أحمد بيضي
في سياق تفعيل التوصيات الصادرة عن ندوة 2024 المنعقدة بالقصابي تحت شعار “القصابي محطة رائدة في تاريخ مجال ملوية العليا”، تستضيف المنطقة، يوم الأحد 11 ماي 2025، فعاليات الملتقى الوطني الأول، وذلك برعاية جمعية تداموت للتنمية وبشراكة مع جمعية آباء وأولياء التلاميذ، ومشاركة ثلة من الباحثين والمهتمين بالشأن التاريخي والتراثي لقصابي ملوية ومحيطها، ويأتي هذا الحدث العلمي والثقافي استجابة لحاجة ملحة إلى توثيق التاريخ المحلي للمنطقة، وحفظ ذاكرتها الجماعية في أبعادها الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، وربط ماضيها الغني بحاضرها الطموح نحو التنمية والتأهيل.
الملتقى الذي ستستضيفه “الثانوية التأهيلية أبو حنيفة النعمان”، من المقرر أن يفتتح بكلمات تمثيلية لكل من جمعية تداموت ورئيس جمعية الآباء ومديرة المؤسسة، لتتلوها سلسلة مداخلات علمية متنوعة تلامس موضوعات بالغة الأهمية في قراءة تاريخ القصابي، حيث يستهل الدكتور عبد العزيز بلبكري البرنامج بمداخلة حول “أهمية الوثيقة في كتابة التاريخ المحلي: قصابي ملوية أنموذجا”، تليها مداخلة للدكتور يوسف أيت لمقدم بعنوان “لمحات تاريخية للقصابي عبر النصوص”، ثم يقدم الأستاذ عبد الوحيد بن الطالب مداخلة تحت عنوان “قصابي الشرفاء من خلال وثائق ومخطوطات”، وهو ما يعكس غنى الأرشيف المحلي وأهميته في صياغة تاريخ دقيق ومنصف للمنطقة.
وتتواصل الجلسات بمساهمة الأستاذ محمد افضيلي الذي يستحضر في مداخلته “عبق التاريخ والتراث في القصابي”، لتعقبه الدكتورة للا لطيفة كربيجي التي تسلط الضوء على “البعد السوسيو-أنثروبولوجي لتفاعل الإنسان والمجال المعدني بواحة القصابي”، كما يشارك الدكتور عبد المجيد أو طالب بمداخلة حول “جوانب من التحولات الاجتماعية التي أفرزها استغلال الرأسمال الفرنسي لمناجم حوض ملوية العليا”، تليها مداخلة الباحثة خولة أغماد بعنوان “الاستغلال المنجمي بأحولي وميبلادن”، لُتختتم الجلسات بمناقشة جماعية وتوصيات عملية، قبل الانتقال إلى فقرة غذاء شرفي وزيارة ميدانية للمشاركين.
الملتقى يستند إلى أرضية علمية تنطلق من كون القصابي ومحيطها جزءً من حوض ملوية العليا، الذي ظل يتزود من المياه الدائمة لمرتفعات الأطلس الكبير الشرقي، خصوصا من جبل العياشي، مما وفر ظروف الاستقرار البشري منذ أزمنة غابرة، وقد شكلت وفرة المياه نقطة ارتكاز للاستقرار البشري والازدهار الاجتماعي، مما جعل القصابي واحدة من الحواضر البارزة التي طبعت شخصية المنطقة حضاريا وروحيا ونضاليا، تؤكد المصادر التاريخية والجغرافية والأدبية والفقهية، المحلية منها والأجنبية، المكانة المحورية للقصابي ضمن الشبكة التاريخية للمغرب، خاصة بالنظر إلى موقعها الاستراتيجي على طريق القوافل بين إفريقيا جنوب الصحراء وأوروبا عبر فاس وسبتة.
عرفت المنطقة توافدا بشريا متنوعا وموجات من الاستقرار، وهو ما ترك بصماته في التنظيمات الاجتماعية والمؤسسات العمرانية والأحداث التاريخية، وبرز من خلال قصور عدة كبصمات عمرانية شاهدة على هذا التفاعل، مثل قصر مركونة، والسمفوني، وأولاد رزين، وأطراز، والحوش الكبير، وآيت بلال، وعياط، وبوسلام، وإسرارن، وسعيدة، وتاغيت، وتامدفلت، وتوقديمت، وقصبة المخزن الإسماعيلية، كما عرفت القصابي استقرار عناصر من البيوتات الشريفة القادمة من تافيلالت منذ نشوء الدولة العلوية، إضافة إلى قبائل مجاورة مثل أولاد خاوة، وأولاد التاير، وآيت ازدك، وآيت اسغروشن، وآيت أوفلا، وغيرها.
رغم بعدها عن مركز القرار السياسي، وفق الأرضية العلمية والتاريخية، تحولت القصابي في زمن الحماية إلى منفى للوطنيين من طينة الفقيه محمد بن العربي العلوي، الذي حول منفى القصابي إلى منبر للوعي الديني والسياسي والاجتماعي، وساهم في ترسيخ الحس الوطني لدى ساكنة المنطقة، كما فعل في منافيه الأخرى بمدغرة وتزنيت وميسور. إلا أن ما كُتب عن المنطقة، سواء من طرف المغاربة أو الأجانب، لا يزال دون ما تستحقه من دراسة أكاديمية معمقة، ما يستوجب المزيد من البحث والتوثيق لدحض الأحكام الكولونيالية المجحفة، والمساهمة في حفظ التراث المادي واللامادي للمنطقة.
وقد أسهم العديد من المؤلفين في توثيق تاريخ القصابي ومجال ملوية العليا، من بينهم هاشم بن أحمد في منظومته “القصيدة المنورة في نسب الشرفاء البررة”، وأحمد الولالي في كتابه “مباحث الأنوار في أخبار بعض الأخيار”، ومحمد الزكي بن هاشم العلوي في مخطوطتيه “مطالع الزهراء في ذرية بني الزهراء” و”المطالع الزهراء الجامعة لأسماء بني الزهراء”، وإدريس الفضيلي في “الدرر البهية والجواهر النبوية”، ومحمد المشرفي في “الحلل البهية في ملوك الدولة العلوية وعد بعض مفاخرها غير المتناهية”، وعبد الأحد السبتي في مؤلفه “بين الزطاط وقاطع الطريق: أمن الطرق في مغرب ما قبل الاستعمار”.
ذلك فضلا عن الرحالة الفرنسي شارل دوفوكو في “التعرف على المغرب 1883 – 1884″، إضافة إلى مساهمة أبناء المنطقة أنفسهم في بناء أسطوغرافيا محلية نوعية، مثل الأستاذ مولاي أحمد بالفقيه في مؤلفه الفرنسي “De l’Histoire sociale locale de la moyenne moulouya, d’après des documents inédits conservés à qsabi chorfa”، وأطروحة الأستاذ عبد العزيز حفيظي (2023) المعنونة “قصابي ملوية: إسهام في دراسة تاريخ البوادي المغربية ما بين القرنين 17م و20م من خلال الأرشيف المحلي والأجنبي”، وكتاب الأستاذ محمد فضيلي “مطرز الكلام في الحكي والأنغام”، فضلًا عن الكتابات الأكاديمية للدكتورة آمنة أعوشار إهراي.
وتجمع مصادر المنظمين للملتقى على أن هذا الحدث العلمي يأتي كتتويج لوعي جماعي بضرورة الاعتناء بتاريخ القصابي وتثمين تراثها في بعديه المادي واللامادي، كما يروم تعزيز العمل التضامني والتنموي، وربط جسور التواصل بين الكفاءات المحلية والوطنية، وتكوين بنك معلومات خاص بمجال ملوية العليا، وتقديم اقتراحات بحثية للباحثين الشباب، وترسيخ قيم المواطنة لدى الناشئة، وفيما تعد التظاهرة محطة بارزة في مسار إعادة الاعتبار لواحة القصابي وأحوازها، من خلال تنشيط الذاكرة الجماعية وتحويلها إلى رافعة للتنمية الثقافية والسياحية والاجتماعية في مغرب الجهات.
تعليقات
0