قراءة في أقصوصة “دُمُوع فَراشَة” للقاص والناقد حميد ركاطة
أحمد بيضي
الإثنين 23 ديسمبر 2019 - 18:50 l عدد الزيارات : 15901
كمال الكوطي (°)
الأقصوصة، في اعتقادي، هي عالم ممكن من بين عوالم عديدة، إنها صورة مكثفة لعالم معاش بشخوصه وأمكنته وأزمنته، وكل معاش إلا ويرسم لنا أفق انتظارات وأمال وإخفاقات وهزائم…، هكذا يحملنا القاص والناقد حميد ركاطة، من خلال أقصوصته “دموع فراشة” إلى فضاء خاص، فضاء تتقاطع فيه عتمات الليل بأضواء مزيفة، تنتقل بطلة الأقصوصة، نادلة الحانة، من طاولة إلى أخرى لتسقي زبناءها رحيق المتعة والنشوة، فكما أن الفراشة تسر بألوانها عيون وأفئدة الناظرين، كذلك هي أيضا بطلتنا.
بيد أن رمزية “الفراشة” توحي بازدواجية لا يمكن إغفالها: فالفراشة عنوان للجمال والبهجة والسرور، عنوان لفصل الحب والعشق، فصل الربيع، لكنها في نفس الآن عنوان للهوان والهشاشة والرقة و سرعة الانكسار، إذ هي بطبيعتها عاشقة للنور، ولو أن النور قد يخفي في ثناياه لهيب نار محرقة، هكذا يكشف ترحالها المكاني من طاولة إلى أخرى، عن بعد زمني سرعان ما انجلى وهي تهم بإسقاط قناعها أمام المرآة، قناع أحمر كذاك الذي يضعه البهلوان على وجهه ليرسم ابتسامة تعلو محياه دون أن تعانق و بالضرورة جوانيته.
يجر زمن بطلتنا إذن وراءه ماض مليء بالآمال والانكسارات، بالرغبات والاحباطات، فمهما قاومت وأخفت ندوبه وآهاته، لا يفتأ يظل حاضرا خلف كل المساحيق التي تكابد بقوة لجعله يتوارى عن الأنظار، حيث الزمن يرتد كما ترتد أمواج الدموع المنهمرة من العين المرسومة في لوحة المجموعة القصصية، فالقلق والإحباط، كما يعلمنا التحليل النفسي، عودة لزمن الماضي، للاشعور فردي حاضر ها هنا والآن، لاشعور لا يعترف بالزمن، لذا لم يكن استحضار القاص حميد ركاطة، للتاريخ البشري ضربا من العبث أو خروجا عن السياق.
للعلم المسبق لدى القاص حميد ركاطة أننا أسرى تاريخين: تاريخ فردي يعكسه لاشعور الذات وأخر جماعي يعكسه لاشعور الجماعة، فالتاريخ الجماعي هو تاريخ عنف، كما اعتقد ذلك “هيجل”، تاريخ سقته دماء حمراء، لتمنح، ويا لها من مفارقة، لتمنح قلب الحياة، أنه تاريخ لامتكافئ، تاريخ تحكمه جدلية العبد والسيد، رغبة جامحة في فرض الاعتراف بالذات دون أن تعترف هي بالآخر، بالعبد، جدلية التاريخ الجماعي هاته، تماثل في عمقها جدلية تاريخ الذات، وهي الجدلية التي عبر عنها أفضل تعبير “جاك لاكان” حين رأى في “اللاشعور خطاب الأخر”، الآخر الذي يسكننا ويوقظنا في غفلة منا،
لا لشيء في خطاب الآخر إلا لأنه قلق يتخذ، كما يقول “فرويد”، صيغة “عودة المكبوت”، عودة تمزق كيان بطلتنا وهي تصارع الزمن بحمرة لعلها تبقي على حياة تشعر مع مرور كل لحظة و مع انتقالها من طاولة إلى أخرى، بأنها أضحت قاب قوسين أو أدنى من النهاية، إن رمزية الحمرة تحيلنا على ثنائية المقدس والمدنس، فهي ترمز في نفس الوقت للتضحية والشهادة و للرغبة والعشق …لكن عالم بطلتنا يبدو غارقا في المدنس، لأنه عالم مزيف، عالم تتعاقب فوق سطحه مظاهر خادعة… تحاول إخفاء حلكة الليل المخيم على الحانات، إخفاء تفصح عنه رمزية سواد لوحة الغلاف و لونها الرمادي..
(°) أستاذ مادة الفلسفة، ومشرف على ناد للقراءة والسينما بخنيفرة
تعليقات
0