءات المنهجية التي تقترحها علينا نظرية الكاوس، أو الفوضى، أو العماء من جهة، ويغرينا بها مفهوم الانتشار/ التشتيت Dissemination من جهة أخرى.
بالنسبة إلى نظرية الكاوس Chaos/ الفوضى/ العماء، فهي تقوم على اعتبار أنّ بعض الظواهر الطبيعية (المناخ)، والوضعيات الإنسانية (المجتمع) تبدو معقدة، وغامضة، ومختلطة، وغير منسجمة، لكنها – في العمق، وبعكس ما تبدو عليه – تشتغل وفق أنظمة مضبوطة تحكمها ميكانيزمات، وعلاقات تتبادل التأثير في ما بينها بشكل مباشر، أو غير مباشر. بل إن آثار هذه العلاقات الخفية قد لا يقبلها العقل حين يسمع الشخص بأن حركة جناحي فراشة في الصين يمكنها أن تحدث إعصارا في التيكساس أثر الفراشة (Effet papillon.
أما إذا انتقلنا الى مفهوم الانتشار / التشتيت الذي يعود الفضل في بلورته الى الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا ، فإن أهميته الوظيفية تتجلى في تفكيك النص – وهنا يتعلق السياق برواية “الفسيفسائي” – وإعادة بنائه بكيفية ملائمة ، ومتبصّرة لا تؤدي الى إفراغه من دينامية التدليل في ارتباطها بتكاثر المعنى ، ولا تُسقط القارئ في الحرمان من الاستمتاع بمظاهره الجمالية التي يحبل بها بسخاء فادح.
والجميل في هذا الفيضان الدلالي المبني على اللعب الحر Free play أن ضبطه صعب، وأن التحكم في انتشاره ليس بالعمل اليسير. فهو بما يتمتع به من حرية جامحة غير مستقر، وداخل ما يطبعه من عدم استقرار، وثبات تكمن المتعة، والنشوة .
في ضوء نظرية الكاوس، ومفهوم الانتشار / التشتيت يمكن أن نقارب رواية “الفسيفسائي” بوصفها مغامرة سردية متاهية، وبوصفها رهانا جماليا جريئا يستدرج – بنعومة لافتة – القراء الى إعادة النظر في پاراديغمات تلقيهم للنصوص الروائية خاصة، والسردية عامة.
أكثر من ذلك ، فإن رواية “الفسيفسائي”، وهي تتسلل إلى فضول القراء لحفزهم على تعقب تفاصيلها المتشابكة، وأحداثها المثيرة، ومنطويات شخصياتها التراجيدية، وعوالمها التخييلية الباذخة، فهي – في الآن ذاته – تدعوهم إلى الارتقاء قدر الإمكان بآلياتهم القرائية الى مستوى القارئ السيميائي بتعبير المنظر السيميائي، والروائي الإيطالي أمبرطو إيكو.
فدون بذل جهد كبير للدخول في تفاعل خلاق مع”الفسيفسائي” بهذه الصفة النبيلة، فإن القراء سيكتشفون- بعد الانتهاء من قراءتها- أن كثيرا من الحصيّات المفصلية لاكتمال اللوحة الفسيفسائية الكبرى ضاعت في غفلة منهم عبر المسالك الوعرة التي قطعوها في سفرهم مع قراءة الرواية.
 ــــــــــــــــــــــــــــــ
(+) نصّ الورقة التقديمية التي قدّمتها بمناسبة اللقاء الأدبي الذي احتضنت فعالياته قاعة العروض بالمركز الثقافي أبي القاسم الزياني خنيفرة مساء السبت 2 مارس 2024.
الهدف من الورقة -كما بيّنتُ في أثناء التسيير – هو تزويد الحاضرين ببعض المداخل القرائية الأوّلية التي تبدو مفيدة في قراءة رواية “الفسيفسائي”
 
error: