نحو نظام باكالوريا واحد وفعّال: الحل الأمثل لمواجهة التحديات التعليمية والاقتصادية

محمد اليزناسني الأربعاء 18 يونيو 2025 - 20:01 l عدد الزيارات : 11855

الدكتور سعيد جميل – أستاذ التعليم العالي

يواجه نظام البكالوريا في المغرب اليوم مجموعة من التحديات التي تثير تساؤلات عميقة حول نجاعته وملاءمته لمتطلبات المرحلة الراهنة. ففي دورة هذه السنة، لم يتجاوز معدلالنجاح الوطني 67%، وهو معدل يبقى محدوداً مقارنةً بما تحقق في عدد من دول حوض البحر الأبيض المتوسط، مثل فرنسا التي بلغت نسبة النجاح فيها 91.4% سنة 2024، وإسبانيا ـ94%، ولبنان بأكثر من 90%، وإيطاليا التي سجلت أكثر من 99% خلال سنة 2025. هذه الفوارق تفتح النقاش حول البنية التنظيمية والتقييمية لنظام البكالوريا المغربي، ومدى حاجته إلى قراءة جديدة تراعي تطور السياقين الوطني والدولي.
تجدر الإشارة إلى أن المغرب قد عرف أول إصلاح هيكلي لمنظومة البكالوريا في أواخر الثمانينيات (1987)، حيث تم تقسيم هذا السلك إلى سنتين: السنة الأولى بكالوريا، والسنة النهائية، بهدف تحسين التدرج في التعلم وتعزيز جاهزية التلاميذ للالتحاق بالتعليم العالي. ومع ذلك، فإن اعتماد هذا الهيكل لم يكن مصحوباً حينها بأي نظام للترجيح في التنقيط، إذ استمر التقييم يعتمد بشكل كامل على نتائج الامتحانات النهائية للسنة الختامية.
ولم يبدأ العمل بنظام التقييم المتعدد إلا ابتداءً من سنة 2003 في إطار الميثاق الوطني للتربية والتكوين، حيث تم إدماج ثلاث مكونات أساسية في احتساب المعدل العام لشهادة البكالوريا: المراقبة المستمرة بنسبة 25%، التي تُحتسب داخل المؤسسة التعليمية؛ والامتحان الجهوي في السنة الأولى بكالوريا بنسبة 25%؛ ثم الامتحان الوطني الموحد في السنة النهائية بنسبة 50%، وهو ما يشمل مواد التخصص حسب كل شعبة. وقد شكل هذا التحول خطوة نوعية في إعادة هيكلة طرق تقييم المترشحين لشهادة البكالوريا، عبر اعتماد توزيع أكثر توازناً للمسؤولية بين المؤسسة التعليمية والمراكز الجهوية والوطنية.

وفي الظاهر، قد يبدو هذا التقسيم منظمًا؛ إلا أنه في الواقع يسبب اضطرابًا كبيرًا في مسار التلميذ الدراسي، ويشتت انتباهه ويقلل من جاهزيته للمواد التخصصية التي يحتاجها للدراسة في الجامعة. حيث يجد التلميذ نفسه ملزمًا بالتوفيق بين مواد الامتحان الجهوي ومواد تخصصه، ما يؤثر سلبًا على تركيزه و أدائه في المواد الأساسية لتخصصه.

حيث يشهد التلميذ في السنة الأولى من البكالوريا انشغالاً شبه كامل طوال الدورة الثانية، وأحياناً طيلة العام الدراسي، بالتحضير لمواد الامتحان الجهوي فقط، متجاهلاً عن قصد أو تحت ضغط مواد التخصص التي يجب عليه إتقانها في السنة الثانية والأخيرة من الثانوي. هذا الوضع، يُسبب اختلالًا في ترتيب الأولويات الدراسية، حيث تُهمش المواد التخصصية الضرورية للتوجيه الجامعي والمسار المهني، الأمر الذي يؤثر سلباً على جاهزية التلميذ للسنة النهائية، التي تشكل نصف المعدل الإجمالي للبكالوريا.

بالإضافة إلى ذلك، تتفشى ظاهرة الدروس الدعم الخصوصية بشكل لافت، خصوصًا في السنة الأولى بكالوريا. فمع ضغط الامتحان الجهوي، يضطر التلميذ لحضور ساعات من الدعم خارج المدرسة، ما يؤدي إلى إرهاق جسدي وذهني يؤثر على مردوديته في مواد التخصص خلال اليوم الدراسي داخل المؤسسة. كما تتحمل الأسر كلفة مالية مرهقة، تساهم في توسيع الفوارق الاجتماعية، خاصة في المناطق الحضرية.

ومن ناحية أخرى والأخطر، وربما الأكثر ضررًا على المدى البعيد، هو أن تنظيم امتحان الجهوي في نهاية شهر ماي كما هو شئن في هذه السنة، يؤدي فعليًا إلى إفراغ الثانويات من تلامذتها قبل الأوان، لأن هذه المؤسسات تتحول إلى مراكز للامتحانات أو التصحيح، ويُفرض على باقي التلاميذ ما يشبه “عطلة غير معلنة”. فينتقل التلميذ من عطلة الصيف المقررة شهرين، إلى عطلة تمتد في الواقع إلى ثلاثة أشهر أو أكثر، وهو ما يؤدي إلى انقطاع طويل عن الدراسة، يجعل الدخول المدرسي في شتنبر صعبًا ومربكًا بالنسبة للتلاميذ، ويضطر الأساتذة إلى إعادة بناء وتثبيت المعارف الأساسية لمواد التخصص التي من المفترض أن تكون قد استُوعبت في الموسم السابق، مما يعيق التخطيط البيداغوجي لبداية السنة الدراسية الجديد.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار تنظيم الباكالوريا على سنتين، وضعف التركيز على مواد التخصص، والضغط النفسي، والرهان على النجاح في الامتحان الجهوي في المواد الثانوية، وتمديد العطلة الصيفية، سندرك أن جزءًا كبير من ضعف نسبة النتائج في الباكالوريا المغربي يعود حتمًا لهذا الاختيار التنظيمي. حيث أصبح هذا التنظيم المعتمد للامتحان متجاوزًا، خاصة بعد مرور أكثر من عقدين على اعتماده، ولم يعد ملائمًا للواقع الراهن، خصوصًا وأن أنظمة التقييم ينبغي أن تُراجع بشكل دوري لتواكب حاجيات الأجيال المتعاقبة وتستجيب لتحولات المجتمعات.

ناهيك عن جانب الخلل في مسار التوجه والتأثير على الاندماج والنجاح في التعليمالجامعي. قد لوحظ أن نسبة كبيرة من التسرب في التعليم الجامعي، حيث يترك العديد من الطلبة الدراسة في السنة الأولى أو الثانية من التعليم العالي، وهو ما يمثل خسارة كبيرة لفرص تكوين الكفاءات الشابة وتأثيراً سلبياً على مستقبلهم المهني.

إضافتا على هذا الفادح الفاضح البيداغوجي والأكاديمي وكذلك الإنساني، إن هذا النظام الذي يقسم البكالوريا على سنتين يزيد أيضاً من التكاليف المالية على الدولة، حيث تصل ميزانية تنظيم كل دورة إلى حولي عشارات ملايين درهم، تشمل بلورة وطباعة الامتحانات، التوزيع، المراقبة، وعملية تصحيح والتأمين، ناهيك عن هذا، مكافحة الغش وتعبئ جميع الأجهزة المنية، وعناصر الوقاية المدنية من أجل تأمين اختبارات البكالوريا طيلة ثلاثة أيام.

ومن الجانب الاقتصادي، يؤثر غياب الآباء عن عملهم لمرافقة أبنائهم في فترة الامتحانات على الإنتاجية الوطنية، إذ يشكل هؤلاء نسبة حولي 2 إلى 3% من القوة العاملة، مما يسبب خسائر مالية ملموسة.

إن المطلوب اليوم ليس فقط التخفيف من الضغط على التلاميذ، ولكن إعادة الاعتبار للمواد التخصصية، وتثمين مجهودات السنة الأولى، وإدماج التقويم بشكل متوازن داخل الفصل الدراسي، مع عقلنة الزمن المدرسي وضمان استمرارية التعليم إلى غاية نهاية الموسم

هذه المشاكل تؤكد أن نظام البكالوريا الحالي يحتاج إلى إصلاحات جذرية تركز على توجيه التلاميذ نحو تخصصاتهم منذ السنة الأولى من التعليم الثانوي، أي مرحلة “الجدع المشترك”، بدلاً من أن ينتظروا حتى السنة الثانية من الثانوي لاختيار تخصصهم. هذا التغيير سيساعد التلاميذ على التركيز بشكل أفضل، ويحسن نتائجهم، كما يقلل من الأعباء المالية والتنظيمية على الدولة.

و لتجاوز جميع الاشكاليات، يبدو أن الوقت قد حان لإعادة التفكير في بنية امتحان الباكالوريا بالمغرب. إد يجب إعادة تنظيم امتحان البكالوريا في سنة واحدة فقط، أي في السنة النهائية من التعليم الثانوي. على أن يتم تقييم التلاميذ بشكل رئيسي في مواد تخصصهم، بالإضافة إلى مادة الفلسفة ومادة لغوية اختيارية. وينبغي أن تشكل هذه المواد 60% من المعدل العام.
ما النسبة المتبقية 40%، فيُقترح تقسيمها إلى شقّين متكاملين: 20% تُخصص للتقويم المستمر داخل المؤسسة التعليمية، من خلال تتبع أداء التلميذ خلال السنة الدراسية، و20% تُخصص لتنمية المهارات الحياتية والكفاءات السلوكية وقدرات التعامل، وذلك عبر مشاريع مدرسية جماعية يقوم بها التلاميذ داخل المؤسسة. يجب أن يتم هذا العمل خلال السنة الثانية من التعليم الثانوي، أي قبل الوصول إلى السنة النهائية، حتى يتمكن التلميذ من تطوير قدراته في الوقت المناسب، وعدم تأجيل هذا التكوين إلى مرحلة الامتحان النهائي. وتتمحور هذه المشاريع حول مواضيع مدنية وتربوية مختارة بعناية، تُعرض أمام التلاميذ وهيئة التدريس، مما يعزز روح المبادرة والعمل الجماعي والتواصل والانخراط في الحياة المدرسية.

في النهاية، مستقبل التعليم في المغرب مرتبط بمدى قدرة المسؤولين على تحديث هذا النظام بما يخدم مصلحة التلاميذ والاقتصاد الوطني، ويجعل المغرب منافساً بين الدول في جودة التعليم وفرص النجاح.

تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الأربعاء 18 يونيو 2025 - 21:50

ترامب يلوّح بالتدخل وخامنئي يتوعد: الحرب بين إيران وإسرائيل تدخل مرحلة جديدة

الأربعاء 18 يونيو 2025 - 21:10

الفريق الاشتراكي بمجلس النواب يواصل دوره الرقابي والتشريعي عبر مساءلة الحكومة في عدد من القطاعات الحيوية

الأربعاء 18 يونيو 2025 - 19:46

تراجعات متتالية تهز بورصة الدار البيضاء… مؤشرات في المنطقة الحمراء فإلى أين تتجه الأسهم المغربية؟

الأربعاء 18 يونيو 2025 - 17:39

الاتحاد الاشتراكي… حزب لا يُرهب ولا يُرْهب

error: