ما قاله الراحل أحمد وعتيق للكاتب حميد ركاطة حول طفولته ومساره وطقوسه في الكتابة والفن التشكيلي
أحمد بيضي
الخميس 31 ديسمبر 2020 - 00:31 l عدد الزيارات : 22855
حميد ركاطة
برحيل قيدوم الفن التشكيلي والعمل الجمعوي، والزجال الزياني، أحمد وعتيق، مساء الأربعاء 30 دجنبر 2020، عن سن 68 سنة، تكون مدينة خنيفرة قد ودعت هرما آخر من الأهرامات المحلية المعروفة،وذاكرة بارزة في سجل تاريخ الفن والابداع، وقد خلف صاحب ديوان “أسكون ووسان” (عنقود الأيام) تجربة كبيرة من اللوحات الفنية والأعمال والمسودات العربية والأمازيغية والفرنسية…
ومن بين الحوارات التي أجريت مع الفقيد، حوار أجراه معه، عام 2011، الناقد والقاص حميد ركاطة
أحمد وعتيق، من مواليد مدينة خنيفرة، أستاذ متقاعد لمادة الفنون التشكيلية بمركز تكوين المعلمين والمعلمات بنفس المدينة، يعتبر من بين أبرز وجوه النهضة الفنية والتشكيلية إلى جانب مجموعة من المبدعين المنضوين في إطار جمعوي تحت إسم “وشمة”، وأول معرض تشكيلي أقامه الفنان أحمد وعتيق كان سنة 1969 بخنيفرة، ما يبرز سبقا وإصرارا على وضع لبنة لمسار إبداعي طويل، كما ساهم عام 1978 في تأسيس المسرح الصغير بخنيفرة.
وضع خطواته الأولى بالمشاركة في معرض جماعي بالرباط باب الرواح سنة 1984 ومعرض خاص بفندق موحى وحمو الزياني، بمناسبة اللقاء الوطني الأول للمقاولين الشباب سنة 1992 ، ومعرض جماعي بقاعة الصناعة التقليدية بمناسبة الأسبوع الثقافي الأول لمدينة خنيفرة سنة 1998، قبل تأسيس “جمعية الأرز للفنون التشكيلية”، بخنيفرة، سنة 1986، من أعماله مؤلف ” عنقود الأيام “الصادر سنة 2000 عن مطبعة أنفو برانت بفاس.
– من هو أحمد وعتيق ؟
– مواطن مغربي بسيط، من الأطلس المتوسط، طفولتي الأولى كانت ما بين السهل والجبل، وفي عمر ثلاث سنوات، وبعد الانتقال إلى خنيفرة عشت عن قرب بعض الأحداث الدامية في انتفاضة 20 غشت 1955 بخنيفرة، حيث نجونا أنا وأمي من الموت برصاص المستعمر، تعلمت الحروف في المسجد وتمت تربيتي في الكشفية والمدرسة، وبعد نهاية الدراسة كان حلمي أن أصبح ربان طائرة، و لكن الأقدار الاجتماعية ساقتني إلى مجال التعليم، فصرت مدرسا في البوادي عدة سنوات، وفيما بعد مدرسا بالإعدادي والثانوي ثم بمركز تكوين المعلمين.
شاركت في ملتقيات، أنجزت ديكور عدة مسرحيات، وقمت بمعارض تشكيلية ابتداء من 1969؛ كما ساهمت في تأسيس العديد من الجمعيات الثقافية والفنية والتربوية، أمارس ـ هواية ـ البحث في تراث المنطقة التي ولدت فيها، وبالدارجة المغربية أكتب الزجــل.
– من خلال سيرتكم الذاّتية، يبرز أن مساركم الإبداعي حافل بالعطاء المتعدد، إذ تعرفنا عليكم تشكيليا بامتياز وصديقا للكتاب، كيف جاءت فكرة إخراج العمل “عنقود الأيام” للوجود؟
ــ كان لي صديق، رفيق دراسة، جاء من البادية ليتابع تعليمه بالمدينة، وكان كلما يحن إلى أهله يغني بالأمازيغية، والدموع تنهمر من عينيه، أشفق لحاله وأسأله عما به فيشرح لي تعابيره، فأكتبها على كراسات صغيرة، في تلك الفترة شهدت بلدتي النائية حضور معارض نادرة لتحف فنية فرعونية وهولندية حقيقية لكبار الرسامين، كان يشرف على تنظيمها المرحوم الفنان محمد القاسمي.
وبعد مضي ما يزيد على ربع قرن، وبينما كنت أبحث في صناديق كتبي القديمة عثرت على ما كنت أكتبه، إنه شعر صديقي الرفيق وما دونته بعده ؛ فهزني الشوق إلى ذلك الزمان الجميل، وخطرت لي فكرة جمعه و تنظيمه، وهكذا ظهر مؤلَّف “عنقود الأيام” سنة 2000، وهو حاصل محبة وبحث، وجملة مختارة من الشعر الغنائي الأمازيغي في الأطلس المتوسط،
تتناول الأقسام الخمسة للكتاب تيمات القدرـ الشـوق ـ الجمال ـ العرس ـ مختلفات، عبر فيها الشعراء بصفاء ووضوح عن تجاربهم وتأملاتهم في الطبيعة والمجتمع والكون والإنسان، من خلال مقاطع شعرية هي أقرب شبها بقصائد الهايكو اليابانية، مع فارق البعد الجغرافي واختلاف الحضارات، وذلك من جانب تركيز الإحساس في كلمات قليلة، وبناء الصورة البليغة والمؤثرة.
– الكتاب ثمرة بحث طويل وغوص في ثقافة وتقاليد محلية “خاصة بالأطلس المتوسط”، ونمط حياة سكانه، بحيث نجد أن الشعر كان ولا يزال حاضرا في كل المناسبات، ومن خلال مقتطفاته يتجلى عمق الارتباط بالأرض والبيئة وطبيعة حياة الترحال والتنقل، هلا حدثـنا عن هذه التجربة؟.
ــ نعم ، في الستينيات من القرن الماضي كانت مدينة خنيفرة عبارة عن تجمع سكني نشأ على ضفتي نهر أم الربيع، وكانت معبرا للبدو الرحل في رحلتين: رحلة الصيف من السهل/ أزغار، اتقاء الحر، غرب الوادي، وبعد جمع المحاصيل الزراعية وحفلات الزواج والختان، إلى شرقه نحو الجبل حيث الخضرة واعتدال الحرارة للرعي وتربية الماشية؛ ثم رحلة الشتاء رجوعا قبل حصار القر والثلوج.
في صباي شاهدت السكان وهم يشقون طريقهم القديم في المدينة: فرسان على جيادهم، والدواب تحمل أمتعتهم والخيام وبعض الأطفال والعجزة، والمشاة تسوق الماشية، كنت أستغرب هذا المنظر حينما يخالط المظهر البدوي نقيضه الحضري، وأحيانا قد تضطر قافلة متأخرة للمبيت “بفَنْدَق” في المدينة، وهناك رأيتهم مرة أخرى، في مكان نظيف، بعيدا عن الدواب يقيمون مجالسهم، يتسامرون.
وبعد العشاء ينام الأطفال والنساء، وفي آخر الليل يبقى الحكماء ساهرين ، وفي هدوئه يظهر الشعر الرصين، يعالج مواضيع للتذكر والتنشئة، البدوي يعيش في فضاء فسيح غير مروض، لكنه يعرف كيف يسير فيه، في كل أحوال الحياة وحتى النهاية، والشعر كتابه المسطور على ذاكرته، يضم تجاربه ويلازمه في كل حل وترحال.
والكتاب “عنقود الأيام” ليس إلا محاولة جد متواضعة لتوثيق بعض مظاهر تلك الحياة التي أشرفت على الاندثار بفعل ما تغير في العيش والمجال، عنوانه يحيل على عنقود العنب، كل حبة من حباته بمثابة تجربة، بعضها حلو مذاقه وبعضها حامض أو مر، وهكذا الأيام، أما من الصعوبات التي واجهتها في تأليفه فهي: طريقة جمعه في تيمات، استقصاء معاني الجمل والمصطلحات، مرحلة التعريب أو الترجمة، مراجعته مع أشخاص ذوي إلمام باللغتين ومتاهات القول الشعري، مشاكل الطبع والتوزيع، النقد المغرض من بعض الأطراف، وأخيرا هذه الثغرة المهولة وهي العزوف عن القراءة لدى غالبية الناس: (ناسنا).
– تجمعون بين البحث التراثي والاشتغال الفني التشكيلي خصوصا، أين يمكن وضع أعمالكم؟ بمعنى آخر هل تنتمون إلى مدرسة أو تيار تشكيلي معين؟.
ــ هناك تراث صامت، مشكل ومبني ومكتوب، وتراث شفوي حي وناطق نعيشه في سلوكياتنا وهو التراث الشعبي، وإلى هذا الأخير تميل أبحاثي.
وعن التشكيل، فاللوحة قد نظر لها الغرب منذ قرون عندما تحررت من الأسناد النفعية كالخشب والمنسوج وجدران المعابد والقصور، واستقلالها وتنقلها مهدا لظهور المذاهب والتيارات، إلى أن انفجر معناها خارجها في الفضاء الطلق، كالفن المفاهيمي والحركي وفن الأرض، الحركة التشكيلية في مغربنا بمعناها السابق لا يتجاوز عمرها ثمانين سنة بدء بالرواد الأوائل: (بنعلال، الورديغي، شعيبية وغيرهم) الذين كانوا عفويين: واقعية خارج قواعد المنظور في مواضيع شعبية.
بعدهم ظهر جيل “الفنانين المثقفين” على اختلاف مشاربهم، فطرحت إشكالية (الأصالة والمعاصرة)، وتجلى ذلك عند بعضهم في الاشتغال بمواد البلد كالحناء والجلد والخشب والعظام (بلكاهية ـالسلاوي وغيرهما) ، وعند البعض الآخر التزاما بالقماشة والأصباغ الغربية في محتوى محلي (الغرباوي ـ الشرقاوي ـ بن يسف وغيرهم)، تجريدا، أو رمزا أو تشخيصا.
ثم جاءت المغامرة خارج اللوحة المعروفة إلى التعبير في الفضاء الطلق ، وذلك في تجربتين: أولاهما لما أقام (القاسمي) أعمدة على شاطئ المحيط الأطلسي، تعلوها أثواب كأعلام تهفهفها الرياح باتجاه العالم الجديد، والثانية (لعبد اللطيف الزين) عندما جمع في عرضه ما بين رقص ” كناوة” وموسيقاهم والتراش بالأصباغ السائلة الملونة على طريقة طقس “زمزم المغربية”، وثقافتنا الشعبية تزخر بالكثير من أنواع التعابير الطلقة، ولنا المثل في الأعياد والمواسم.
كل هذه تجارب ومحاولات تحتاج إلى تراكم وتنظير لتتبلور كمدارس أو تيارات فنية بالمعنى المغربي، أما في تجربتي فقد عملت على اللوحة الزيتية في مواضيع محلية، وبعدها بأجزاء مجسمة من مكونات الخيمة، ثم إفراغها بالصباغة على سند ذي بعدين، ومن هناك انتقلت إلى مرحلة توليد اللوحة من الصدفة حسب ما يعترضها من حوادث، وفي الهواء الطلق رسمت آدم وحواء تحت المطر بالطين، وبسقط الجمر والرماد شكلت عرسا أطلسيا تحت ضوء القمر.
– اللوحة الفنية لديكم هي مزيج من الاشتغال التراثي و” الحداثي”، ترى هل استفدتم كأستاذ للفنون التشكيلية من هذه التجربة، فالتنظير غالبا ما يقترن بالتجريب بحثا عن قوالب جديدة أو تجاوز نماذج وقوالب لم تستطع تقديم جديد خارج عيارها، بل أحيانا يتم التخلي عن مفاهيم خاصة بمدرسة ما، هل يمكن أن نسجل أن تجربتكم هي تجربة لها طابع خاص جدا وأنها أبرزت خصوصية محلية؟.
ــ الفن في التشكيل هو تجسيد ما لا يرى وله وجود حقيقي في الذات كإحساس، في ما يرى كمادة خارجها، إنها العلاقة القديمة بين الشكل والمضمون، وعندما يطابق الشكل معناه نكون قد حصلنا على عينة حية من عالم الوجدان، قد يتفاعل معها المتلقي حسب مستواه والنوع المعروض أمامه، القدامى صنعوا قوالبهم بما كان يتماشى مع عيشهم، وللجدد قوالبهم، إما نكوصا للمحافظة على القديم أو مواكبة للحاضر بما يطرحه من إشكاليات أوالسير في طليعة أصحاب التغيير .
في بواكير أعمالي الفنية اشتغلت على مواضيع تشخيصية محلية بمواد البلد، كالطين والليف وقطع مادية من مكونات الخيمة، لكن فيما بعد اكتشفت أن اللباس وحده ليس هو ما يكون الفقيه، الفنان يعيد النظر في عمله متسائلا عن الصيغ الممكنة لتحمل رؤيته، وقد ينتقل إلى تجربة مغايرة في التناول والأسلوب، وما أصعب تغيير الاتجاه بعد التعود عليه، عاصرت بلدتي في نشوئها، كانت تحاول نزع أردية البداوة عنها لتصبح مدينة، وكان لابد من التقاء القديم بالجديد كما تقتضيه سنن العمران، وهكذا كانت طريقتي في التعبير عن رؤيتي الخاصة لبيئتي، وهو ما يطبع أعمالي الشعرية والتشكيلية من وضوح التعبير إلى ضبابيته، حسب ما يكون عليه الحال، ودون اصطناع، وإنما هو المناخ وأنا أعكسه.
وتجربتي في مركز تكوين المعلمين كانت من أجمل فترات حياتي، فيه إلى جانب إخواني المكونين الأكفاء، فتحت قلبي كله، ونشرت معارفي للتجريب والمناقشة، وفيه من قبل كنت ذات زمان تلميذ مدرسة، مرت أمامي أفواج من الطلاب غريبة، من إجازة وبكالوريا، ومعلمين قدامى ليصيروا مديري تعليم؛ منهم من كنت له تلميذا ومنهم من كان لي تلميذا، ومنهم رفاق دراسة، ومنهم من كانوا زملائي في المهنة، عجبا للظروف كيف تفعل! ومع الأحباء اشتغلنا جميعا على جوانب تتعلق بالفن والحرية والهوية والتربية والابتكار.
– ماهي أهم الأفكار التي جسدتها أعمالكم ، وبالتالي ماهي المواضيع التي كنتم تطمحون لمقاربتها،لكنها ظلت دوما منفلتة؟
ــ صغارا، بدار الشباب كان معلم الرسم يردد علينا في كل حصة نصيحته هذه: “انتبهوا يجب علينا أن نفكر قبل أن نرسم”، وهي كلمة سكنت ذاكرتي لعدة سنوات، إذ في التشكيل، قد لا تكون المواضيع بالضرورة ذات اهمية كبيرة إلا في علاقة الفن بالإيديولوجيا كما يحكي تاريخه، أما في فنون أخرى، كالنثر والقص والشعر والتمثيل، فلا يستغنى عن الموضوع، لأن الكلمة مادتها، والكلمة مبنية كمدلول مستقل بذاته، ويدخل في علاقات مع أخريات في بناء النص كله وتوجيه معنى/ رسالة للفهم بطريقة ما.
ورغم ذلك قد تبدو فكرة موضوع صغيرة ، لكنها لحمة في التقييم الفني للعمل الإبداعي الموفق ،وباسمها يحمل عنوانه ،وبها يعرف، مثلا قصة “الصرصور” القصيرة ليوسف إدريس، أو “الزائر” لفرانز كافكا أو” النملة والعصفور” لحميد ركاطة، إنه التوفيق في التناول والصياغة، والتعبير بصدق عن إحساس بمعنى عميق في الوجود الإنساني.
من مواضيع الأفكار التي جسدتها في بعض أعمالي: الأم والأمومة، أطفال حول النبع، الخيول عند النهر، آدم ماء وحواء، (وهذا الأخير حقيقي كما تراه العين) ، هي مواضيع واقعية، لا تكلف إلا عناء الاختيار والتمكن من تقنية الإنجاز، مرت في فرح وانشراح، بعدها جاء الرسم من الذاكرة والخيال، ومن تلك الإنجازات: السيرك، الساحر، بنات الليل، جهنم، المسافرون.
المدينة بما عشت فيها غيرت رؤيتي للحياة، تزامنا مع دخولي مرحلة عمرية حرجة، ولمدة طويلة هجرت كتابة الشعر والتشكيل، ولم يبق لدي إلا القراءة وبعض التساؤلات من قبيل “من أنا” و”ما الحياة” و”ما المصير”، وفي تلك الغربة التقيت بالمجموعة : “غوغان”، “أبو ماضي”، “بودلير”، “رامبو”، “ناس الغيوان”، وغيرهم من الحيارى في هذا الكوكب “الوالو” في كون مرعب مترامي الأطراف بلا حدود و لا نهاية…
ولما هدأت قليلا أزمتي الوجودية عدت إلى التشكيل، لكنني ألفيت نفسي أمام فراغ اللوحة أهاب المجهول، لا أعرف ما سيحدث، ولا ما سيكون، وهكذا، وبدون سابق تصميم أو تفكير أباشرها بضربات فرشاة سريعة وعشوائية ، بعدها أستريح . أتأمل فوضاها، ثم بهدوء ورفق أوجه أشكالها، دون كثير تدخل ولا ابتسار، إلى ما يمكن أن تكون عليه كمحتوى خطاب متناسق التكوين، من لوحات هذه الفترة: “الوحش والنيل والمرأة”، ” لبؤة ونهر وخروف”، “الإنسان في مراحل حياته” ، “البوهالي”، وأعمال أخرى ليس لها عنوان.
– هل استطعتم مثلا أن تضمنوا لوحاتكم بعض تجليات الحياة البدوية مع استحضار للوشم والزربية والمنسج واللغة كمحاولة لتقريب تلك العوالم بلغاتها المختلفة من المتلقي بصريا من خلال طرح نظرة الآخر حول الكون و”اللغى” و”إيزلي” و”تاماوايت” كتعبير عن صدق الإحساس؟
ــ الشاعر تكلم في أصناف شعرية مختلفة، ومنها قصائد غنائية تتألف من “اللغى”، وهو مضمون فكرة تتكرر كلازمة خلال الأداء، و”إيزلانها” تتكون من أبيات متوالية منفصلة لكل منها معناه الخاص، أو قد تكون متصلة تروي حدثا أو قصة. مثلا يقول “اللغى”، وهو هنا رسالة شوق إلى من يعنيه ذلك:
مهلا، قد أعشــيــتـني مهلا قد أهلكـتــني
فتعـال يا أخي عندي
لكن أحد “إيزلانه” يحكي باتصال مقتضب عن قضية القدر، متمثلة فيما لا يزال يجري من عداوة ما بين البازي والحمام، ومنذ الأزل، يقول:
كان الحمام يرعى، حتى جاء يومه، فأطل على الوعر مكتوب على كتفه ، “البـازي يأكله” ،لأنه مقـدر علـيه
أما “تاماوايت” وتعني بالتقريب “ماية” أو “ميلوديا” لامتداد الصوت فيها، يؤديها شخص فرد أو شخصان متباعدان، وهي ” بفن” صرخة أو نداء على قمة جبل ، لا آلة ترافقها ولا جمهور يحضرها، ومنها هذا المثل عن الإستحالة في علاقة .
اسأل عني، اسأل الحجر الذي انحدر هل يستطيع الرجوع يوما إلى المرتفع
هذه صورة تشخيصية في كلامها، واضحة في معانيها، وهي في لغة الألوان والأشكال أسهل تواصلا مع المتلقي، نظرا لتجلي القصد في صورة مكانية إن أحسن التعبير. والمتصفح لكتاب “عنقودالأيام” سيجد لوحات تزيينية مرافقة لتيماته ومشاريع لوحات أخرى في فهرسه . ومنها عروسة أطلسية ،القدر،العودة إلى البلد، منسج الغابة،ليمونة في الظل،الأعمى والعكاز،الأحمق وظله، وخارج الكتاب أعمال غيرها مستقلة ومنها : لاعبات بوداق، عمي كلماموس، غازلة الصوف ،الحصادة، تكوين على العنيبرة، وشم على يد .
– اشتغلتم كذلك على الشعر وبالخصوص عن شعر المقاومة بالأطلس المتوسط، أين وصل هذا المشروع؟
ــ بداية شهر نونبر سنة 1999 تلقيت دعوة للمشاركة في لقاء نظمته المندوبية السامية للمقاومة وجيش التحرير، احتفاء بذكرى معركة الهري 1914، كان الأمر بالنسبة لي جد صعب نظرا لضيق الوقت من جهة وانـعدام المراجع الموثقة في مثل هذا الباب من جهة أخرى، وتوكلت على الله، فانطلقت أبحث في خزانات الصدور، وبعد جهد جهيد عثرت على أشخاص معمرين في السن، أخذت عنهم ما يفيد من وقائع منظومة، ومنه القصيدة الرائعة “معركة الهري” بالأمازيغية وهي تحفة نادرة تستحق أن تكون معلقة بـماء الذهب .
أما عن السؤال أين وصل هذا المشروع “البحث البحت”، لقد تم تضمينه ما بين محتويات سلسلة الكتب التي تطبعها المندوبية السامية للمقاومة وجيش التحرير في مثل تلك المناسبات، وهو الآن يرقد في راحة تامة، داخل محفظة سوداء مكتوب عليها بحروف ذهبية تاريخ ذلك اللقاء، أحتفظ بها، ومن حين لحين أشم فيها عبق ذكرى تـلك الملحمة المغربية الخالدة ؛ ولكن يبقى الأهم التوثيق لمثل تلك الأحداث الجسام علامة على ما جرى، وعبرة يمكن تحيينها متى ما جد الجد، ومن يدري؟ّ! وهل في الزمان ثقة ؟! إنها مسألة هوية أمة أمام الخطر، ولا جدال في الدفاع عن المصير، وليس سهلا ولا عبثا أن تؤلف قلوب شعب على محبة ملك منفي في قاع الدنيا، ويرون وجهه في القمر.
– كما أنكم إلى جانب الشعر اشتغلتم على الزجل . ديوان “ورد وشوك” ما مصير هذا العمل ؟
ــ آه ! كم تفزعني كلمة المصير هذه وأخواتها الثاويات في التنشئة والتربية، ديوان “ورد وشوك” هو المجموعة الزجلية الثانية بعد “ماكاين باس”، وما قبل الأخيرة ” لون الليل “، كان تجربة في إخضاع الكلمات الدارجة لبعد الإحساس المراد التعبير عنه، وفي تناسب الشكل مع ما يدل عليه، حقا كانت شاقة لكنها استحقت أن تعاش، وهذه قطعة منه:
كان الـظن تجريـب
والكون كون غريب
كثارو فـيه اشــواك
تعيا تشوف حــداك
ماتـــلقـــاش ورود
الحظ فالمـــحال بـنى خـــيمه ودا الصباح وراح ، وخلا لـيام تلعب كيف بــــغات ، وأنا وأنـت والريح دايزين من هنا: كيف أحـلام ناشـفة ما تسقـيـها لفــراح
ولكن هناك الأمل، كما جاء في الكتاب القيم للأستاذ د.عمر أمرير “الشعرالأمازيغي” نقلا عن الأخوين جريم رائدي الأدب الشعبي في ألمانيا، قولة أختصرها، بكل اعتذار واحترام، حسب المقام، وهي ما معناه: ” إنه قد تنجو بعض السنابل من كوارث طبيعية تكتب لها الحياة وتنمو من جديد، وفي أواخر الصيف تكون ناضجة فتمتد إليها أياد مسكينة، تجمعها سنبلة في رفق وحذر وتظل تتغذى عليها الشتاء بطوله وربما تصبح هي ذخيرتها الوحيدة للمحصول المقبل”، وهكذا زرعت، وأتمنى الخير.
– هل يمكنكم أن تحدثونا عن أحد أعمالكم المهمة، مفهوم المجال في القرية الزيانية والذي كتبتموه باللغة الفرنسية؟
ــ نعم، الكتاب المخطوط “مفهوم المكان لدى الأمازيغي الزياني”، هو بحث قمت به سنة 1984 للتخرج من السلك الخاص بأساتذة التربية الفنية التشكيلية بالرباط، تحت إشراف الأستاذ المقتدر، الناقد والمؤرخ للفن التشكيلي في المغرب: د.خليل مرابط، ويتناول في قسمه الأول مفهوم المكان نظريا، ثم عرض أمثلة من الحضارات كالفرعونية، واليونانية الإغريقية، والعالم الإسلامي، والعصر الوسيط، إلى عصر النهضة، فالقرن العشرين.
وفي القسم الثاني: مفهوم المكان لدى الأمازيغي الزياني من خلال المجال الذي يعيش فيه السكان، وأنواع المكان وما يتعلق به من أفكار وتصورات، كالوطن، والبلد، والقطاع، الحد، السبل، المنافذ، الاتجاهات، الخيمة، المنزل، النسيج، الكهف، الجبل، المقبرة، وأماكن أخرى خيالية حيث ظروف المكان والزمان والمخلوقات لها معاني وأبعاد وتمثلات خارج إطار البديهيات.
– ماهي رسائلكم للقائمين على الشأن الثقافي محليا ووطنيا؟
ــ المسألة الثقافية بكل ما تعنيه من تعاريف ومرامي وأهداف ومجالات ووسائل، وفي حالاتها السوية والمضطربة، تكلم عنها وكتب فيها مفكرون أجلاء، وإنتاجاتهم في هذا الأمر غزيرة، وفي المتناول، تملأ الرفوف وتذيع على الأرضيات، وضمنها رسائلهم للقائمين على الشأن الثقافي، وهي مازالت تنتظر جوابها الصحيح على أرض الواقع.
نعم، هناك حقا مجهودات لا تنكر ومبادرات تستحق التنويه، كمظاهر ثقافية وطنية ومحلية، من مهرجانات ومواسم وأسابيع وأيام ومعارض ومسابقات؛ ولكن الحرث في العمق هو ما يخص كما قال لافونتين،. الشأن الثقافي هو بناء أجيال على صح، وإنتاج معرفة بالذات والمجتمع، ورعاية وتوعية لجميع أفراده ليساهموا كل حسب موقعه ومقدرته، في تقدمه وتطوره، تناسبا وانسجاما وتحسبا لدورات الحياة ؛ وهذا يحتاج إلى مشروع مجتمعي، تنويري ورزين.
تعليقات
0