من جديد، تعود إلى واجهة الإعلام ومنصات التواصل ملفات الفساد المالي والإداري التي عصفت بقطاعات كبرى في المغرب. في التعليم مثلًا، تبخرت 4300 مليار سنتيم في ما سُمي ذات زمن “إصلاحًا” ظلّ حُلمًا، وتحوّل إلى سراب. وفي الفلاحة، المخطط الأخضر الذي طُبل له طويلًا، تحوّل اليوم إلى مجرد ذكرى، ونحن نستورد الشاي من الصين، والسكر الذي كان يأتينا من دكالة غاب عن المائدة، بل وحتى الحليب والقمح صرنا نرتجف كلما اشتعلت أسعارها في الأسواق العالمية.
وفي قلب هذا العبث، تستمر سياسة “الفراقشية” والدعم الريعي: للأبقار، للأغنام، للماعز، للإبل، للدواجن، للبيض… دعم مباشر وغير مباشر، بلا أثر تنموي ملموس، بل بفاتورة تثقل كاهل الدولة وتُغني شبكات الريع. حكومة لا تجد حرجًا في الإعلان عن استعدادها لدعم “ملايين” من المواطنين، بينما المطلوب ليس مزيدًا من الدعم، بل الخروج من منطق الدعم أصلًا.
إننا بإصرارنا على الدعم بدل التشغيل، نكرّس اقتصادًا خاملاً، لا يُنتج ولا يُنافس، بل يتوسل البقاء بالإنعاش. نرعى مواطنًا لا شريكًا، نغرق في خطاب العطف بدل التمكين، وننسى أن المساعدات لا تصنع أمة. الدول التي تقدمت لم تفعل ذلك عبر صناديق الدعم، بل عبر العدالة الاجتماعية، وجودة التعليم، وربط المسؤولية بالمحاسبة.
ولا يمكن فصل هذا المشهد عن ما أصبحت تُعرف به بعض التيارات الحزبية من قفزات سياسية مرتجلة، وجدت في القفف وشعارات “الدعم” واجهة دعائية رخيصة لتلميع الصورة، والهروب من مسؤولية صياغة سياسات تنموية حقيقية. إن القفف لم تعد مجرد مساعدة ظرفية، بل تحولت إلى رمز لسياسة الإذلال، أُفرغت من بعدها الإنساني، وصارت تُوزع بعدسات الكاميرات، وتُستعمل كأداة انتخابية تمسّ جوهر كرامة الإنسان.
بعض الأحزاب لا تملك الجرأة على إصلاح التعليم، ولا القدرة على النهوض بالصحة، ولا مشروعًا للاقتصاد الاجتماعي، فتُمعن في تسويق صور “الخير وحتى الجود “، وكأنها تعطي من جيبها، بينما تُعيد إنتاج الفقر، وتطبع مع التهميش، وتُديم التبعية. إنها سياسة بصرية، لا بَصيرة فيها، تُسوق الفاقة بدل أن تحاربها، وتُعيد تدوير المعاناة بدل معالجتها.
إن المغرب لا تنقصه الموارد الطبيعية فقط، بل تنقصه أكثر سياسات شجاعة تُحسن تدبير الموارد البشرية. لدينا طاقات شابة في الأحياء الشعبية، وفي القرى والجبال، تصنع المعجزات حين تُمكَّن من أدوات الإنتاج والتمويل والتكوين. هؤلاء لا ينتظرون صدقة، بل ينتظرون من يفتح لهم باب الفرصة.
ويبقى أن نشير إلى ما هو أخطر: إن التعامل مع الفقر والفقراء وكأنهم “احتياطي انتخابي” دائم، يعيش على جرعات محسوبة من “الخير”، هو تبخيس للوطن، وامتهان لكرامة الإنسان. الفقر لا يُعالج بالصدقة، ولا بالبرامج الموسمية، ولا بالقفف التي تُوزع بالكاميرات، بل بسياسات تُمكّن الإنسان من الوقوف على قدميه، لا من البقاء تحت رحمة المانحين.
إن تحويل الفقر إلى أداة انتخابية هو تعطيل متعمد لطاقات واعدة، وسلبٌ لكرامة وحرية الإنسان. حين يُختزل المواطن في بطاقة دعم، أو رقم في سجل اجتماعي، يصبح الوطن مجرد إدارة توزيع، لا فضاءً للحرية والعدالة والكرامة.
والأدهى من ذلك، أن تقسيم الوطن والمواطنين إلى فئات: أرامل، مطلقات، ذوي إعاقة، مهمشين، فقراء، مناطق ظل… لا يمكن أن يكون أبدًا مدخلًا لمعالجة جذرية للوضع، إذا لم يُقرن بمنظور مغاير يرى في هؤلاء طاقات كامنة، لا مجرد حالات اجتماعية. يجب أن ننتقل من التفكير فيهم كـ”مستحقين للدعم” إلى فاعلين في الإنتاج والإبداع، عبر التبسيط الإداري، وتكافؤ الفرص، والتمييز الإيجابي في الوصول إلى التعليم، والتمويل، وسوق الشغل. فاليد العليا تبقى دومًا أكرم من اليد السفلى.
والحكومة التي تحترم نفسها لا تُقيم اقتصادها على مؤشرات “كم أنفقت”، بل على “ماذا أنجزت”، وعلى ما وفّرته من فرص، وكم شيدت من جسور تربط المواطن بكرامته. أما صرف الملايير في شكل دعم مشتّت، بلا أثر حقيقي في تغيير معيش الناس، فهو مجرد شراء للسكوت المؤقت.
إن السياسة التي لا تُحسن سبل الحياة، ولا تفتح أبواب الأمل والعمل أمام أبنائها، ليست سياسة، بل ملهاة. ومتى كانت الملهاة تبني وطنًا؟
تعليقات
0