في زمن تزداد فيه الحياة ارتباطا بالعالم الرقمي، لم تعد مفاهيم التنشئة الاجتماعية حبيسة الأسرة والمدرسة والمحيط الواقعي، بل امتدت إلى الفضاء السيبراني، حيث يشكل الإنترنت مجالا موازيا لصياغة سلوك الأطفال والمراهقين، وبلورة وعيهم، وتشكيل هوياتهم.
من هنا، يبرز الدور المحوري للتنشئة الاجتماعية الرقمية كوسيلة لتعزيز الأمن السيبراني لدى الناشئة، وحمايتهم من التهديدات الإلكترونية المتزايدة.
* ما هي التنشئة الاجتماعية الرقمية؟
اذا كان تعريف التنشئة الاجتماعية هي العملية التي يكتسب من خلالها الفرد القيم والمعايير والسلوكيات المقبولة داخل المجتمع. في صيغتها الكلاسيكية، تشمل الأسرة، المدرسة، الأقران، والمؤسسات الثقافية.
فيمكن تعريف التنشئة الاجتماعية الرقمية التي ظهرت بعد الثورة الرقمية ، بانها هي انتقال هذه الوظائف التربوية إلى منصات الإنترنت، من شبكات التواصل الاجتماعي إلى الألعاب الإلكترونية، مرورا بالمحتوى الرقمي التفاعلي.
و تحولت بذلك مصادر التأثير ، فبعدما كانت الأسرة والمدرسة تتحكمان في القيم المنقولة، أصبح الطفل معرضا لتأثيرات متشابكة من مؤثرين على “تيك توك” و”يوتيوب”، وأقران افتراضيين، ومحتوى لا يخضع دوما للرقابة أو التوجيه.
* الأمن السيبراني: مفهومه ومخاطره على الأطفال
يقصد بـالأمن السيبراني حماية الأنظمة والمعلومات والشبكات من الهجمات أو الاستخدامات غير المشروعة.
فبالنسبة للناشئة، يتخذ الأمن السيبراني بعدا وقائيا وأخلاقيا في آن واحد ، و ان المخاطر لا تقتصر فقط على الاختراقات التقنية، بل تشمل كذلك:
▪︎التنمر الإلكتروني: الإهانة أو التهديد عبر الإنترنت.
▪︎الاستدراج الجنسي: استغلال الأطفال من خلال التطبيقات.
▪︎الألعاب الخطيرة: تحديات تحرض على العنف أو الانتحار.
▪︎الاحتيال الرقمي: سرقة بيانات أو أموال من حسابات القاصرين.
و التعامل مع هذه التهديدات يتطلب وعيا استباقيا، تتطلب الوقاية التي لا تعتبر خيارا فقط ، بل ضرورة تربوية.
* الأسرة: الحلقة الأولى في التربية السيبرانية
تلعب الأسرة دورا أساسيا في غرس قيم الاستخدام المسؤول للتكنولوجيا. ويبدأ هذا من:
▪︎ التوعية بالمخاطر المحتملة قبل منح الطفل أي جهاز ذكي.
▪︎ وضع قواعد واضحة لاستخدام الإنترنت (المدة، المحتوى، الخصوصية).
* التواصل الفعال والثقة: حين يشعر الطفل أن بإمكانه مشاركة مخاوفه دون عقاب.
* القدوة الرقمية: فليس من المنطقي أن ينصح الآباء أبناءهم بالاعتدال الرقمي، وهم غارقون في هواتفهم دون انقطاع.
* المدرسة والمناهج التربوية: من التعليم إلى التحصين
فالمدرسة لم تعد فقط فضاء لنقل المعارف، بل مطالبة اليوم بلعب دور في التحصين الرقمي. وهذا يتحقق من خلال:
▪︎ إدماج مفاهيم الأمن السيبراني في المناهج، خاصة في مواد مثل الإعلاميات، التربية على المواطنة، أو التربية الأخلاقية.
▪︎ تنظيم ورشات حول “السلامة الرقمية” أو “حقوق الطفل الرقمية”.
▪︎ تكوين الأطر التربوية على كيفية التعامل مع مظاهر مثل التنمر الرقمي أو مشاركة الصور الخاصة.
* الإعلام والمحتوى الرقمي: بين المسؤولية والتأثير
إن وسائل الإعلام، بما فيها المنصات الاجتماعية، أصبحت طرفا رئيسيا في التنشئة الرقمية. ليبقى السؤال الجوهري هو هل تقدم هذه الوسائط محتوى يساهم في تعزيز الأمن السيبراني؟
إن المحتوى الموجه للطفل غالبا ما يفتقر لمضامين توعوية.
و أن المؤثرون، رغم شعبيتهم، نادرا ما يلتزمون بالضوابط التربوية.
و الإعلام التربوي يجب أن يدعم التحصين الرقمي، لا أن يكون سببا في هشاشته.
* المجتمع المدني والسياسات العمومية: نحو استراتيجية وطنية
لا يمكن للأسرة والمدرسة وحدهما تحمل عبء التربية الرقمية.
فالجمعيات والمبادرات المدنية تلعب دورا متناميا في التوعية، من خلال حملات في المدارس، وتنظيم لقاءات للآباء، وورشات موجهة للأطفال.
من جهة أخرى، تبرز الحاجة إلى استراتيجية وطنية للأمن السيبراني التربوي، تشرك الوزارات، مزودي خدمات الإنترنت، الفاعلين التربويين، والأسر.
بعض الدول مثل فنلندا، كندا، واستونيا، تعد نماذج رائدة في هذا المجال، حيث باتت التربية الرقمية جزءا من الهوية المدرسية.
على العموم، إن تعزيز الأمن السيبراني لدى الناشئة لا يتحقق فقط عبر تقنيات الحماية، بل يبدأ من الوعي التربوي الذي تغرسه الأسرة، وتدعمه المدرسة، ويتكامل مع الإعلام والمجتمع المدني.
إنها مسؤولية جماعية تتطلب تربية رقمية حقيقية، تحول الطفل من مستهلك سلبي إلى مواطن رقمي واع، مسؤول وآمن.
تعليقات
0