للبدايات سحرها الخاص ،تبقى دائما عالقة في الذاكرة والوجدان، مثل ظلنا القرين، لصيق بنا في الحل والترحال، مهما كانت الإخفاقات أو النجاحات فلن يستطيع الزمن طيها. البدايات كانت دائما صرخة اكتشف معها المرء لغز الحياة، وككل بداية أو أول خطوة تحضر الدهشة بكل ثقلها، نعيش تفاصيلها بإحساس مغاير تماما ،وهو الإحساس الذي يكتب له الخلود ،نسترجعه بكل تفاصيله وجزيئاته، كلما ضاقت بنا السبل أو ابتسم لنا الحظ وأهدانا لحظة فرح عابرة. البدايات في كل شيء، دائما هناك سحر غامض يشكل برزخا بين الواقع وما تتمناه النفس الأمارة بالحياة والمستقبل الأفضل. في هذه الزاوية نسترجع بدايات فنانين مغاربة عاشوا الدهشة في أول عمل فني لهم، واستطاعوا تخطي كل الصعوبات كل حسب ظروفه المحيطة به، ليبدع لنا عملا فنيا ويهدينا أغنية تشكل اليوم له مرجعا أساسيا في مسيرته الفنية، وتشكل لنا لحظة بوح من خلال استرجاع عقارب الزمن إلى نقطة البدء، وتسليط الضوء على ما جرى.
بالنسبة للفنان القدير محمود الإدريسي تبقى أغنية «عيشي يابلادي «فاتحة خير في مشواره الفني لأنها فتحت له «من جديد» أبواب القصر الملكي على مصراعيه . هذه الأغنية التي هي من كلمات الأستاذ علي الحداني وألحان محمد بنعبد السلام، يقول الصوت الذهبي كما كان يلقب، رأت النور سنة 1973 وبالضبط بمناسبة عيد العرش الذي كان يصادف الثالث من شهر مارس من كل سنة في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، قبل هذا التاريخ، الذي سيبقى خالدا في ذاكرة محمود الإدريسي، يقول، كنت بمعية العديد من الفنانين في ضيافة الملك الراحل الحسن الثاني، وقد أديت أغنية أمام جلالته ، حين انتهيت كان جلالته يتحدث معي، لكنني تحت رهبة المشهد والموقف والدهشة بصدق كنت «مرفوعا «ولم أنتبه وأنا أتحدث مع الملك أنني أضع يدي في جيبي، هذا السلوك لم يستسغه جلالته، فغضب مني وخاطب البعض قائلا «علمو الناس الاحترام والانضباط ملي تدخل هنا «، وهي القصة التي استغلها بعض الفنانين، واعتبروها مناسبة للتخلص مني وإلى الأبد وظنوا أنها المرة الأخيرة لي في «دار المخزن «، المهم، يتذكر محمود الإدريسي، كانت أسوأ فترة عشتها في حياتي، وعدت إلى حال سبيلي بصحبة الملحن محمد بنعبد السلام في سيارته، وقد لاحظ انزعاجي وغضبي وإحباطي، فخاطبني قائلا ،»المهم علينا أن نهيئ أغنية وطنية بمناسية عيد الشباب الذي يصادف 7يوليوز،علينا أن نشتغل على أغنية «عظيمة «ستجعل «سيدنا «ينتبه إلينا ويدعونا إلى القصر…»، أقسم بالله هكذا خاطبني الملحن محمد بنعبد السلام، يقول الإدريسي، لكنني لم آخذ كلامه على محمل الجد، ولم نهيئ أي عمل فني بهذه المناسبة، لأني اعتبرت الأمر منتهيا منذ تلك الحادثة التى وقعت معي في القصرالملكي، خاصة وأنه يستحيل أن يتم تسجيل أي أغنية صحبة الجوق الملكي، لأن الكل كان يعتقد أن جلالة الملك الراحل الحسن الثاني قد غضب مني وعلي، وبالتالي كأنني مطرود . وحدث ذات يوم أن كنت برفقة الملحن محمد بنعبد السلام بالرباط، فالتقينا بمحافظ الجوق الوطني في الساعة العاشرة صباحا تقريبا، فسأل المحافظ الملحن بنعبدالسلام إن كان لديه أغنية بمناسبة عيد الشباب، فرد عليه بسرعة ومن غير تردد، نعم «موجودة « فضرب معنا موعدا في السادسة من مساء نفس اليوم، اندهشت لموقف محمد بنعبدالسلام ،وسألته بعد أن غادر المحافظ ،»فين هاد الأغنية « فرد علي، «اليوم إن شاء الله سنهيئها،عليك بمسايرتي فقط…»، فعلا اتجهنا نحو مقهى «باليما «نبحث عن الشاعر علي الحداني، حيث كانت عادته أن يحتسي قهوة سوداء و»والماس «، فعلا وجدناه هناك، وسأله بنعبدالسلام إن كانت لديه قطعة غنائية بالمناسبة، فأجابه الحداني،»هناك قطعة غنائية من خمسة أبيات ولم تكتمل بعد» ، فكان رد فعل بنعبدالسلام، «هذا يكفي»، وطلب منه مدنا بها، لكنه أعتذر لأنها في منزله، وكانت عادة علي الحداني، رحمه الله، أنه يخلد للنوم مباشرة بعد تناول وجبة الغداء، لكننا اتفقنا في الأخير أن يلتحق بنا بمسرح محمد الخامس بالرباط في الساعة الرابعة بعد الزوال، وبالفعل ، يضيف الفنان القدير محمود الإدريسي ،تسلمنا هذه القطعة الغنائية، وانزويت والملحن الذي كان مصحوبا بآلة عود في إحدى القاعات، وخاطبني أنه ليست لدينا آلة تسجيل، وبالتالي علينا أن نحفظ أي مقطع تم تلحينه، واقترح أن يكون الموال الذي يسبق الأغنية على الطريقة الرحبانية، وقد أضفت بعض الأشياء من عندي فأعجب بها الملحن محمد بنعبدالسلام، المهم، يضيف محمود الإدريسي، انتهينا من اللحن والحفظ وتوجهنا مباشرة من مسرح محمد الخامس بالرباط بعد أن اكتملت هذه القطعة في الساعة السادسة إلا ربعا مساء، بالفعل كنا في الموعد كما حددناه مع محافظ الجوق الوطني، وبدأت التمرينات، بدأنا بالموال وقد تم حفظه من طرف الكورال، وكلما أعدنا التمرين، تترسخ الأغنية في ذاكرتي القوية، في صباح اليوم الموالي تمرنا من جديد لنسجلها في المساء. وقد تفاجأنا برد فعل المغاربة الإيجابي عند سماعهم لهذه الأغنية، ويضيف الإدريسي، أنه حينما سجلت كانت تحظى بدعاية كبيرة في الإذاعة الوطنية، كانت تقدم بـ»عيشي يا بلادي» للصوت الذهبي محمد الإدريسي، وأنا الذي كنت ما أزال في بداياتي، وكنا نقوم بجولة غنائية في المغرب كله، وحكى لي الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله، أن جلالته كان يسمع هذه الأغنية في الراديو، وكان دائما يحاول تسجيلها ظنا أن الأغنية ستذاع كلها، وإذا الأمر كان مجرد إعلان في إطار هذه الجولة.وحينما وصلنا إلى مدينة وجدة، أراد الملك الراحل أن يستمع إليها كاملة، مما اضطرنا إلى إيقاف الجولة والعودة إلى الرباط، حيث أديتها أمام جلالته وأهداني معطفه، ومن ثمة أصبحت معتمدا في القصر الملكي مع الجوق الملكي، وفي كل جولة نغني «عيشي يا بلادي»، وهي من الأغاني العزيزة على قلبي بشكل لا يتصور، وقال لي رحمه الله، هكذا كانت أغنية عبد الوهاب الدكالي محببة لي «يا حبيب الجماهير « وهي من الأغاني الوطنية التي أفتخر بها، والآن هناك أغنية «عيشي يا بلادي» التي أفتخر بها ولا يمكن ألا تتغنى في كل مناسبة، ويتم الافتتاح بها، بل إن جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله كان دائما يقول لي «غني لي أغنيتي «في إشارة إلى أغنية»عيشي يابلادي «. وعن أولى تجاربه الغنائية، يقول محمود الإدريسي في لقاء سابق بجريدة الاتحاد الاشتراكي، كانت سنة 1965 خلال إحدى الحفلات، وغنيت أمام الجمهور موشح «ياليل طول» وبعض أغاني محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش رفقة فرقة الخمس والخمسين. أتذكر جيدا هذه المرحلة، وهي من أجمل لحظات حياتي، وكنت مغرما بالفن منذ صغري. هذه البداية كانت بداية خير . ومنحتني فرصة لكي يتصل بي عبد الله عصامي الذي اصطحبني إلى الإذاعة الوطنية، حيث استمع إلي الموسيقار أحمد البيضاوي. من ذلك اليوم بدأت عملي كأحد أفراد المجموعة الصوتية بالإذاعة الوطنية، وكانت بداية طريقي التي أدخلتني عالم الفن من بابه الواسع. كان المقابل المادي هزيلا جدا، يقول محمود الإدريسي، إذ كنت أتقاضى مبلغ 40 درهما مقابل المشاركة في كل سهرة آنذاك، لكن لم يكن الهاجس المادي هو همنا بقدر ما كان الهاجس الفني، لأني كنت أشعر بأنني لا يمكن أن أعيش بدون فن. كانت هذه المرحلة فرصة للاحتكاك بالفنانين المغاربة الرواد، إذ كنا نضطر إلى التمرين على الأغنية أسبوعا كاملا أو أكثر لنسجلها مع الفنان المعني، مثل محمد فويتح، عبد الوهاب الدكالي، عبد الهادي بلخياط، محمد لمزكلدي، المعطي بنقاسم، محمد الغرباوي، عبد القادر الراشدي، عبد القادر وهبي وغيرهم من الرواد. فعلا كانت مدرسة حقيقية نظريا وتطبيقيا، ومن خلال هذه التجربة عرفت ما هو الإيقاع وما هي الأنغام والألحان. ولو لم ألج هذه المؤسسة (الجوق الوطني) لما كان محمود الإدرسي، لقد كانت محطة أساسية في حياتي.ويضيف أن «سي عبد النبي الجيراري كان موظفا بالإذاعة الوطنية وبالجوق الوطني، وكان معجبا بصوتي، كما نسجت علاقة قوية بيننا، وهو أول من أشرف على تقديم دروس للعزف على آلة العود بالنسبة إلي. كان ذلك سنة 1967، وبحكم إشرافه على برنامج «مواهب»، كنت من ضمن التلاميذ الذين يشاركون في هذا البرنامج وأساعده في الاستماع إلى المتبارين، وهو البرنامج الذي مرت منه العديد من الأسماء مثل سميرة سعيد التي كان عمرها 9 سنوات، وعزيزة جلال، وقد تبناني الأستاذ الجيراري، كما كان يحرص على تعليمي اللون الغنائي الخاص به، وهو لون صعب ومعقد، ولما أدرك أنني تدربت أسند إلي أغنية «ياملكي يابلادي» التي هي أول أغنية لي، وكانت فاتحه خير، بعدها تهافت علي العديد من الملحنين مثل الأستاذ صالح الشرقي، عبد الحميد بنبراهيم، عبد القادر وهبي، عبد القادر الراشدي وغيرهم. بعد ذلك أي في سنة 1970، أديت أول أغاني بالدارجة المغربية، وهي أغنية «الشمعة» من كلمات أحمد الطيب لعلج. الكثير من المغاربة والعرب لا يعرفون أن أغنية «راحلة» التي أداها الفنان المرحوم محمد الحياني كانت في الأصل أغنية مخصصة لمحمود الإدريسي وقد سجلها بصوته،عن ذلك يتذكر،» بالفعل، كان عبد السلام عامر قد تعامل معي في تجربتين، ورغم أدائي لهما لم ترتبطا باسمي، إذ كان الأستاذ عامر يحرص على سماع أغانيه من طرف صوت يحسن الأداء، حتى يتحقق من الهفوات التي يمكن أن تكون. لذلك يختار مطربا معينا، وكان يختارني مرة مرة، قبل أن يختار المغني الذي سيؤدي عمله، وبخصوص أغنية «راحلة» فقد أديتها بإتقان وتمرنت عليها قبل محمد الحياني، قبل أن أكتشف أن الأستاذ عامر اختار محمد الحياني لأدائها. وقد آمن أعضاء الجوق الوطني بأدائي المتميز لها، فاتصلوا بالأستاذ عبد الرحمان العلمي الشاعر وصاحب شركة «أطلس فون» وقد سجلتها بالدارالبيضاء مساء، في حين سجلها محمد الحياني صباح نفس اليوم باستوديو آخر. وبصراحة هناك ذكريات جميلة مع هذه الأغنية. فحين أستمع إليها «كنحس فشي شكل» والتسجيل مازال موجودا وسأحرص على نشره، وهناك أغان أخرى تعامل معي فيها ملحنون، لكنها أعطيت لمطربين آخرين، ومن ضمنهم دائما عبد السلام عامر في ملحمة موكب الخالدين الذي أعطاها لعبد الهادي بلخياط، وبسبب ذلك «تقلقت» على السيد عبد السلام عامر، لأنه أخطأ في حقي، قبل أن نتصالح وأغني من لحنه العديد من الأغاني، كلها أغان وطنية ماعدا واحدة دينية.
تعليقات
0