لا يحتاج الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، مثله في ذلك مثل كل حزب حقيقي منذور لمهمة تاريخية، إلى شهادة حياة، تثبت جدارته بالوجود، لا سيما وقد أنجبته الوطنية وكان ابنا للتاريخ، وثمرة الالتزام الأخلاقي الكوني..
وقد كان أمام الاتحاد منذ ميلاده في قلب دينامية التحرر والاستقلال الوطني والنضال من أجل الديموقراطية وقيم حقوق الإنسان، تاريخ طويل ليثبت جدارته بالحياة الكريمة والساطعة.
واستطاع أن يثبت ذلك، بدون منٍّ ولا امتنان على المغرب والمغاربة..
وكان له، في المقابل، خصوم ألدّاء متمرّسون في التربص به، لم يتركوا وسيلة من وسائل القتل إلا وجربوها: الاغتيال، الإعدامات، المنافي، التشريد، والحرب الأيديولوجية، والتضليل، والتغليط، والتكفير. مرات عديدة، اتخذ خصومه القرار بإنهاء حياته، لكنهم فشلوا، لأن حاضنته الشعبية الوطنية والاجتماعية كانت دائمًا تضمن استمراره ووجوده.
فقد جربوا كل أنواع الأسلحة، لكنه ظل واقفا، صلبا، يواجه العواصف والأعاصير، يواجه المؤامرات والضربات، يواجه حملات الاجتثاث، بل يمكن أن نلخص بالقول إنه حزب ثبت في وجه الإبادة، علما أنه كان من الحركات السياسية القليلة في العالم الثالث، في مرحلة ما بعد الاستقلالات الوطنية الذي تعرضت قيادته إلى التصفية وقاعدته للإبادة..
وظل يعتبر أن معركة وجوده تستوجب الصمود، بل استبطن في قناعاته وفي حمضه النووي الإيديولوجي أن لا تاريخ له سوى تاريخ قمعه..
وعلى قاعدة محاولات اجتثاثه كان يحدد من هم الحلفاء من الخصوم والمنصفين من الناقمين..
الاتحاد أيضا لم يسلم من تفكيك ذاتي وداخلي لاعتبارات، ليس أقلها المزايدة، في كل مرحلة مرحلة، على قياداته.: حدث ذلك مع الفقيد الكبير عبد الرحيم بوعبيد ومهاجمته من بعض أبنائه ومجايليه، وصلت حدا لا يوصف من الألم والتجريح. لا داعي للتذكير بذلك.
حدث ذلك مع السي عبد الرحمان اليوسفي، والأرشيف الأخلاقي ما زال قائما على الكثيرين من أبناء التنظيم ممن غادروا وهو وحده يواجه الأمواج العاتية و جيوب مقاومة التغيير ..
حدث ذلك مع الفقيد عبد الواحد الراضي وقبله محمد اليازغي، … وما زال ذلك مستمرا بشكل من الأشكال، المتغيرة والمتطورة، والتي لا ثابت فيها سوى استهداف وجوده والتشكيك في جدارته النضالية حينا، وفي اتهامه بالتمخزن أو المساومة أو التخلي عن المهام التاريخية. أو بالموت في النهاية.
أحيانا كثيرة كانت الصدمات الداخلية لا تراعي مخططات الاستهداف الخارجية وبل تلتقي معها، لقاء موضوعيا، يثير الحيرة ويسبب الشك، ولكنه هجوم كان يزيد من لحمته الداخلية ويشد القابضين على الجمر بعضهم لبعض..
وليس سرا، كما قال الكاتب الأول الأستاذ إدريس لشكر في أكادير، في نهاية الأسبوع، أن الانشقاقات التي عرفها الحزب، كانت أحد مظاهر إضعافه وإنهاكه، وكان ذلك لأسباب موضوعية أو ذاتية، بسبب التقدير السياسي المختلف حينا أو بسبب التطاحن على السلطة التنظيمية وسلطة التمثيل السياسي أو تدبير الطموحات الانتخابية أحيانا أخرى أو لأجل اعتبارات أيديولوجية..
كان البأس الاتحادي الاتحادي شديدا، ..هذه حقائق، لا يمكن للعاقل المناضل والملتزم أن يغفل عنها، ولكنه في الوقت ذاته لا يجعلها قاعدة لإعلان الموت الجماعي.، اليوم، تحتفظ ذاكرة البلاد كما ذاكرة المنظمات الحقوقية والتاريخ الرسمي للوطن نفسه، بكل هذا المسار الصعب، والسؤال. الذي لا بد منه:لماذا كان الاتحاد دوما هدفا للاغتيال الرمزي، محاولة الإقصاء والاجتثاث؟:
أولا، لشرعيته الوطنية، ثانيا، لشرعيته النضالية، وثالثا، لالتزامه بسيادة الديموقراطية والشعب .. لكن هذا التكالب المدجج بالقمع والشراسة ومحاولات الاغتيال الرمزي والمعنوي كان بسبب قدرته على طرح الأسئلة الحقيقية التي تنفع المغرب والمغاربة، وقدرته الإصلاحية والتشبث بهاته الهوية الإصلاحية وحرصه على استقلال القرار الحزبي، وتمنيع نفسه ضد كل محاولات التنميط التي تعرفها لحظات محددة من تاريخ المغرب…يضاف إلى ذلك كله حفاظه على امتداده في الزمن، (نحن نستعد للاحتفال اللائق بالذكرى الخمسين للمؤتمر الاستثنائي للميلاد الجديد) ، وامتداده الجغرافي، حيث يوجد الاتحاد في كل الجغرافيا الوطنية، وامتداده الكبير في الخارطة البشرية والاجتماعية حيث تجد كل الفئات والطبقات والقوات الشعبية مكانها في تنظيماته وفي مستويات القرار فيه، علاوة على تنظيماته السوسيو-مهنية، وللاتحاد، من بين الطيف الحزبي، حضور لا يضاهي في المحفل التقدمي الدولي، وسواء كحزب أو شبيبة أو منظمة نسائية، لا أحد يجهل بأن الذي يتحقق اليوم دوليا من اختراقات ( الأممية الاشتراكية، التحالف التقدمي، الكوبال”COPPPAL”، التحالف الديموقراطي العربي، اليوزي، الأممية الاشتراكية للنساء، اللجنة الاشتراكية الإفريقية )، لم يكن له مثيل في تاريخه السياسي…
ولعل الأهم من كل ما سبق، هو حفاظ الاتحاد على قدرته الإصلاحية وتنشيطها وتجديدها في كل لحظة وطنية تستوجب الصدق في الفكر والالتزام في الممارسة، ولعله الوحيد في ذلك وسط المشهد السياسي الحالي، الذي يحافظ على النفس الإصلاحي، ويرافع من أجل تجويد الترسانات الدستورية والسياسية للبلاد، ويحرِّض على استكمال الأدوار التاريخية في بناء الدولة الاجتماعية ويصر على أدوار المثقفين والباحثين والخبراء في هندسة المغرب الجديد واستكمال المجهود الكبير الذي كان وراء تدشينه منذ ميلاده، والخروج من التجريبية التنظيمية التي تكرر نفس المشاهد، وتهدر الطاقات، ولا تنفتح على الجغرافيات السكانية الجديدة في مغرب التحولات الكبرى..
هذه هي معايير التقييم الموضوعي للأحزاب السياسية، والتي على أساسها تكون الأحكام المنصفة. وهنا لا نغفل منعرجات الفعل السياسي في بلادنا وأعطابه وتعثراته، وما قد يصيب الحركة الاتحادية من بعض شظاياه أو يطالها من أمراضه ونزواته، ولا تأثره بالمحيط الذي يتطور فيه ويسعى إلى الحفاظ فيه على غير قليل من الواقعية التي تحافظ له على وجوده، الذي يمكنه من التنافسية والتطلع إلى تغيير في قواعد اللعبة غير الشريفة، التي بدأت تتكرس مع المال والشعبوية و«التزوير المشروع« الذي فرضته موازين القوة… وهو في ذلك من أكبر الضحايا، كما يعرف الخاص والعام.
إننا وعندما ننظر إلى التهجمات التي يتعرض لها الاتحاد، من هذه الزوايا، يكون من حق مناضلاتنا ومناضلينا أن يدافعوا عن وجودهم، وأن يشكوا في هذا التزامن بين التهجمات غير المنصفة، والاستحقاقات الداخلية ( المؤتمر ) والخارجية ( الانتخابات) على الأبواب . كما لو أنها ترمي إلى خلق سواتر من دخان للمناضلين تشغلهم بغير الأسئلة الواقعية التي تستوجب منهم كل الجهد الفكري والجسدي.
لقد كان الفقيد عبد الواحد الراضي، المؤسس، الذي جايل كل القادة، الشهيد والفقيد والقتيل والمختطف، الذي ظل متواجدا في حزبه إلى أن لبى نداء ربه منذ سنتين( سنتين فقط للتذكير) ، قد حذرنا جميعا من الانتحار الجماعي، من تلك الرغبة الدفينة في التوجه جماعات إلي الهاوية، وبعضنا يعتقد بأننا نمارس فعلا سياديا ونمارس درجة من درجات الوعي الكامل. لقد رأى بعينه الصادقة تلك الرغبة في الانتحار الجماعي، وساند وعضد ورافق القيادة التي جاءت من بعده، والقيمة الحالية من أجل العمل على وقف هذا الزحف شبه الإرادي نحو الجرف الهاري والدعوات التي تعلله.
وختاما، لم يفقد الاتحاديات والاتحاديون حرارتهم النضالية، ولا قوتهم الحيوية، وما زالوا يواصلون الصراع، في ظروف مناهضة تماما للسياسة والفعل المواطن والتطوع، لا تخفيهم انتصارات القوى المعادية للتقدم والديموقراطية وكل شعاراتها، كما لا تثبط عزائمهم الصادقة عن العمل من أجل القيام بالمهام التاريخية التي ورثوها عن قادتهم وشهدائهم وعن أجيال من المخلصين.. وما بدلوا تبديلا.
صامدون، وحي على المؤتمر، وعلى الإصلاح!
وليكن في علم الجميع، أن الاتحاد لا يحتاج إلى شهادة حياة، لأنه هو من يسلمها!
تعليقات
0