-
رشيد أمديون
مقدمة
تأتي مجموعة «سيرة ذاتية» (1) للكاتب المغربي محمد البغوري، لتقدم نصوصا مفعمة بشواغل الذات الكاتبة كصوت يفرض خطابا يعطي الأولوية للبحث عن الجمال بين متاهات الحياة، والتقاط المنفلت من اللحظات البهيجة والاحتفاء بها عبر نسق سردي وكتابة تختلف عن الكتابة القصصية. كما تطرح ما يستحوذ على عاطفة الكاتب من شجون الثقافة والأدب، وسحر الأمكنة والعوالم ومتعة الاكتشاف.
تقترب هذه القراءة من هذا النوع من النصوص التي تشبه سيرة ذاتية متشذرة، مركزة على صورة الفضاء والمكان وما يشكلها من تفاصيل هامشية لها إيحاءات ذات دلالات اجتماعية وثقافية وتاريخية. كما ستكشف القراءةُ عن صور العلاقات الإنسانية المتصلة بروابط صداقات قائمة على المثاقفة وتبادل المعارف وما يخص تجربة الكاتب في مجال اشتغاله بالكتابة والأدب.
1 صور الأمكنة وعوالمها
يتوسل الكاتب باللغة كأداة تعبيرية ليصور للقارئ فضاءاته المتخيلة وما تستحضره ذاكرته، مؤثثا صورا سردية قريبة من ذهن المتلقي، يمتحها من محيطه الاجتماعي والثقافي وما تجود به حميمية الأمكنة والأشخاص من تفاصيل ذات أبعاد دلالية ومرجعيات تتعلق بمخزون الذاكرة، تترجم مستوى اهتمام الكاتب بالأمكنة والفضاءات واعيا بما تضمره من معارف استحوذت على كيانه، فعبّر من خلالها عن الذات وشواغلها، واهتماماته ورؤيته الخاصة للأشياء، إضافة إلى رصد بعض المفارقات التي تطفو على سطح المجتمع. كل هذا فيما يشبه كتابة سير ذاتية توثق تفاصيل الحياة الفردية المنصهرة في الحياة الجماعية.
-
التفاصيل/ الأمكنة
لا يمكن أن يتصور الإنسان وجوده بلا مكان، لهذا فهو من الأبعاد المحيطة والمحددة لوجوده. وللمكان وظيفة دلالية جمالية حيث يضفي فضاؤه أبعادا على الحقائق المجردة بفعل الإيحاء الذي يُمَكِّن من تجاوز الصورة المرئية، إلى أبعاد مضمرة تقوي فاعلية الإيهام. لهذا تأتي نصوص مجموعة “سيرة ذاتية” مركزة على عنصر المكان الذي يشغل مساحة النصوص كفضاء حافل بتفاصيل تساهم في تشكيل فسيفساء الصورة السردية عن طريق تقنية الوصف الدقيق، قصد إدماج القارئ في عملية التخييل وتصور العوالم الموصوفة والفضاءات المتعددة التي تتمظهر فيها دلالات الأشياء والرموز بحمولات مرجعية: تاريخية، ثقافية، اجتماعية..، حافظ عليها الإنسان كنوع من الهوية الذاتية والجماعية وسط اختراقات ثقافية كثيرة عرفتها صيرورة المجتمع الحاضر.
نقرأ مثلا في نص “فرجة الموسم”: «تبتسم حاسة شمك بفعل مواد متنوعة من الروائح التي تباغت شمك، وتعانق أنفك بألف ذكرى ومتمنيات.. من رائحة الشواء التي تستفز خواء بطنك (…) ولا تنسى أن تطيل النظر في رؤوس المعز والخرفان المبخرة.. يعلو منها دخان يودعك بوداعة، فهو مشغول بالصعود للسماء، حريص على موعد ضربه مع فساحة الكون، فساحة تشعرك بضعفك وتشتت أفكارك، وضياع أحاسيسك في قعر لا أول له ولا آخر من المتاهة والتيه.. » (ص 27) فنرى أن السارد يؤثث صورة المشهد بهذه التفاصيل، مبرزا مظاهر احتفال شعبي، يمثل عرفا تقليديا يسمى الموسم.
وتزود هذه الصورة القارئ بمعلومات تقرب إليه طبيعة المكان بتفاصيل لها أثر على وجدان السارد جعلت خياله يسافر إلى أمكنة أخرى تحتفظ بها ذاكرته كصور لفضاءات سبق أن رصد تفاصيلها، يقول: «وأنت تصارع قواك الخفية والظاهرة، تهجم عليك فوائح العشابين والعطارين، تجتهد وتصمد محاولا تذكر أصل كل رائحة، وتسمية عشبتها، تطير عبر خيالك إلى مدينة فاس أو مدينة مراكش طمعا في العثور على وصفة سبق أن حصلت عليها من عطار خبير بعالم العطارة والعشابة» (ص 28).
وهذه الأجواء والفضاءات المتعددة والمتنوعة تشكل ملامح الثقافة الشعبية ذات امتداد تاريخي، لم تعبأ برياح التحديث، لكونها حافظت على مظاهرها الخاصة. نرى أن السارد يرتبط بها وجدانيا ومعرفيا، حيث يقول: «أنا دائم الحضور للمواسم والمناسبات التي يرتبط اسمها بولي من الأولياء، يعود تعلقي بذلك إلى أستاذي الجامعي بشعبة التاريخ بإحدى كليات الآداب الذي كان يلقننا محاضرات في الولاية والصلاح والتاريخ المنقبي» (ص 30)، وهكذا يظهر أن رصد تفاصيل المكان، مرتبط بالذاكرة الشخصية للسارد، باعتبارها عنصرا فعالا في تشكيل بنيته الذاتية وهويته ومستوى اهتماماته وانشغالاته الثقافية والمعرفية.
ويقول السارد عن الحمام: «كلما دخلت هذا المكان، حملت معي حميميتي واختياراتي.. أنا الذي أغدقت على الحمام بهاء وحسنا من التحف والمقتنيات البهية والجميلة.. (..) في الحمام يلذ لي البقاء طويلا، أناجي النفس بأمتع المشاعر، وأطمئن العقل بأعمق الأفكار والتمثلات..» (ص 52)، إن الحمام يعد مكانا هامشيا، قليل هم من اعتنوا بالكتابة عنه، رغم ما يمثله من ضرورة أساسية في حياة الإنسان. لهذا خصص الكاتب النص لهذا الفضاء، معتبرا اهتمامه وعنايته بتأثيثه وتزيينه، هو من باب الثقافة الحضارية التي ترقى بمستوى الأذواق: «إن دولة كالنرويج قطعت أشواطا في الاهتمام بثقافة الحمامات المنزلية، وجعلت مساحاتها تحفا أخاذة فاتنة» (ص 53).
ومن بين الأمكنة التي أخذنا إليها الكاتب كذلك، وقرب إلينا تفاصيلها: الغرفة /المسجد /المقهى /القرية أو المدشر /المكتبة… وهي فضاءات ذات طبيعة معينة، وذات خصوصيات مستقلة، اعتنى الكاتب بها لتقريب الصورة إلى قارئه دون الوقوع في إطار الصورة النمطية العادية. إذ يحاول الكاتب أن يجعل للمكان هوية اجتماعية يتكون فيه الإنسان وينطلق منه ويعود إليه سواء أكانت هذه الأمكنة مادية مغلقة أم مفتوحة (2)، مما يماثل شكلا من أشكال استحواذ الخارج على وجدان المرء. حيث أن المقصد، هو ولوج عوالم ملأى بعناصر تدعو إلى التأمل وطرح التساؤل.
وبالتالي هو نوع من الانشغال بالبحث، الذي يمثل بالنسبة للكاتب مسلكا للاكتشاف والتعرف على عوالم لها أسرارها، والانفتاح عليها وتصويرها كتابة عن طريق الوصف لتجسيد صورة فنية. «والصورة الفنية تتشكل من الأشياء الموجودة في المكان، وتهيئ للمتلقي حالة من المعرفة، تتعلق بمظاهر العالم الخارجي المنطبعة في ذاكرته، وخبرته، وتمكنه من ربط معارفه بالوجود الخارجي (المكان)» (3)، مثل ما جاء في قصة “فرجة الموسم”، حيث يقف السارد أمام خيمة عرافة أو بائعة أعشاب تقليدية، وبعد تأمل فيما يحيط بالمكان من أبخرة وأحجار وشظايا ريش وعظام هياكل طيور وزواحف… يتساءل: «من أين يا ترى لهذه المرأة بمعرفة كل هذه البضاعة؟ – وما الأوقات التي استغرقتها حتى عثرت عليها…» (ص 28).
وتفاصيل الأمكنة هي أثر من التلاقح الثقافي الذي ساهم في تكوين البنية السوسيولوجية لمجتمع فسيفسائي متعدد المكونات راكم حقبا زمنية، تشكلت عبره تقاليد وأعراف خاصة، تفرض وجودها في الواقع على شكل صراع بين الحديث والقديم، يقول: «إنك بحجك لهذا الموسم (العمارة) تكشف الكثير والكثير من القيم والعادات، وتشهد الميلاد المباشر لصراع الأجيال، وزواج العتاقة والحداثة ولغة العصر الجديد» (ص 31)، بما يعني أن الأمكنة بتفاصيلها تعبر عن مسيرة الزمن عبر ما يَسم مظاهرها من العتاقة، كما تعبر عن ثقافة شعب وهوية تمثل ملامح وصورة المجتمع المغربي قديمه وحديثه، لهذا قال: «إن المدن بقايا التاريخ والذاكرة تشهد إسهام وبصمات أناس عاشوا حيواتهم، وقالوا كلمتهم، وفرحوا لاحتفالاتهم، وقرحوا لأحزانهم، وجالسوا موائدهم يأكلون ويشربون (…) من هذه المدن مروا خلسة أو بضجيجهم؟! لكنهم سلموا مفاتيح منازلهم وأسرارهم لأناس آخرين قد لا يفقهون حروف الزمن الغابر، كل همهم توجه نحو المستقبل» (ص 44).
فالكاتب ينظر إلى الأماكن نظرة باحث يقارب الواقع والتاريخ من خلال تفاصيل أمكنة تعبر عن الحاضر كما تعبر عن الماضي وعن أشخاص مروا بها وأثروا فيها كما أثرت فيهم، لهذا نقرأ أن السارد يبحث عن سيرة ذاتية لفيلسوف وشاعر في مدينة قصدها كي تمنحه مطلبه، قال: «أنا قصدت مدينتك التي تنام باكرا للبحث عن سيرة ذاتية للفيلسوف والشاعر الذي فضل أن لا يضع عنوانا لسيرته..» (ص 46)، بما يعني أن الكاتب مسكون بهاجس البحث عن المنفلت من قبضة الوقت. كاشفا عمَّا يحدد عناية بالغة بالأمكنة كفضاءات اعتيادية، تتجلى فيها مظاهر جمالية يصفها الكاتب للقارئ بلغة تصويرية تقصد افتعال الإشارة إلى إعادة النظر في علاقة الإنسان بالتفاصيل التي يحتك بها يوميا.
-
الأمكنة وإبراز المفارقات
ويتجلى الغرض من رصد تفاصيل الأمكنة، إبراز المفارقات التي ينتجها سلوك الإنسان في كل مكان. مفارقات تأتي مُضمِرَة نقدا اجتماعيا وأخلاقيا. وإنْ كانت المجموعة لا تركز عليه كعنصر أساسي، إلا أن ذلك يبرز بين فترة وأخرى عبر مقاطع سردية. حيث نجد فيما انتهت إليه قصة “فرجة الموسم” ما يشير إلى ذلك: «عصر تحرص أجياله على أن تعيش معك، وفي أن تنتقل بعقلها وأحاسيسها واهتماماتهما لعالم آخر متحقق الإمكان، جيل ضائع بين زمنين: زمان أسطورة الماضي البائد، وزمن حداثة الأسطورة التي لا تلوي على شيء..» (ص 31). وهذا في حد ذاته تشريح لموطن الخلل في المجتمع الحاضر، هو بمقام تكريس الوعي بالأعطاب التي يعاني منها الواقع وهذه الحقبة من الحاضر، الذي هو نتاج تراكمات ساهمت فيها سياقات كثيرة.
وفي قصة “المسجد” نجد اعتناء الكاتب بذكر مباهج هذا المكان، الذي يُكسب داخله شعورا خاصا، بما يمثله من فضاء للعبادة والاتصال الروحي، لا يصلح أن يلوثه سلوك الإنسان المشين. فنقرأ: «إن المسجد عبارة عن مرآة تنعكس فيها سلوكات الإنسان (…) صورة حقيقية. وكثير من الصور مزيفة ومضببة… صراع على أشده بين الفهم الصحيح، والفهم المتخشب والمعوج صراع بين المروءة وضدها… ساحات للعروض والمناوشات» (ص 63). وبهذا نلاحظ أن الكاتب ينتقد السلوك المنحرف والمتناقض، الذي يترجم مستوى تفكير بعض الأشخاص ممن لا تؤثر في سلوكهم روحانية المكان.
والذي ساهم على تمظهر هذا النقد هو رصد تفاصيل الأمكنة رغبة في إبراز مباهجها وإبعاد ما من شأنه أن يشوش على صورتها الجمالية، لهذا فقد قال: «ففي المسجد يحلو الجلوس، وتشعر بالراحة والسكينة، وتجد الفرصة للمناجاة والتفكير والذكر ومحاسبة النفس، به كذلك تشعر بعظمة الخالق وجلاله.. كبير إحساسي بالجمال وأنا ألج المسجد» (ص 62). فالكاتب حريص على إبعاد ما يغير جمالية الأمكنة، أو يخربها، أو ما يضع الإنسان داخل قوقعة تعمي بصره وبصيرته عن رؤية الجمال من حوله، فيقول: «أحملق في المارة، أجسام تهرول إلى محلات عملها ووظيفتها، حيث يفني فيها الشخص زهرة عمره بدون أن يحقق ولو جزءا صغيرا من أحلامه وتطلعاته. أحلام الناس في مدننا وقرانا تحولت إلى كوابيس مرعبة» (ص 45).
إن رتابة الحياة وضغوطها وإخفاقات سير الإنسان المعاصر وهو يهرول إلى الإمساك بتلابيب الحياة، ساهم في تشكيل غِلالة على عينه، منعته من الاستمتاع بجمال الأمكنة وتفاصيل الفضاءات، فضاعت قيمة الأمكنة بضياع الشعور والإحساس بتفاصيلها الملهمة.
-
صورة العلاقات الإنسانية
يركز الكاتب على العلاقات الإنسانية – في جانبها الإيجابي- وما ينتج عنها من صداقات دافئة وعميقة ذات قيمة مضافة تستحوذ على كيان كاتب شغوف برصد التفاصيل. وهذا يتضح في نص ” صديق ليس عابرا”. فيقول عن صديقه: «تعرفت على اسمه رشيدا ناضجا استوى على جسور الحياة (…) سحنته مائلة لقليل من الاسوداد، شعر يمتنع على النعومة والانسراح، شعر يستهويه العنت وتسلق الوعورة، مثل طبيعة صاحبه، وشخصه المتعنت كذلك» (ص 36).
ثم يتحدث عنه فيما يشبه تشكيل صورة له وصورة للحظات زمن جمعه به: «شهية الأيام، عطرة الأعوام، التي اجتمعنا-أنا وصديقي- على مشاهدتها، وتقلباتها، تسكعاتنا الفكهة، سباقاتنا على دروب مسافات طويلة، درت علينا أمتع الأحاسيس وأعز العطايا» (ص 37)، مسترجعا ملامح الماضي وذكريات الطفولة والشباب، وكل ما يعبر عن مدى ارتباطه بصداقته المفعمة بألوان شتى من التفاصيل والأمكنة التي شهدت لقاءاتهما ومناوشاتهما، فسافر بنا عبر ذاكرته وما تبثه مخيلته من صور متشذرة للحظات شتى من العمر.
أما في نص أديب في بيتنا فيتحدث عن شعوره اتجاه أديب قرأ له فتعلق بإبداعه، يقول: «كلما دلفت لمكتبتي، طرق أبوابي نسيم العشق والقرب، وطار بي الخيال لعوالم أديب جمعت بيني وبينه علاقة فريدة، ولذة لمحبي القراءة بجلالها.. ودهشتها، وإحراجاتها» ( ص48)، ويوضح أنه لم يلتق بالأديب وجها لوجه ولكنه تعرف عليه من خلال مجموعة قصصية له، ثم توالت القراءات والبحث عن كل إنتاجاته الأدبية، رغبة في نسج علاقة صداقة رمزية وروحية، إلى أن قال: «هكذا أحببت اسم محمود الريماوي، وأدرجته اسما لامعا وعلى عجل ضمن جريدة مباحثي..» (ص 50).
مما يعني أن السارد وهو ينسج نصوص سيرته الذاتية، حريص على تصوير شكل العلاقات التي تربطه بالأشخاص، منفتحا على ما عندهم من ثقافة أو معرفة أو صدق في التعامل والمعاملة، معتبرا أن «الحياة المعاصرة حبلى بالبرودة والنكد، وباقي أطياف كتاب عرته التضاريس، ونخرته العزلة.. العزلة التي نقاومها بشتى الوسائل وحتى الحيل والدسائس..» (ص 19). لأن هذه العلاقات تسعى إلى فك العزلة الثقافية والأدبية والاجتماعية، كما تروم نسج لحظات تتحول إلى عالم بهيج، «ولوحات تعطرها المستجدات» (ص 19)، وترقى بمستوى الاختيارات والعناية بكل جزئية في الحياة الشاسعة، التي يراها الكاتب بعين حريصة على التقاطها وتوصيفها داخل صور سردية نسجت بلغة رشيقة.
-
صورة علاقة الكاتب بالكتب
في بحث الكاتب عن عوالم ثقافية وفكرية، نجده يركز على الكتب مبرزا مباهجها، ومهتما بالقراءة كفعل يدير رحى إنتاج المعرفة واستثمارها في صوغ بنية كتابية تتقاطع فيها السيرة الذاتية مع السيرة الغيرية.
لهذا جاءت أغلب النصوص تحتفي بعلاقة الكاتب بالكتاب، علاقة يحفها الكثير من التأثر، يقول في نص “المقهى والكتاب”: «..إنه كتاب ممتع أخذ بلب عقلي منذ أن لمسته يدي البارحة، وأنا أركز عيني في مقدمته التي فتحت شهية مواصلة اختراقه وفض ما بين حروفه من بذور الإمتاع والمؤانسة…» (ص 21)، فالسارد يحاول أن يبلِّغ إلينا إحساسه الدافئ وولهه بالكتاب ككيان له عوالم الإمتاع والفائدة، ويصف شعوره الحسي والروحي أمام الكتاب كعالم معرفي يعرف تحديات عديدة بفعل قلة القراءة والاهتمام. فيقول في نص “فتوى الكتاب”: «شعور أهداني إياه هذا الكائن الأسطوري العجيب الذي تسميه الحضارات والشعوب بـ«الكتاب». وهذا يدل على أنه يشير إلى أن الكتاب من مظاهر الحضارة الإنسانية التي تنشد الأصلح.
كما يتخيل الكاتب كل الأسفار التي قطعها الكتاب منذ أن كان مخطوطا، فيقول: «تصور وتخيل إذا ما نطق الكتاب ليحكي عن عجائب أسفار وبهجة التجارب التي عرضت له، فما عساه أن يقول، وأية فتوى يصدرها؟”(ص 24. هذا الارتباط المتين وهذا الشغف، جعل خيال الكاتب يسافر عبر الأزمنة والأمكنة كأنه يؤرخ لكتب تعتبر من أثر الماضي، حَملت إلى الحاضر ثقافة وعلوما ومعارفا، بما شهدته من محطات زمنية، وما عاصرته من أسماء تاريخية. ثم يعود انتباهه إلى هذا العصر الملوث بلعنة التقنية الحديثة التي شنَّت هجومها الكاسح على الثقافة الإنسانية عموما. مما يجعلنا نفهم أن علاقة الكاتب بالكتاب تتجاوز حدود القراءة إلى الانشغال برهانات القراءة وحاضر الكتاب ومستقبله وأهميته المعرفية، ومقارنته بما استحدث من أليات أخرى توفر سبل القراءة أيضا، لكنها لا توفر نفس المتعة العميقة، وتلك العلاقة الوجدانية الساحرة التي يخبر عنها الكاتب.
وفي نص “لذة الصداقة” نجد السارد وهو يصف اهتمامات صديقه، فيما يشبه البورتريه، يركز بالأساس على شغفه بالكتب والقراءة، على اعتبار أن ذلك هو المحور الرئيس، يقول عنه: «مجنون الرواية والقراءة، إلى أن أضحى يافعا عارفا بأسرارها..» (ص 42). ونفس الشيء نلاحظه في نص “المقهى والكتاب” إذ أشار السارد إلى القراءة كمعيار أساسي لتشكيل صورة إيجابية عن الأشخاص، قال: «لحظتها أبهرني عبد الله العاشق للقراءة والكتب، وطابت الجلسة التي فرضت علينا نحن الثلاثة أن نرتع في بساتين المعرفة، ونتبادل تجارب القراءات وأخبار الكتب..» (ص 21).
بهذا الشكل يكون محمد البغوري قد وضع القارئ أمام صور وأحداث واقعية نقلها إلى صور لغوية (4)، يسرد عبرها تفاصيل وصفات العلاقات الإنسانية والعلاقات القائمة على التبادل الأدبي والثقافي، وكذا ما يميز ارتباطه العاطفي والمعرفي بالكتب وفعل القراءة وما يؤجج عطشه إلى المزيد من البحث والنبش عن نفائس الكتب وما يحوطها ويرتبط بها من تفاصيل سواء تعلقت بتاريخها أو بأصحابها أو بالمجالات والفضاءات التي حوتها أو ضمتها، أو الأشخاص الذين كانوا سببا في وصولها إلى الكاتب.
وعليه يتضح أن الكاتب محمد البغوري في مجموعة “سيرة ذاتية” لا ينتصر فحسب للتفاصيل والمهمش من الأشياء والعوالم ضمن أمكنة وفضاءات معينة، بل إنه ينتصر للكتاب ولفعل القراءة، ويجعل هذا وذاك من بين أساسيات الاهتمام، معتبرا أن فتنة الكتاب هي الفتنة الكبرى لكنها فتنة ممتعة وهوس بديع يرضى المصابُ به، ولا يشتكي منه أبدا.
خاتمة
إن ما احتوته نصوص المجموعة من انشغالات واهتمامات تدخل في صلب شواغل الكاتب محمد البغوري الذاتية وضمن شواغله الثقافية والمعرفية. والنصوص تعكس جانبا من سيرته الذاتية ككاتب مهتم بـ:
-
الأماكن بتفاصيلها المثيرة والمستفزة لإنتاج السؤال والتقاط المشاهد وانتقاد السلوكيات السلبية…
-
بالصداقات الدافئة وتفاصيلها والعلاقات الإنسانية المنفتحة على تبادل المعارف والأفكار والتجارب..
-
بالكتاب وعوالمه غير المتناهية.. وبالقراءة المفعمة بالإحساس العاطفي وشغف الارتواء فكريا ووجدانيا.
-
برحلة البحث عن المثير والفاتن، وذلك بالغوص في عوالم شخصيات أدبية وفلسفية وصوفية..
بهذا تكون مجموعة نصوص سيرة ذاتية نتاج تجربة الكاتب الشخصية، عبر عنها بلغة أدبية تعتمد على التصوير والوصف، لإبراز جماليات الأمكنة والفضاءات، وجماليات العلاقات الإنسانية القائمة على صداقات تساعد على الانفتاح والمثاقفة ومد جسور التواصل عبر كتابة “سير ذاتية“.
الفقيد محمد البغوري، من مواليد 1974 بنواحي العرائش، حاصل على الإجازة في الفلسفة، ودبلوم الدراسات العليا المعمقة من جامعة محمد الخامس بالرباط، أستاذ لمادة الفلسفة، قاص وناقد، تتوزع كتاباته بين الفلسفة والتاريخ والتصوف والأدب، مولع بالأسفار وحضور الملتقيات الثقافية والتظاهرات النقدية والقصصية، من أعماله المطبوعة: “سيرة ذاتية” (مجموعة قصصية)، “عطر القراءة وإكسير الكتابة” (حوارات)، توفي، رحمه الله، في الفاتح من أكتوبر 2021 إثر مرض مفاجئ لم يمهله طويلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
-
(1) محمد البغوري: سيرة ذاتية، م. قصصية، منشورات سليكي أخوين، طنجة، 2013.
-
(2) محبوبة محمدي محمد آبادي: جمالية المكان في قصص سعيد حورانية، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق 2011، ص: 15.
-
(3) محبوبة محمدي محمد آبادي، جمالية المكان في قصص سعيد حورانية، ص: 16.
-
(4) عز الدين إسماعيل: الأدب وفنونه: دراسة نقدية، دار الفكر العربي، مصر، ط.9، 2013م، ص: 104.
تعليقات
0