في مشهد يعكس عمق الارتباك السياسي وهشاشة القرار السيادي، عادت الجزائر، مطأطئة الرأس، لتستأنف علاقاتها القنصلية مع فرنسا، بعد أن كانت قد اختارت استعراض عضلاتها الدبلوماسية في مواجهة باريس. فالنظام العسكري الذي أراد في لحظة تهور أن يظهر بمظهر القوي القادر على فرض “الندية”، لم يصمد طويلاً أمام منطق الواقع، ليعود منكسراً يمدّ يده لفرنسا، متوسلاً تسوية جديدة تحفظ ماء وجهه أمام آلاف المهاجرين العالقين بين جفاء باريس وبيروقراطية قنصليات الجزائر.
السلطات الجزائرية أعلنت، في ما يشبه التراجع المذل، شروعها في تسوية وضعية المهاجرين غير النظاميين من خلال تسليمهم جوازات سفر دون طلب وثائق تثبت إقامتهم القانونية. هذا القرار، الذي يأتي بعد أشهر من التجميد والتصعيد مع ثلاث محافظات فرنسية (نيس، مرسيليا، ومونبلييه)، لا يعكس “صحوة” دبلوماسية بقدر ما يكشف عن تخبط سياسي لا زال يحكم عقلية النظام الجزائري.
لقد أراد العسكر أن يوهم الداخل والخارج بأنه يملك أوراق ضغط قوية على باريس، فاختار نهج التصعيد غير المحسوب، مجمدًا خدمات قنصلياته في محاولة لمعاقبة فرنسا، والنتيجة كانت: ليس باريس من تضررت، بل المهاجرون الجزائريون أنفسهم، الذين وجدوا أنفسهم رهائن لسياسة عبثية تجعل منهم وقوداً لحروب عبثية مع المستعمر السابق.
إن ما نعيشه اليوم هو مشهد كلاسيكي من مآسي الدبلوماسية الجزائرية: قرارات عنترية، ثم تراجع مرتبك، فخطاب مزيف عن الكرامة، والنتيجة في النهاية: رضوخ صامت يعيد كل شيء إلى المربع الأول. الفرق الوحيد هذه المرة، أن فرنسا لم تبذل أي جهد في المناورة، لأن النظام الجزائري هو من جاء طائعًا، مدفوعًا بضغط الداخل الذي يئن تحت وطأة البطالة، والتضخم، والإحباط الشعبي المتنامي.
الخطير في كل هذا، أن الجزائر تحولت من بلدٍ يطمح للندية مع القوى الكبرى، إلى نظام يصرف أزماته الداخلية في شكل استعراضات دبلوماسية فارغة، لا تلبث أن تنكسر أمام أول عاصفة. وبذلك، فإن التطبيع القسري مع فرنسا ليس سوى مرآة لفشل أعمق: فشل في إدارة التوازنات الخارجية، وفشل أكبر في تحمل مسؤولية رعاية مواطنيها بالخارج.
وهكذا، تكتمل الحلقة: نظام عسكري يصرخ في الهواء ثم يصمت، يهدد ثم يتوسل، يزعم السيادة وهو في قبضة التبعية. أما الضحية، فكما العادة: المواطن الجزائري الذي يدفع ثمن لعبة الكراسي بين قصر المرادية وقصر الإليزيه.
تعليقات
0