قطاع توزيع المواد الغذائية بالمغرب: اختلالات هيكلية وتحديات تنظيمية تعوق المنافسة

أنوار التازي الثلاثاء 8 يوليو 2025 - 12:58 l عدد الزيارات : 4867

كشف مجلس المنافسة عن اختلالات عميقة واشكالات متعددة حول وضعية المنافسة على مستوى مسالك توزيع المواد الغذائية.

وسجل المجلس في رأيه، الصادر مؤخرا حول قطاع توزيع المواد الغذائية بالمغرب، أن هذا القطاع يعاني من تعدد المتدخلين مما انعكس سلبا على فعالية تنظيمه، حيث تتنوع الأطراف العمومية المتدخلة في البنية المؤسساتية لقطاع تجارة وتوزيع المواد الغذائية بالمغرب. وتعود جذور هذا التنوع إلى حقبة انصبت فيها الأولويات على ضمان استمرارية التموين، وفي الوقت الحاضر، تتدخل أربع وزارات على الأقل، في تنظيم هذا القطاع، تأتي في مقدمتها وزارة الداخلية لا سيما عبر الجماعات الترابية التي تضطلع بدور رئيسي في ضبط ومراقبة الأنشطة التجارية على المستوى المحلي منح التراخيص لممارسة الأنشطة التجارية، ومراقبة إشهار الأسعار، وتدبير الفضاءات العمومية التجارية، وما إلى ذلك.

وأشار المجلس، إلى أن تعدد المؤسسات المتدخلة يطرح إكراهات تنظيمية، تتجسد في توزيع الأدوار وتداخل الصلاحيات في عدد من الجوانب، خاصة في مجال المراقبة (بما في ذلك أسعار المنتجات وجودتها، ومدى التقيد بالأنظمة المعمول بها وغيرها)، ما يعيق إمكانية تعاضد الموارد المالية والبشرية العمومية، ويحول دون إضفاء فعالية على عمليات التخطيط والتنسيق واتخاذ القرار لتنفيذ الإصلاحات. وتضاف إلى هذه المعضلات ضعف إشراك الجهات الفاعلة على المستوى الجهوي مثل غرف التجارة والصناعة والخدمات، في تنزيل أوراش التحديث التجريبية على الخصوص، ونشر الدراسات المتعلقة بالظرفية الاقتصادية، ورسم خرائط لهيكلة القطاع على الصعيد الجهوي.

كما سجل المجلس، أن الإطار القانوني والتنظيمي يتميز بقدر من الصلابة، إلا أنه مشتت، مما يفرز اختلالات تنظيمية وعلى مستوى التخطيط، حيث شهدت الترسانة القانونية والتنظيمية المؤطرة لهذا القطاع إصلاحات بارزة طيلة السنوات الأخيرة، واكبها دخول مدونة التجارة الصادرة سنة 1996 والنصوص التنظيمية حيز التنفيذ التي تطرقت إلى جوانب محددة، مثل ضبط الأسعار وشروط بيع المنتجات، وضمان السلامة الصحية للمنتجات، وتنظيم كيفيات تخزين وحفظ ونقل السلع، علاوة على حماية حقوق المستهلكين من الممارسات التعسفية. مشيرا أن أحد الاستنتاجات الرئيسية التي خلص إليها هذا الرأي تتمثل في غياب نص تنظيمي خاص يعنى بتنظيم قطاع التوزيع بكل مكوناته. وإلى حدود الساعة، تفتقر عدة جوانب رئيسية إلى الدقة والتأطير اللازمين، مما ينعكس مباشرة على حسن سيره.

وأوضح المجلس، أن الإطار القانوني الحالي لا ينص على وضع مصنف أو تصنيف منهجي أو اصطلاحي يتضمن تعريفا للمفاهيم الأساسية ذات الصلة بأنشطة التوزيع، تتيح على سبيل المثال التمييز بين الفئات المختلفة من المحلات التجارية خاصة المتاجر التقليدية، ومتاجر البيع بالجملة، والمتاجر الكبرى، والأسواق الممتازة، ومتاجر الجملة القائمة على الأداء نقدا عند الاستلام.

كما خلص المجلس إلى النقص الملحوظ في البيانات يفضي إلى إضعاف الرؤية بشأن وضعية القطاع وتقييم إمكانياته، حيث يحتل قطاع تجارة المواد الغذائية وتوزيعها مكانة استراتيجية في الاقتصاد الوطني، ويشكل رافعة أساسية للتنمية الاجتماعية على الصعيد الوطني. ومن هذا المنطلق، يتعين إمداد مجموع الفاعلين في القطاعين العام والخاص ببيانات دقيقة حول هذا القطاع. موضحا أنه من بين الخصائص البارزة للقطاع تتمثل في غياب بيانات دقيقة مدعمة بالأرقام التي تحول دون إمداد الفاعلين برؤية شاملة ومتسقة بشأن القطاع، تساعدهم على تتبع تطوره واستباق تطوراته المستقبلية في سياق النمو السريع الذي تشهده التجارة العصرية. مسجلا غياب نظام معلوماتي مرتبط بالقطاع على الصعيدين الوطني والجهوي، يحتوي على المؤشرات الماكرو – اقتصادية الرئيسية ذات الصلة بالقطاع، لا سيما ما يتعلق بالتجارة التقليدية التي تظل السائدة، إلى جانب التجارة الإلكترونية التي تعرف نموا سريعا.

ولاحظ المجلس، أن القطاع يعتبر منظومة تجارية تطغى عليه مسالك التوزيع التقليدية ذات أدوار اقتصادية واجتماعية هامة، حيث تهيمن التجارة التقليدية المكونة من التجار بالجملة وشبه الجملة وأصحاب محلات البقالة المعروفون ب “مول الحانوت” باستمرار على قطاع التجارة والتوزيع بالمغرب، مستحوذة على نحو 80% من رقم المعاملات وعلى 99% تقريبا من نقاط البيع. ويأتي ذلك بالرغم من تطور التوزيع العصري (التجارة الكبرى والإلكترونية في السنوات الأخيرة، وثبتت صحة هذه الخلاصة استنادا إلى نتائج التحليل الذي أجري على ثلاثة أصناف من المنتجات المختارة على سبيل التوضيح، إذ تبين أن مسالك التوزيع التقليدية تستفرد بحوالي 86% من منتجات الحليب و 75% من المصبرات النباتية (مركز الطماطم والمربي). وبأكثر من 95% من الكسكس والمعجنات الغذائية.

كما سجل المجلس الزحف التدريجي لمسالك التوزيع العصرية للمساحات التجارية الكبرى والمتوسطة وتسارع وتيرة نموها ويتجلى ذلك في تكثيف إحداث المساحات الكبرى والمتوسطة. فمنذ تدشين أول سوق ممتاز يحمل اسم مرجان أبي رقراق الرباط – سلا “. فرض هذا النموذج التجاري وجوده تدريجيا على الساحة الاقتصادية الوطنية، بعدد من نقاط البيع التي فاقت 1379 متجرا عند متم سنة 2024، والموزعة على 40 مدينة رئيسية تقريبا، متجاوزة محور القنيطرة – الجديدة.

وسجل معدل نمو المؤشرات الاقتصادية الرئيسية في هذا القطاع مستويات مضاعفة، إذ بلغ رقم معاملاته الإجمالي أزيد من 40,9 مليار درهم برسم سنة 2024 حيث استحوذت المواد الغذائية على نحو 75 % منه، محققا زيادة ناهزت 17% على أساس سنوي، و 33% مقارنة بسنة 2021.

كما خلص المجلس إلى تنامي أنشطة التجارة الإلكترونية مجسدة بوادر عهد جديد، حيث أصبح المستهلك المغربي أكثر ميلا للتجارة الإلكترونية، التي بات الفاعلون يستخدمونها بكثافة لتسويق منتجاتهم. وثبتت صحة هذا الاتجاه بتصاعد عمليات الأداء عن بعد بواسطة البطاقة البنكية. ووفقا للأرقام العصرية الصادرة عن مركز النقديات عند متم شهر شتنبر 2023، استقر عدد المنصات التابعة للمتاجر الكبرى والأسواق الممتازة في 1695 موقعا، فيما سجلت عمليات الأداء المنجزة بالبطاقات المغربية (94% من إجمالي المعاملات والدولية، نموا ملحوظا بلغ %23,4 من حيث عدد المعاملات و 23.6% من حيث القيمة على أساس سنوي.

كما خلص المجلس إلى أنه هناك تركيز عال لقطاع المساحات التجارية الكبرى والمتوسطة مع وجود حواجز قوية أمام دخول وافدين جدد، حيث يشهد القطاع كذلك تركيزا من حيث التموقع الجغرافي للمساحات الكبرى، وتستحوذ مدينتي الرباط والدار البيضاء على 46% من نقاط البيع و 50% من المساحة الإجمالية. أخذا بعين الاعتبار عوامل اقتصادية وديموغرافية. غير أن هذا التمركز أفرز عن فوارق مجالية شاسعة، حيث يُحرم المستهلكون في المناطق القروية والهامشية من الولوج إلى نفس الخدمات، وفي الوقت الذي تتمركز المراكز التجارية في محور القنيطرة – الجديدة. على عكس بعض البلدان، ساهمت سياسات التهيئة الترابية المتخذة في فرنسا أو في تركيا في ضمان توزيع متكافئ للعلامات.

ومن بين خلاصات المجلس، تلك المرتبطة بتأثير مسالك التوزيع على تحديد سعر البيع النهائي للمستهلكين، حيث يؤثر نمط اشتغال قطاع تجارة وتوزيع المواد الغذائية الحالي، والمطبوع بسيادة مسالك التوزيع التقليدية، تأثيرا ملحوظا على تحديد سعر البيع للمستهلكين. فمن جهة، تطبق الجهات الفاعلة في الغالب، لاسيما أصحاب محلات البقالة السعر المحدد للمنتج الرائد على جميع العلامات التجارية المنتسبة لنفس صنف المنتجات، بغض النظر عن سعر الشراء، إذ أظهرت التحليلات الكمية المنجزة في إطار هذا الرأي، على سبيل المثال، أن تشابه أسعار بيع كل من الزبدة التي بلغ متوسط فرق بيعها 7 دراهم للكيلوغرام خلال الفترة 2021 – 2023 والمعجنات الغذائية السائدة، بغض النظر عن العلامة وسعر التفويت المحدد من قبل المورد. ومن جهة أخرى، تعمد الجهات المذكورة إلى عكس الزيادات في السعر تلقائيا وفورا، مقابل تأخير تفعيل التخفيضات بحجة تصريف المخزون.

وسجل المجلس، أن هذا السلوك يطرح إكراهان رئيسيان من جهة، يستمر التجار في الاستحواذ على نصيب من هامش الربح التجاري، دون أن ينعكس ذلك إيجابا على المستهلك النهائي، ومن جهة أخرى تتقلص حدة ممارسة المنافسة بين موردي المواد الغذائية وبين شركات التصنيع بصفة غير مباشرة، إذ لا يتحكمون في قسط كبير من سعر البيع الذي يعد ركيزة أساسية للتمايز التجاري.

كما أشار إلى ارتفاع قيمة هامش الربح الخام في مسالك التوزيع أفضى إلى تغذية تضخم المواد الغذائية، حيث سجلت هواش الربح التجارية الخام المتأتية من تسويق مختلف أصناف المنتجات زيادة بوتيرة مطردة خلال السنوات الأخيرة الثلاث، مقرونة ببعض الفوارق زادت من حدة التضخم. وأظهر تحليل أصناف المنتجات، في إطار هذا الرأي، أن قيمة هوامش الربح الخام المتعلقة بتسويق منتجات الحليب في المسالك التقليدية ارتفعت من 10% بين سنتي 2021 و 2022 إلى 22% بين سنتي 2022 و 2023. وبرزت الزيادة بوضوح في حالة المصبرات النباتية، إذ بلغت 18 و 12 % بالنسبة لمركز الطماطم والمربي على التوالي. وبخصوص صنف المعجنات الغذائية والكسكس السائب، ازدادت نسبة هامش الربح الخام بنحو 20% في سنة 2022، ثم تراجع في سنة 2023 محتفظا، في الآن ذاته بمستوى أعلى مما كان عليه في سنة 2021.

وسجل المجلس، وجود إشكاليات تنافسية تثيرها كيفيات الأداء في مسالك التوزيع، حيث توفر العلاقة التي تجمع الفاعلين في سلسلة القيمة البعدية المتعلقة بالمواد الغذائية (الموزعين) بالفاعلين في السلسلة القبلية (الموردين) مزايا متبادلة، ومع ذلك، تظل مطبوعة بمزيج معقد من التعاون والتنافس وتعد أجال الأداء المطبقة على مستوى التوزيع العصري، أحد المكونات الرئيسية لهذه العلاقة، والتي يحتمل أن تطرح إشكاليات ذات صبغة تنافسية حسب الفاعلين المستمع إليهم. وعلى مستوى مسالك التوزيع التقليدية، تؤدى جل المعاملات المنجزة نقدا وفورا عند استلام السلع، ما يحول دون تراكم الديون بشكل خاص. غير أنه ثمة استثناءات يمكن أن يستفيد منها التجار بالجملة بالخصوص الأداء عند متم الشهر أو بعد مضي 45 يوما)، أخذا بعين الاعتبار الحجم المهم للطلبيات وأسلوب تنظيم الفاعلين بداخلها. وبالنسبة للمسالك العصرية، يصل متوسط آجال الأداء الممنوحة للعلامات إلى 60 يوما. ويرجح أن تفضي الفوارق المسجلة في هذا الصدد إلى الإخلال بالمنافسة في السوق. من جهة يمكن أن يستفيد المورد من أفضلية مالية وتنافسية على حساب منافسه. ومن جهة ثانية، تضاعف هذه الفوارق من خطر الممارسات التعسفية المرتبطة بتعزيز القوة التفاوضية للتجارة الكبرى على المدى الطويل سحب المنتجات في حال رفض آجال الأداء المقترحة من قبل العلامة التابعة للمساحة الكبرى والمتوسطة.

تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الثلاثاء 8 يوليو 2025 - 19:49

تسجيل انخفاض في معدلات الاعتقال الاحتياطي بالمملكة إلى أقل من 30 في المائة من مجموع الساكنة السجنية

الثلاثاء 8 يوليو 2025 - 19:42

الملك الخاص للدولة.. زيادة بـ 30 في المائة في المساحة الإجمالية خلال سنة 2024

الثلاثاء 8 يوليو 2025 - 17:02

تقدم به الفريق الاشتراكي: مجلس النواب يصادق على مقترح قانون يهم التغطية الصحية

الثلاثاء 8 يوليو 2025 - 16:03

من المنصة البرلمانية إلى القرى المنسية: من يصدق خطاب الحكومة؟

error: