مناقشة الفرصة الأخيرة أمام مجلس المستشارين لحماية الحق في الاضراب

أنوار بريس الجمعة 17 يناير 2025 - 21:59 l عدد الزيارات : 64230

د. محمد طارق*

طيلة أزيد من 62 سنة والمغرب ينتظر صدور القانون التنظيمي للإضراب، وهي مدة زمنية طويلة عرفت ممارسة هذا الحق حكايات مختلفة بين المنع والتقييد في سياقات متسمة بالتوتر والاحتقان، وبين السماح والترخيص في سياقات أخرى، بين محاولة التقنين أو توظيفه في الخطاب السياسي لمنع الاحتجاج أو مواجهة النقابات، وإعمال سلطة القضاء في الحكم بالمشروعية من عدمها في العديد من القضايا بالوظيفة العمومية أو القطاع الخاص، وبين إطلاق سلطة الإدارة في المنع والتدخل، والسماح بممارسة الاضراب والبناء على نتائجه لتكريس السلم الاجتماعي،  وهو القانون التنظيمي الذي ظلت ستة دساتير تنص عليه، ولم يخرج إلى حيز الوجود طيلة عشر ولايات تشريعية.

إلى غاية لحظة دستور 2011، والذي نص في الفصل 29 منه على أن حق الاضراب مضمون، ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسته، لكن مربط الفرس كان هو منطوق الفصل 86 من الدستور والذي نص على عرض القوانين التنظيمية المنصوص عليها في الدستور وجوبا قصد المصادقة عليها من قبل البرلمان، في أجل لا يتعدى مدة الولاية التشريعية الأولى التي تلي صدور الأمر بتنفيذ هذا الدستور ( 2011 2016)، ليتم إعداده من قبل الحكومة عبد الإله بنكيران في نهاية عمر الولاية وعرضه على المجلس الحكومي والمجلس الوزاري، وإحالته على مجلس النواب بتاريخ 6 أكتوبر 2016، ومنذ ذلك التاريخ وهو مجمد داخل مجلس النواب، خلال ولايتين حكوميتين، إلى غاية الحكومة الحالية والتي افتتحت التشاور عبر تفعيل  الحوار الاجتماعي الثلاثي ل 30 ابريل 2022 واتفاق الحوار الاجتماعي ل 29 ابريل 2024، وهي التواريخ التي شكلت لحظة مركزية في قصة تقنين الاضراب حيث اتفق الشركاء الاجتماعيين على مناقشة القانون التنظيمي للإضراب دون سحبه من البرلمان، وهو ما أتاح إمكانية تقديم مشروع القانون التنظيمي أمام لجنة القطاعات الاجتماعية بمحلس النواب بتاريخ 16 يوليوز 2024، والشروع في مناقشته العامة والتفصيلية، مع فضيلة إحالته على المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، والمجلس الوطني لحقوق الانسان لإبداء رأيه حول المشروع، وصولا إلى تاريخ 24 دجنبر 2024 حيث صادق مجلس النواب على مشروع القانون التنظيمي رقم 97.15 بتحديد شروط وممارسة حق الاضراب، ليتم إحالته على مجلس المستشارين لاستكمال مسطرة التشريع.

ورغم الإيجابيات التي تحققت خلال مناقشة المشروع من لدن مجلس النواب، والتي مكنت من مساهمة فعلية للنواب في خلق جيلا جديدا من القواعد القانونية، عبر تقديمأكثر من 334 تعديلا، وتقليص عدد الأبواب والمواد من 49 إلى 35 مادة، والانتقال من قانون يمنع إلى قانون ذو طابع إيجابي، وحذف بعض المقتضيات واضافة مقتضيات جديدة، ومع ذلك لم يصل المشروع إلى غاية حماية الحق في الاضراب.

وهو ما يجعل لحظة مناقشة مجلس المستشارين لمشروع القانون التنظيمي للإضراب، مناقشة الفرصة الأخيرة لحماية الحق الدستوري في الإضراب، لما تثيره الصيغة المعروضة عليه من 10 عشر ملاحظات:

1. عدم وضوح ودقة لغة القانون التنظيمي بما يفتح المجال للكثير من التأويل والذي قد يكون في غير صالح حماية الحق في الاضراب، وهنا يمكن استعراض مثال ما نصت عليه المادة 2 من مشروع القانون التنظيمي والتي تتضمن تعريفين للإضراب، الأول يهم الاضراب بالمقاولة أو المؤسسات أو المرافق العمومية، والثانية إضراب المهنيين والعمال المستقلين والأشخاص غير الاجراء والعمال المنزليين، علما أن التعريف يجب أن يكون  عاما يكرس المقتضيات الدستورية المنظمة للحق في الاضراب، بالإضافة الى مثال ما نص عليه منطوق المادة 3 من القانون التنظيمي من عدم التمييز بين عرقلة حرية العمل خلال مدة سريان الاضراب واحتلال أماكن العمل، حيث نجد أن تعريف احتلال أماكن العمل هو نفسه تعريف العرقلة، مما يطرح سؤال حول مكان تنفيذ الاضراب هل داخل المؤسسات المعنية أو خارجها؟.
2. مصادرة سلطة تكييف مشروعية الاضراب من السلطة القضائية،واسنادها للمشرع عبر تكييف المادة 5 من مشروع القانون التنظيمي، لكل إضراب يمارس خلاف لأحكام القانون باعتباره اضراب غير مشروع، والأصل أن سلطة تكييف الاضراب هي من اختصاص القضاء لا من اختصاص المشرع.
3. منع الاضراب الناتج عن عدم احترام المشغل لمقتضيات مدونة الشغل أو القانون المنظم للوظيفة العمومية، حيث يتضح من منطوق المادة 3 من مشروع القانون التنظيمي، أنه يحصر الاضراب في الملف المطلبي (الامتيازات اقتصادية أو الاجتماعية أو مهنية) أو القضايا الخلافية (الناتجة عن عدم الاتفاق جول تأويل تطبيق تشريع العمل أو الالتزامات التعاقدية)، وهو ما يعني بالمخالفة جعل الإضرابات الناتجة عن عدم احترام تطبيق القانون غير مشروعة، وهي إضرابات تشكل أزيد من 70 في المائة من الإضرابات المندلعة خلال السنوات الأخيرة خاصة في القطاع الخاص.
4. تضييف مجال تطبيق القانون التنظيمي، من خلال تنصيصه على ثلاثة مقتضيات:
حصره للجهة الداعية للإضراب في النقابات (على اختلاف تمثيلياتها) دون الجمعيات المهنية، علما أن الفصل 8 من الدستور يؤكد على أن ” تساهم المنظمات النقابية للأجراء والغرف المهنية والمنظمات المهنية للمشغلين في الدفاع عن الحقوق والمصالح الاجتماعية والاقتصادية للفئات التي تمثلها”.
منع فئات من الموظفين العموميين من ممارسة حق الاضراب ” كل موظفي وزارة الخارجية / كل موظفي وزارة الداخلية/ الموظفين الدبلوماسيين والقنصليين / الأشخاص الذين تمنعهم النصوص القانونية الخاصة، علما أن منظمة العمل الدولية توصي بأن يكون التضييق محدودا وواضح، بما يتطلب عدم مد المنع إلى كافة الفئات العاملة بالوزارات والقطاعات الحكومية المذكورة في نص المادة 22من مشروع القانون التنظيمي.
تعطيل الحق في الاضراب في المقاولات والمؤسسات التي لا تتوفر على نقابة أكثر تمثيلا، عبر تنصيص المادة 11 من مشروع القانون التنظيمي على شكليات لإعمال الحق في الاضراب من قبيل (الدعوة الى عقد جمع عام بحضور ما لا يقل عن 50% من الاجراء / تحديد اعضاء لجنة الاضراب / وتوقيع محضر من قبل 35% من الاجراء)وهي إجراءات تعطل ممارسة الاضراب في المقاولات والمؤسسات التي لا تتوفر على نقابة أكثر تمثيلا.
5. إقرار آجال طويلة للإشعار بالإضراب تتيح إمكانية تعطل ممارسة الحق في الاضراب، حيث نص منطوق المادة 12 من مشروع القانون التنظيمي على ثلاثة أنواع من الآجال تختلف باختلاف نوعية الاضراب (الملف المطلبي / القضايا الخلافية / وجود خطر الحال)، تصل الى 45 يوم كآجال للإشعار بممارسة الحق في الاضراب، وهي آجال طويلة وتعطل ممارسة الحق بدل من ضمان ممارسته وتحقيق نتائجه في حماية حقوق المضربين، كما يفتح القانون التنظيمي إمكانية السماح بتمديد آجال الإشعار بالإضراب بناء على طلب أحد الأطراف لنصل الى  60 يوما في القطاع العام، و 30 يوم في القطاع الخاص، وهي إمكانية غالبا سيتم اعمالها من قبل الإدارة أو المشغل.
6. إطلاق يد السلطات الإدارية أو السلطة المحلية المختصة لمنع الاضراب،تحت مبرر تأمين استمرار نشاط المقاولة أو المؤسسة المعنية أو المرفق العمومي، واتخاذ تدابير لضمان استمرار نشاط المقاولة بناء على منطوق المادة 13 منمشروع القانون التنظيمي، ذلك دون الحاجة الى العودة الى السلطة القضائية المختصة.
7. تعطيل الحق في ممارسة الاضراب، عبر نص المادة 15 من مشروع القانون التنظيمي على  تكليف الجهة الداعية للإضراب بالسهر على تحديد الأنشطة الضرورية لتفادي اتلاف الممتلكات والتجهيزات والآلات في أماكن العمل وتعيين من سيتكلف بذلك، وجعل فرضية عدم الاتفاق على هذا الالتزام (بين الجهة الداعية للإضراب والجهة المعنية به “إدارة/ المشغل”)، يوقف ممارسة الحق في الاضراب إلى حين صدور حكم استعجال من قاضي المستعجلات، لكن بالإضافة الى التعقيدات التي تطرحها المادة، فإنها الزمت الجهة الداعية للإضراب إلى المبادرة  لرفع الدعوة الاستعجالية أمام القضاء، في الوقت الذي اعفت الجهة المعنية بقرار الإضراب من سلوك المسطرة القضائية، وهو ما يعطل الحق في ممارسة الاضراب ويثقل الجهة الداعية للإضراب بمسؤولية الإجراءات القضائية.
8. توسيع دائرة المرافق الحيوية التي تتطلب حد أدنى من الخدمات، عبر التنصيص على قطاعات كاملة (المؤسسات الصحية / المحاكم/ النقل السككيوالبري / قطاع المواصلات…)، وهو ما يخلف توجه منظمة العمل الدولية التي تنص على ضرورة تدقيق المرافق والخدمات المعنية بوصف “المرفق الحيوية”، بالإضافة الى إيراد مرافق لا يتصور في القوانين المقارنة أن تصل الى درجة مرفق حيوي مثل (بنك المغرب/ مرافق وشركات صناعة وتوزيع وبيع الأدوية، وشركات انتاج وتوزيع مادة الاوكسجين ذات الاستعمال الطبي).
9. فتح الباب على معاقبة الأجير والموظف المضرب  بثلاثة عقوبات تأديبية وجنحية بسبب ممارسته حق الاضراب، الأولى المنصوص عليها في المادة 6 من مشروع القانون التنظيمي والتي تقر قاعدة الاجر مقابل العمل، مما يحرم المضربين من أجور أيام الإضراب، والثانية المقررة بمنطوق المادة 23 من مشروعالقانون التنظيمي والتي تعتبر كل عامل مارس حق الاضراب دون التقيد بالإجراءات القانونية في حالة تغيب عن العمل بصفة غير مشروعة، وتفتح المجال للمشغل باتخاذ العقوبات التأديبية الجاري بها العمل والتي تصل في القطاع الخاص الى الفصل من العمل ( في حالة التغيب 3 أيام دون مبرر)، والثالثة هي فتح إمكانية إعمال العقوبات التأديبية المقررة في مقتضيات مواد مشروع القانون التنظيمي للإضراب والتي هي عبارة عن غرامات تصل الى 50.000 درهم.
10. قانون تنظيمي يكرس العقوبات التأديبية والجنائية بشكل مباشر وغير مباشر على الأجراء المضربين، والتي تتجسد بشكل مباشر عبر تضمين مشروع القانون التنظيمي لغرامات مالية تفرض على الجهة الداعية للإضراب تتراوح بين 5000 درهم و وتصل الى 50.000 درهم، وبشكل غير مباشر حيث لم ينسخ القانون التنظيمي مقتضيات المادة 288 من القانون الجنائي، الذي يعاقب على التوقف الجماعي عن العمل أو الاستمرار بالحبس من شهر إلى سنتين وبغرامة من مئة وعشرين إلى خمسة آلاف درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط ، وهو ما يعني بقاء مقتضيات هذه المادة في المنظومة القانونية الجنائية الوطنية ساري المفعول.

إن مناقشة مشروع القانون التنظيمي للإضراب داخل مجلس المستشارين لا يجب أن تكون وفق منطق الاصطفاف بين الأغلبية والمعارضة وهو منطق يحسم النتيجة بشكل مسبق لصالح الحكومة المتوفرة على أغلبية مريحة بالمجلس تسمح لها باستكمال مسطرة التشريع، بل يجب أن يكون فرصة للحكومة للاستماع لأصوات وتعبيرات مختلف الفرقاء الاجتماعيين والاقتصاديين الممثلين بمجلس المستشارين، و لاستكمال كتابة النص الدستوري وفق روح التوافق الوطني الذي بدأ مع مأسسة الحوار الاجتماعي واستمر لحظة الاستماع لرأيين استشاريين (للمجلس الوطني لحقوق الانسان والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي)، وتجسد خلال المناقشة والتصويت على المشروع بمجلس النواب، وهي لحظات أساسية تعتبر تمرين ديمقراطيا و بيداغوجيا لقدرة جميع الأطراف على انتاج تشريع للمستقبل يضمن الحق الاضراب ويحمي حرية العمل.

كما أن القانون التنظيمي للإضراب وعلى أهميته الدستورية والتشريعية إلا أنه سيبقى معطلا من حيث التطبيق مالم تكتمل الترسانة القانونية والمؤسساتية المحيطة به والتي يشتغل داخلها، خاصة مقتضيات تشريعية تستعجل المراجعة والتجويد من قبل القانون المنظم للانتخابات المهنية وانتخابات اللجان الثنائية للموظفين، ومراجعة مدونة الشغل، وإصلاحات تشريعية ومؤسساتية أخرى يحتمل أن تكون من نصيب حكومة 2026 من قبيل قانون النقابات المهنية وإصلاح قانون الوظيفة العمومية، ومحاربة الاقتصاد غير المهيكل وتأهيل جهاز تفتيش الشغل من قطاع حكومي إلى وكالة وطنية  لتفتيش الشغل( مؤسسة عمومية).

تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الجمعة 7 فبراير 2025 - 15:16

استمرار عملية هدم السوق النموذجي “باب مراكش” بالمدينة القديمة الدارالبيضاء

الجمعة 7 فبراير 2025 - 13:09

تحديد مدارات الحماية حول منشآت جلب الماء للتغذية العمومية

الجمعة 7 فبراير 2025 - 11:30

مجلس النواب يختتم دورته الأولى الثلاثاء المقبل…

الجمعة 7 فبراير 2025 - 11:15

الفريق الاشتراكي يقترح تعديلا على مدونة السير لإنهاء الجدل حول مخالفات أضواء المركبات…

error: