أحمد بيضي
في سياق دعم النقاش العمومي حول أدوار المجتمع المدني وعلاقته بالسياسات العمومية، احتضنت مدينة خنيفرة، يوم السبت 21 يونيو 2025، ندوة فكرية تحت عنوان “المجتمع المدني والسياسات العمومية”، وقد افتتحت أشغال هذا اللقاء ذة. فدوى الشاهد بكلمة ترحيبية تناولت فيها المستجدات التي عرفها المغرب على ضوء دستور 2011، لا سيما ما يتعلق بترسيخ مكانة المجتمع المدني ضمن الهندسة المؤسساتية للبلاد، وتعزيز أدواره في التشارك والتشاور العمومي، فيما أشارت إلى التحديات البنيوية التي لا تزال تعترض تفعيل هذه الأدوار على أرض الواقع، مما يفسر اختيار هذا الموضوع لفتح نقاش عمومي مستنير حول الإشكالات الراهنة والآفاق الممكنة.
الندوة التي جرى تنظيمها من طرف “جمعية أنير للتنمية النسوية والتكافل الاجتماعي” بشراكة مع “جمعية أغورا للإبداع”، استهلت أشغالها رئيسة جمعية أنير، ذة. فتيحة حروش، بكلمة رسمت فيها تصورا عاما لسياق اللقاء، مبرزة اندراجه ضمن الرؤية الاستراتيجية للجمعية التي تسعى إلى جعل الفعل المدني رافعة لتأهيل المجتمع وتحقيق التنمية المحلية، مشددة على أهمية مثل هذه اللقاءات في بلورة وعي جماعي بأهمية الشراكة الفعلية بين مختلف المتدخلين، باعتبارها محطات للتفكير الجماعي في أدوار المجتمع المدني كقوة اقتراحية ورقابية، وفي كيفية تذليل الصعوبات التي تعيق تفاعله الإيجابي مع السياسات العمومية، بما يخدم التنمية والديمقراطية المحلية.
الندوة التي سجلت حضورا نوعيا من المهتمين والفاعلين المدنيين، عرفت مشاركة مجموعة من الباحثين والفاعلين المدنيين، د. فوزي بوخريص، أستاذ علم الاجتماع والأنتروبولوجيا بجامعة ابن طفيل، ود. امحمد أقلبي، أستاذ القانون الجنائي بجامعة السلطان مولاي سليمان ورئيس جماعة أجلموس، ثم الفاعل المدني والثقافي ذ. محمد عياش، والمسرحي الناشط الجمعوي ورئيس “أغورا للإبداع”، ذ. ياسين الحجام، تناولوا موقع المجتمع المدني في المنظومة القانونية والدستورية المغربية، حدود وتحديات الشراكة بين الجمعيات والمؤسسات العمومية، دور الفاعل المدني في تتبع وتقييم السياسات العمومية، وآفاق التعاون بين المجتمع المدني والجماعات الترابية.
الفاعل المدني بين التحديات والتوجهات
من جهته، قدم ذ. محمد عياش قراءة نقدية للحركية الجمعوية بالمنطقة، انطلاقا من ملاحظات راكمها عبر مشاركته الميدانية في عدد من الأنشطة المدنية، مشيرا إلى مفارقة لافتة بين كثرة الجمعيات عدديا وندرتها نوعيا، ما يطرح إشكالات بنيوية تتعلق بفعالية العمل الجمعوي ومدى تأثيره، وأوضح المتدخل منذ البداية أنه لا يتحدث من موقع أكاديمي أو تنظيري، بل ينقل ما لمسه ميدانيا، واضعا إصبعه على مواطن خلل تتطلب نقاشا جادا ومعالجة عميقة، ومستعينا بمقولات أنطونيو غرامشي حول “المثقف العضوي”، لينتقل إلى مفهوم المجتمع المدني نظريا ودستوريا، ومدى محدودية تفاعله مع المواطنين، وضعف تمثله لمفهوم المدينة كمجال للمواطنة الفاعلة.
وتوقف المتدخل عند تعريف البنك الدولي للمجتمع المدني، بوصفه جسرا بين الدولة والمواطن، أو ممثلا تعبيريا عن هموم المواطن في اتجاه خدمة الصالح العام، سواء انطلاقا من قناعات مبدئية أو بدافع من خلفيات ظرفية، وفي سياق مداخلته، استعرض المتحدث عددا من المفاهيم المرتبطة بالعمل المدني، مبرزا الخصائص التي يفترض أن تميز الفاعل المدني والمجتمع المدني عموما، فيما قدم تعريفا مبسطا للسياسة العمومية انطلاقا من الوثيقة الدستورية، قبل أن يتطرق للفروق القائمة بين السياسات العمومية والسياسة العامة، سواء من حيث المرجعيات النظرية أو الأبعاد التطبيقية، ثم إلى التوجهات العامة للدولة.
وطرح المتدخل تساؤلات حول أسباب ضعف تفاعل المجتمع المدني مع السياسات العمومية، معتبرا أن ذلك ليس فقط نتيجة ضعف التكوين أو الجهل بالنصوص التشريعية، بل أيضا لعدم استيعاب دور الجمعيات، والتي غالبا ما تفتقر للأهلية الموضوعية في مناقشة قضايا لا تملك بشأنها الحد الأدنى من المعرفة، رغم كونها ضمن اختصاصها المعلن، قبل توقف عياش عند ما وصفه بـ “التنافر” الذي يسود العلاقات بين الجمعيات، وغياب التنسيق والتشبيك في ما بينها، مما يؤدي إلى إضعاف الجبهة المدنية، وانتقد في الآن نفسه تأخر العديد من الجمعيات في تحيين تصوراتها وخطاباتها بما يتماشى مع المتغيرات الاجتماعية والسياسية.
استثمار الدولة والإطار القانوني
أما د. فوزي بوخريص، الباحث المتخصص في سوسيولوجيا العمل الجمعوي وصاحب كتابي “في سوسيولوجيا العمل الجمعوي بالمغرب” و”مدخل إلى سوسيولوجيا الجمعيات”، فقدم ورقة أبرز من خلالها عدد من الإشكاليات النظرية والتطبيقية المرتبطة بالمجتمع المدني، مستهلاً مداخلته بالإشارة إلى التنوع المفاهيمي الذي يزخر به دستور 2011 فيما يخص المجتمع المدني، من خلال تعبيرات ومفاهيم تتقاطع حول دور الجمعيات ومكانتها ضمن الدينامية المؤسساتية والديمقراطية للمملكة، وتوقف بوخريص عند واقع الجمعيات في المغرب، التي تجاوز عددها مئات الآلاف عبر مختلف مناطق البلاد.
ولم يفت المتدخل التساؤل حول مدى أحقية الجمعيات في المطالبة بالمشاركة الفعلية في السياسات العمومية، في ظل غياب إطار قانوني جامع يخص المجتمع المدني، رغم الترويج له منذ سنوات طويلة دون أن يخرج إلى حيز الوجود، كما نبه إلى المفارقة الصارخة بين مرور أكثر من قرن على صدور قانون الحريات العامة، وبين استمرار النقاش العمومي حول موقع المجتمع المدني، الذي يعترف له بأدوار محورية في التنمية والمواطنة، لكنه لا يمكّن فعليا من الآليات اللازمة للقيام بتلك الأدوار، كما سجل المتحدث مدى نمو واتساع المجتمع المدني منذ حكومة التناوب، ليشهد في المقابل نوعا من التراجع في الانفراجات التي كانت تمنح له.
وأكد المتدخل بالتالي أن هناك قصورا كبيرا في استثمار الدولة في المجتمع المدني، خلافا لما هو معمول به في عدد من الدول المتقدمة، وفي تشخيصه لوظائف الجمعيات، شدد بوخريص على أنها ليست مجرد أدوات لتنفيذ البرامج، بل ينبغي أن تشكل قوة اقتراحية وشريكة فعلية في صياغة السياسات العمومية وتقييمها، والمساهمة في التأثير على التشريعات، بينما تطرق الباحث إلى إشكالية التمويل العمومي، معتبرا أن غياب معايير دقيقة لتوزيعه وتدبيره يعد من أبرز المعضلات التي تفرغ منطق الشراكة من محتواه، مبرزاً ضرورة تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، واشتراط تحقيق المنفعة العامة كشرط أساس في منح الدعم للجمعيات.
غياب العدالة المجالية والتمويلية
وبدوره، قدم د. امحمد أقبلي قراءة معمقة لمسار تطور المجتمع المدني بالمغرب، منوها بالأشواط المهمة التي قطعتها البلاد في هذا المجال، وبالاعتراف المتنامي الذي بات يحظى به هذا الفاعل في الفكر السياسي المعاصر، بالنظر إلى أدواره الحيوية في تحقيق التنمية وتعزيز الديمقراطية التشاركية، واستعرض أقبلي، في هذا السياق، الأطر الدستورية والقانونية المؤطرة للمجتمع المدني، مشددا على ضرورة تنزيل هذه المقتضيات إلى أرض الواقع، خصوصا في ما يتعلق بعلاقة المجتمع المدني بالدولة ومختلف المؤسسات العمومية، فيما أشار إلى المفارقة القائمة بين الدعم المالي الموجه إلى الجمعيات والأثر الفعلي لها على الميدان.
وفي هذا السياق، قدّم المتدخل نموذجا ناجحا من جماعة أجلموس، حيث تمكنت بعض الجمعيات من تقديم العرائض والتفاعل الإيجابي مع آليات الديمقراطية التشاركية، بما يعكس الوعي المتقدم بأدوار الفعل المدني، بينما لم يغفل أقبلي التطرق إلى عدد من الاختلالات التي تعتري مجال الدعم العمومي، مبرزا غياب العدالة في توزيع المنح، وتفشي ما أسماه بـ “اللامساواة الثلاثية”، المعرفية منها، المؤسساتية، والمالية، والتي تحول دون تكافؤ الفرص بين الجمعيات، وتكرس الفجوة بين مكونات النسيج المدني، كما لم يتردد في التعبير عن أسفه الشديد حيال ما وصفه بـ”التشنج” المتكرر بين بعض الجماعات الترابية والجمعيات، بسبب الخلاف حول المنح.
وبينما أعرب المتدخل عن امتعاضه من تحول بعض الجمعيات إلى أدوات لتصفية الحسابات، أبدى قلقه حيال وجود آلاف المنتخبين بالمغرب لم يسبق لهم أن دخلوا مقاعد الدراسة، كما عبر عن ألمه العميق حيال غياب دار للشباب في جماعة أجلموس، رغم ارتفاع المطالب بها منذ أكثر من أربع سنوات، مشيرا إلى أن البلدة تضم حوالي أربعة آلاف نسمة، يشكل الشباب غالبيتهم، ما يجعل غياب هذا المرفق دليلا على غياب العدالة المجالية، وختم مداخلته بتأكيده على ضرورة تحقيق العدالة في الولوج إلى التمويل، فيما لم يفوت الفرصة دون أن يثير مسألة التهميش الذي يطال مدينة خنيفرة، رغم ما تزخر به من ثروات طبيعية ومعدنية وبشرية.
الاستخفاف بالإنتاج والتنوع الثقافي
في مداخلة وصفت بالنابضة بالحس المدني والثقافي، سلط ذ. ياسين الحجام الضوء على عدد من الإشكاليات البنيوية التي تعيق تطور المشهد الثقافي في مدينة خنيفرة، التي تعاني، بحسب تعبيره، من إقصاء غير مبرر في ما يتعلق بالبنيات التحتية الثقافية والدعم العمومي، منطلقا من استعراض جملة من التدابير التي تعتمدها الدولة في مجال الإنتاج والتنوع الثقافي، مشيرا إلى أن هذه التدابير غالبا ما تصطدم بغياب إرادة سياسية حقيقية تجعل من الثقافة أولوية ضمن السياسات العمومية، وذكر بانخراطه المتجدد في مطلب إحداث قاعة للمسرح بخنيفرة، مؤكدا أن غياب هذا الفضاء يعكس استخفافا واضحا بحقوق الفنانين والجمهور.
كما لم يفوت الفرصة دون الإشارة إلى فشل بعض الجمعيات في الوفاء ببرامجها المعلنة، إما لأسباب ذاتية مرتبطة بضعف التدبير، أو لأخرى موضوعية تتعلق بالإقصاء من الدعم، وهو ما انعكس على استمرارية عدد من المبادرات الثقافية، واستحضر في هذا السياق تجربة جمعية “منتدى أطلس للفنون”، التي نظّمت دورات ناجحة من مهرجانات مسرحية، قبل أن تضطر إلى توقيفها في دورتها السابعة، كما توقف عند تجربة جمعية “أغورا”، التي استطاعت أن تعيد للفن المسرحي توهجه في المدينة، مشيدا بالحضور الجماهيري الكثيف الذي تفوق نسبته في كثير من الأحيان ما يسجل في المسارح الوطنية المعروفة.
وتوج الحجام مداخلته بإثارة تجربة “فيدرالية الجمعيات الثقافية بخنيفرة”، التي تأسست عام 2018 تحت شعار “التشبيك الجمعوي آلية للارتقاء بالعمل الثقافي”، مشيرا إلى أنها توفيت في مهدها، وبلغة مشحونة بالألم والحسرة، عبر عن واقعه الجمعوي بقوله إن الجمعيات الثقافية النشيطة لا تزال تعامل بمنطق الدعم الهزيل، داعيا إلى جعل عملية توزيع التمويلات رهينة بحجم الأنشطة والمشاريع، ولم يغفل الحجام استحضار رسالة الملك الراحل الحسن الثاني إلى المشاركين في أول مناظرة حول المسرح الاحترافي سنة 1992، والتي دعا فيها إلى ضرورة دراسة مختلف القضايا التي تعترض هذا الفن، حيث عبّر الحجام عن تساؤله الجاد حول مآل هذه الرسالة الملكية.
للحضور كلمته أيضا
وقد اختتمت أشغال الندوة بفتح باب النقاش أمام الحضور، حيث شكلت التفاعلات امتداداً نوعيا لما طرح من أفكار ومقاربات خلال المداخلات الرسمية، ومن بين التساؤلات الجوهرية التي أثيرت: هل فعلا تطمح الجمعيات المحلية إلى أن تكون فاعلا متقدما يحمل رهانات ثقافية وبيئية وحقوقية؟ أم أن بعضها ما يزال حبيس أدوار تقليدية غير مؤثرة؟ كما طُرحت بإلحاح إشكالية الحكامة داخل الجمعيات، حيث أشار بعض المتدخلين إلى وجود نوع من “عقدة النقص” التي تدفع جمعيات محلية إلى تبخيس أنشطتها، والافتقار إلى الثقة في الإمكانات الذاتية، ما يؤثر على جودة أدائها وتقديرها لموقعها في النسيج المدني.
وسجل إجماع واسع على النقص الكبير في دور الشباب على مستوى الإقليم، في وقت أُغلقت فيه دار السينما الوحيدة بالمدينة منذ سنوات دون أي التفات رسمي، وهو ما اعتبره البعض مؤشرا على التراجع المؤلم للاهتمام بالمجال الثقافي، كما وصفت عملية تفويت بعض مراكز الطفولة والشباب لأصحاب المال والنفوذ بـ”المهزلة”، معتبرين أن ذلك يفرغ هذه المرافق من بعدها التربوي والاجتماعي، ولم تغفل المداخلات الإشارة إلى النواقص المرتبطة بالبنيات الحالية، مثل عدم توفر المركز الثقافي أبو القاسم الزياني على ولوجيات لفائدة الأشخاص في وضعية إعاقة، كما برزت دعوات إلى اعتماد الرقمنة في عملية توزيع المنح، لضمان مزيد من الشفافية والإنصاف.
ومن المداخلات الأخرى، الدعوة إلى ضرورة البحث في تاريخ المجتمع المدني بالمغرب كمدخل لفهم تطوره وآفاقه، فيما توقف بعض المتدخلين عند سؤال جوهري: هل ترى الدولة في المجتمع المدني شريكا فعليا في التنمية وصناعة القرار، أم أنها لا تزال تعتبره مجرد أداة تنفيذ؟ وهي إشكالية عمقتها الملاحظات المرتبطة بالمحسوبية التي تتحكم أحياناً في منح الدعم، وبالتحايل الذي يمارسه البعض من أجل الاغتناء من العمل الجمعوي دون تقديم أي قيمة مضافة، في مقابل جمعيات جادة تتحمل في برامجها مسؤوليات تفوق قدراتها وإمكانياتها، وأكدت متدخلون اعلى ضرورة إرساء منطق تعاقدي حقيقي في تمويل العمل الجمعوي، بعيدا عن الولاءات والانتماءات الضيقة
تعليقات
0