في كل مرة تصدر فيها المندوبية السامية للتخطيط مذكرة حول تطور الأسعار، ينبعث من الأرقام الرسمية نوع من الطمأنينة “التقنية” التي لا تجد صدى لها في واقع الناس. تقرير شهر أبريل 2025 ليس استثناءً. بل هو نموذج واضح للفجوة المتسعة بين لغة الإحصائيات وصرخة المواطن الذي يعيش يوميًا على هامش الكرامة.
الرقم الاستدلالي للأثمان عند الاستهلاك انخفض بـ0,3%، حسب ما تشير إليه المندوبية، بفعل تراجع أسعار المواد الغذائية بنسبة 0,6%، والمواد غير الغذائية بنسبة 0,2%. ويبدو أن الحكومة رأت في هذه النسب رسالة تفاؤل، لكنها تغفل أن الواقع الاجتماعي لا يُقاس بالأرقام المعزولة بل بما تحمله القفة اليومية من ثقل، وبما تقوله الجيوب الفارغة عن القدرة الشرائية.
تراجع أسعار “السمك وفواكه البحر” بـ4,5%، و”اللحوم” و”مشتقات الحليب” بـ2,6% قد يبدو مهمًا في لغة البيانات، لكنه لا يغيّر شيئًا في معاناة الأسر محدودة الدخل، التي بالكاد تبلغ أسواق هذه المواد، حتى في أحسن الظروف. أما في المقابل، فقد ارتفعت أثمان “الفواكه” بنسبة 4,9%، و”الخضر” بـ0,6%، و”القهوة والشاي” بـ0,2%. وهذه هي بالضبط المواد التي تملأ موائد المغاربة يوميًا، وتعكس بدقة ما يعنيه التضخم في حياة المواطن.
التقرير يكشف أيضًا عن تفاوتات مجالية صارخة في أسعار الاستهلاك. مدن مثل العيون (-1,1%) وبني ملال (-1,0%) والقنيطرة (-0,9%) سجلت انخفاضات طفيفة، بينما شهدت مدن أخرى ارتفاعًا ملحوظًا، كما في فاس (+0,7%) وطنجة (+0,5%) والحسيمة (+0,2%). هذا التفاوت يفضح فشل السياسات العمومية في تحقيق عدالة مجالية حقيقية، ويجعل من الجغرافيا عاملًا إضافيًا في تحديد مستوى المعاناة.
وإذا كان التضخم الأساسي، الذي يُستثني منه ما يسمى بالمواد ذات التقلبات العالية، قد عرف انخفاضًا شهريًا بـ2,0%، فإنه على المستوى السنوي ارتفع بـ2,1%. هنا يتضح أن لغة الأرقام وحدها عاجزة عن إخفاء حقيقة أن أسعار العيش ترتفع بشكل مطرد، خصوصًا في المواد والخدمات التي تمس الحياة اليومية بشكل مباشر.
في ظل هذا الواقع، يبقى السؤال مطروحًا: أين السياسات الاجتماعية؟ وأين نتائج برامج تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية؟ وكيف يمكن لمواطن أن يشعر بأي “تحسن” وهو لا يرى أمامه سوى ارتفاع فواتير الماء والكهرباء، وغلاء المحروقات، وتكاليف النقل، وتدهور الخدمات الأساسية في الصحة والتعليم؟
ما نعيشه اليوم هو مشهد متكرر من التناقض بين خطاب الدولة وواقع المواطن. وبينما تطمئن الحكومة نفسها بأرقام المندوبية، يجد المواطن نفسه عند مفترق طرق: بين أسعار تزداد، وخدمات تتراجع، وأفق اجتماعي يزداد انسدادًا.
لقد آن الأوان لتجاوز الحسابات الورقية، والانصات لصوت المواطن الذي لم يعد يقوى على مجاراة إيقاع الفقر المتسارع. فخريطة الفقر لا تُرسم فقط على الورق، بل تُقرأ في ملامح الوجوه المتعبة، وفي صمت الأحياء الشعبية، وفي نزيف القرى المهمشة.
تعليقات
0