الحوز: عبد الصمد الكباص

للطريق من ويركان إلى ثلاث نيعقوب، علامة واحدة تشير إلى أن إقليم الحوز مازال محجوزا في لحظة الزلزال الذي ضربه ليلة الثامن من شتنبر 2023. ملامح الجفاف انضافت إلى مظاهر الخراب المترتبة عن الكارثة لتشكل معالم حالة من الشك المقرونة بكثير من اليأس التي تغزو النفوس بخصوص ما قدمته الحكومة من وعود لدعم المتضررين، ولاسيما أن الفارق شاسع بين الإنجازات المتضخمة في خطاب المسؤولين والحقيقة الحادة التي يعيشها أبناء هذا المجال الجبلي.

 

عندما وصلنا إلى المنطقة، لم يتبق سوى يومين لكي تكتمل سنة بالتمام والكمال عن ليلة الكارثة. لكن ما تدركه العين هو أن الزلزال لم يكن حدثا زائلا، بل لحظة متمددة في المظاهر المؤسفة التي خلفها والمعاناة القاسية التي تسببت فيها لنساء وأطفال ورجال المنطقة. المخيمات تمتد على طول الطريق، منتشرة بين الأشجار و في تخوم المنحدراتوفي الفجاج والمرتفعات، وفي خلفية المشهد معالم الدمار لأنقاض البيوت التي تراكمت و ما زالت شاخصة تشهد على الأرواح التي قضت تحتها، في لوحة حزينة تجعل كل من يراها يقتنع أن منطقة الكارثة دخلت في حالة من النسيان من قبل الحكومة. الحركة بطيئة، وأوراش إعادة البناء جد نادرة، والكل في حالة انتظار.
« نخشى أن ما كان إيواء مؤقتا، قد أصبح توطينا دائما..» قالت لنا سيدة التقيناها في دوار البراكة الذي يوجد على مسافة قليلة قبل الوصول إلى ويركان، والذي تتناثر فيه المخيمات التي تأوي العشرات من الأسر. وأضافت» سواء في الشتاء أو الصيف عشنا في جحيم حقيقي، عندما تهب الرياح تعبث بالخيام، و حين تتساقط الأمطار تختلط السيول بالأفرشة والأثاث المتقشف الذي نعتمد عليه في حياتنا اليومية، وعندما ترتفع الحرارة نختنق.»
في كل خطوة نخطوها، نحس أن وحدها المأساة تتنفس في المكان: الوجوه المطبوعة بملامح الخيبة، والكلام المتثاقل لأصحابها في حديثهم عن معاناتهم، وهي وضعية مفهومة لكونهم ملوا من زيارات الصحفيين والجمعيات والمسؤولين دون أن يتغير شيء من واقعهم المزري..وحده شغب الأطفال يبعث على الأمل ويعدّل قليلا من الوطأة القاتمة التي تهيمن على الحياة. في أحد المخيمات التي توجد على جانب الطريق الوطنية رقم 7، لا يمانع عبد الله من التحدث معنا، عكس ما أبداه آخرون الذين كانوا يردون بصيغ مختلفة لمعنى واحد هو « جاء كثيرون قبلكم، ووضعنا ظل كما هو..» بالنسبة لهم ليس هناك فرق بين الصحافي والمسؤول. أما عبد الله فبدا متحمسا ليحكي قصته. قال « هذا المخيم تجمع لأسر دمر الزلزال بيوتها، إنها توجد هناك (مشيرا إلى مرتفع الجبل) .. و بفضل أحد المحسنين تمكننا من نصب خيامنا على هذه الأرض…» سألناه عن السبب الذي أخّر عودتهم إلى بيوتهم، فكان رده « اثنان فقط من هذه الأسر استفاد من الدعم، و الباقي، استثنوا. لا أحد يعرف لماذا. و بالنسبة لمن توصل بمبلغ 20 ألف درهم، كدفعة أولى فهي لم تمكنه من تقدم كبير في الأشغال تسمح بتسريع عودته. أسعار مواد البناء في ارتفاع، ومن الصعب الوفاء بذلك بهذا المبلغ. هناك تعقيدات في المنطقة ترفع من التكلفة.»
وعندما سألناه» هؤلاء الذين لم يتلقوا أي دعم كيف يتصورون عودتهم إلى بيوتهم المنهارة؟ أجاب « إنهم ينتظرون، فقط ينتظرون..»
وعن حالته قال عبد الله « أنا لست من ابناء المنطقة، كنت في الجيش، وتعرضت لحادث أدى لإصابتي بإعاقة سرحت على إثرها. جئت إلى هنا منذ سنوات، وكونت أسرة، ومكنني أحد المعارف ببيت لا يستغله لأسكنه على سبيل الكراء. ليلة الزلزال حوله عنف الهزة إلى دمار. لحسن الحظ لم يصب أي واحد من أفراد أسرتي بأذى. بتنا في العراء، وبفضل إحدى الجمعيات حصلنا على الخيمة التي نقيم فيها. عندما حلت لجان الإحصاء استثنتني من الدعم، لكون البيت الذي كنت أسكنه ليس بيتي. وها نحن هنا ننتظر كباقي السكان المتضررين، لا ندري بالضبط ما الذي علينا فعله..»
سمح لنا عبد الله بالدخول إلى الخيمة، أول ما لفت انتباهنا الحرارة الشديدة، وضيق المجال الذي يتقاسمه مع زوجته وبناته الثلاث. أغطية على الأرض تستعمل كفراش، ووسائد، وبعض معدات المطبخ، قنينة غاز صغيرة و طنجرة وأطباق قليلة وكؤوس. كل هذا متجمع في نفس الفضاء الضيق. سألناه عن زوجته فأخبرنا « إننا نتعاون، هي تخرج للعمل، وأنا أيضا..و إذا تعذر على الواحد منا ذلك، يعتني بالبنات.»
يقول عبد الله إن الماء متوفر بالمخيم، لكن الكهرباء مؤقتة، وانقطاعها شبه دائم. لحظة زيارتنا له، كانت أيضا مقطوعة.
غير بعيد عن هذا المخيم التقينا سيدتين برفقة أطفالهما. أخبرتنا بأنهما يقطنان في مخيم آخر يوجد على مسافة قريبة من المخيم الذي توجد به خيمة عبد الله وأسرته. تؤكد السيدتان أنه تجمع كبير يسع العشرات من الخيام والغرف الجاهزة، التي أنشئت لإيواء أكثر من أربعين أسرة ممن تضرروا من الزلزال. قالت أيضا إن بعض الاسر تقيم في المخيم في انتظار استكمال إعادة بناء أو إصلاح بيوتها التي تضررت. لكن الآخرين مضطرين للبقاء هناك طويلا، لأن الإمكانيات تعوزهم، و لم يتوصلوا بأي دعم.
بالنسبة للسيدة الأولى أخبرتنا أن الدعم الذي تلقته أسرتها هو مبلغ 2500 درهم فقط. أما الثانية فأكدت أنها استثنيت من الإحصاء، وبالتالي حرمت من التعويض.
و نحن نعبر جماعة ويركان، كان المشهد الوحيد الذي يلخص وضعية المنطقة، هو اصطفاف المخيمات على الجانبين، بعضها نصب خلف الأشجار أخفي بحواجز من القصب أو بستائر من البلاستيك، وبعضها يمتد على جنبات الطريق. حالة الخيام تتفاوت، بعضها رمم بالأغطية، أو بدعامات خشبية يظهر أنها أضيفت لمنع الرياح من العبث بغلافها، والبعض عبارة عن حاويات أو غرف جاهزة. تعتبر مرافق النظافة معضلتها الكبرى، حسب تصريحات السكان.
«المحسنون» هي الكلمة المفتاح التي تتردد على ألسنة المواطنين من سكان المخيمات. و التي يلخصها أحدهم التقيناه بمخيم يوجد ما بين ويركان و إنكدال قائلا» بعد حدوث الزلزال امتصت تعليمات جلالة الملك (قال سيدنا) ووعود الحكومة و موجة التضامن التي تدفقت من قبل المواطنين والجمعيات، صدمة السكان، و قللت من معاناتهم. وبعد الإعلان عن إجراءات الدعم من قبل الحكومة، زاد ارتياح المتضررين. لكن مع مرور الوقت، حل اليأس وعوضت الخيبة الأمل، بعد أن ساد الإحباط من نتائج لجن الإحصاء، وأصبحت الاستفادة من الدعم استثناء و الحرمان قاعدة.. وحدهم المحسنون، واظبوا على مساندة السكان إضافة إلى أهاليهم الذين يوجدون بالخارج. الزلزال لم يزهق الأرواح فقط، أو شرد الأسر، لكنه أيضا قطع الأرزاق، وأدخل السكان في ضائقة العيش.»
بدوار «أمسكين» المتواجد على الطريق إلى إيجوكاك، استوقفنا مخيم آخر بحجم كبير، هناك التقينا بسيدة أخبرتنا أن المخيم أنشئ بعد الزلزال بمبادرة من محسنين من أجل الإيواء المؤقت التي فقدت منازلها بعد الهزة الأرضية. «عيشة» وهي أم لخمسة أطفال، أوضحت أنها تجاور في خيمتها ما يزيد عن خمسين أسرة تقطن أيضا في الخيام والغرف الجاهزة. بالنسبة لها الإقامة بهذا المكان مؤقتة، إلى حين الشروع في إعادة بناء بيتها. حيث أنها توصلت بالدفعة الأولى من الدعم (20 ألف درهم) لكنها تقول إنها غير كافية بسبب تعقيدات البناء في هذه المناطق الوعرة. وبالمقابل تصرح أن عددا كبيرا من الأسر القاطنة بالمخيم، لم تتلق اي دعم، وهو ما يعني أن تواجدها هناك سيطول.
تقول «عيشة» أيضا، الماء متوفر، فقد عمل أبناء المنطقة على جلبه من الجبل بدعم من المحسنين، وتؤكد أن المشكل الأكبر في عدد من المخيمات يتركز بالدرجة الأولى في المراحيض، و في معاناة النساء بسبب ففقدان الحميمية داخل الخيام.
غير بعيد عن مكان تواجد المخيم الذي تقطنه عيشة، استوقفنا رجل بإعاقة واضحة في رجله اليمنى، قال إنه يسكن بمخيم آخر يوجد في المنحدر. أفصح الرجل أنه من ضحايا الزلزال، فقد فيه ابنتيه، وأصيب بكسور في رجله. وأضاف» رغم المصيبة التي ألمت بي وبأسرتي، لم أحظ بأي دعم. تقدمت بعدة شكايات للسلطة، لكن من دون رد..»
عدم وضوح معايير لجنة الإحصاء، يشكل هاجسا مؤرقا للسكان، فهناك من استفاد بنفس الشروط التي حرم بها الآخر. أحد الجمعويين بالمنطقة قال إن لجنة الإحصاء استثنت الأسر التي يقيم ربها بمكان آخر للعمل أو عند أحد أبنائه. مضيفا أن اللجن لم تنتبه إلى التعقيدات الاجتماعية المرتبطة بخصوصيات المنطقة ونمط العيش بها، وحتى الدعم لم يراع هذه التعقيدات، فبناء بيت في مكان منبسط قريب من الطريق، ليس هو نفسه في أقصى المرتفعات.
في المشهد العام من ويركان إلى ثلاث نيعقوب، شيء يجرح النفس. فالمنطقة التي كانت بجمال أخاذ و بانسجام في منظرها العام، وهو ماجعلها مزارا سياحيا لمحبي الطبيعة و الهدوء، صارت مشوهة بفعل الخيام والغرف الجاهزة التي تتناثر في فضاءاتها، مضفية طابعا من العشوائية والفوضى التي تؤذي جمالية المكان المألوفة. فقد حل الرمادي الذي صبغت به الغرف المتنقلة محل حمرة البناء التقليدي، حتى بدت المنطقة أشبه بتجمع صفيحي. صادفنا في الطريق مسجدا من القصدير بمئذنة قصديرية.
قرب إمكدال التقينا ب» محماد» عامل مياوم. يقطن بدوار «إيمضل» هناك كان بيته قبل الزلزال. قال إن داره تعرضت لأضرار كبيرة جعلتها غير قابلة للسكن. وهو الوضع الذي اضطره إلى الإقامة رفقة أسرته في خيمة. ورغم أن لجن الإحصاء عاينت الدار مرتين، و رغم أن عدة وفود زارتهم وقدمت كما كبيرا من الوعود، لكن لحدود اليوم، لم يتوصل بأي دعم. وهو ما جعله يعتمد على نفسه، و على إمكانياته المحدودة لترميم الدار، لكن العملية تتم ببطء شديد حسب شح الوسائل المالية.
يفيد « محماد» أن المدرسة لم يعد بناؤه إلى غاية اليوم، وأن أبناءه جُمِّعوا مع باقي رفقاهم بإنكدال لمتابعة الدراسة. و بالنسبة للمستوصف فقد أعيد بناؤه، لكنه لم يفتح بعد.
يعلق فاعل جمعوي رافقنا في زيارتنا للمنطقة، أن البنية الصحية بإقليم الحوز عرفت إعادة بناء و تشغيل خمس مراكز صحية فقط، في حين أن حوالي 39 مستوصفا ما زال ينتظر. و هوما يكشف حجم المعاناة الصحية بالمنطقة.
الطريق من ويركان إلى إيجوكاك كان محنة حقيقية، بسبب الخراب الذي لحقه جراء الزلزال، هناك أشغال لإصلاحه و توسيعه، لكن يبدو أنها بطيئة. وفي منطقة إيجوكاك، حيث المكان أقرب لمركز الزلزال الذي حدث ليلة الثامن من شتنبر 2023، تتضاعف مظاهر الخراب التي ترافقها الخيام الممزقة نتيجة تقادمها و الحاويات والغرف الجاهزة، حتى أن المحلات التجارية و المقاهي أقيم الكثير منها تحت أبنية من القصدير.لأن أبنيتها الأصلية صارت خرابا.
في مركز ثلاث نيعقوب، المكان يكتب جملة واحدة : الخراب والانتظار. في مركز السوق اصطفت مقاهي بسيطة تقدم الشاي و القهوة، مقامة من القصدير، سألنا صاحب إحداها « لماذا لم تعد بناء المقهى، هل توصلت بالدعم؟» ضحك مستهزئا، أي دعم؟ أغلب السكان لم يتوصلوا به، أما السوق فقد استثني بكامله من هذه العملية.
في نفس المكان أخبرنا مواطن، أن الوضع أسوأ إذا ما توغلنا في المرتفعات « الناس هناك يعانون، و ما من أحد ينصت لهم ..» حينها كانت رياح قوية تهب على المنطقة، تجمع معها بسرعة ضباب كثيف بدأت قطرات سميكة تنزل منه، فقال الرجل» هذا شبح آخر، الناس الآن يصارعون لكي لا تطير خيامهم الممزقة.»
عندما شرعنا في العودة كان كل ما يظهر في هذه المناطق يجعل عبارة طريفة قالها لنا أحد المواطنين البسطاء عندما كان يحدثنا عن إحباط السكان من وعود الدعم والتعويض، تتردد في أذهاننا. حيث سألناه « وماذا عن الملايير التي قال رئيس الحكومة أنها خصصت لكم؟ « فأجاب « إنها في التفزيون.» على امتداد منطقة الزلزال، هناك جبال عالية وسماء شاسعة، وماعدا ذلك فهو خراب ويأس وانتظار.