تساؤلات حول المؤلف الجديد “والله إن هذه الحكاية لحكايتي” للكاتب عبد الفتاح كيليطو

عبد الرحيم الراوي الأحد 10 أكتوبر 2021 - 13:15 l عدد الزيارات : 18351

الباحث: فيصل بوعصى

لا يستطيع قارئ لعبد الفتاح كيليطو أن يُخفي متعة القراءة وصعوبتها في الآن ذاته وهو يقرأ كتابا من كتبه، خاصة أن كيليطو كما وصفه الأجنبي المحترف عبد الكبير الخطيبي “يكتب بانتباه متحرر، وبطريقة تدريجية. إلا أنه انتباهٌ مصحوب بنوع من المكر النادر في مجال النقد الأدبي”.ثم إن الناقد يكتب باللغتين العربية والفرنسية، ولد سنة 1945 في مدينة الرباط، اشتغل على التجديد في الدراسات الأدبية العربية، صدر له خمسة أجزاء كأعمال كاملة 2015 وهي: “جدل اللغات” الماضي حاضرا”  “جذور السرد” ” حمالو الحكاية” “ومرايا ” عن دار توبقال إضافة إلى أعمال أخرى بالعربية والفرنسية.

   وقد اعتبره الباحث جان بيير كوفلjean-pierre-koffel، رجل رقيق مميز، مقتصد في الحركة والكلمة، شديد التركيز ، يُنصِت كما لو أنه لم يسمع، يفكر قبل أن يجيب، كل شيء يتم من الداخل حيث تكمن طبقات معرفة متعددة دون انقطاع ولا تمزق. ويضيف جان بيير، إنه الدفء المكتوم للتواصل والفضول الدائم والحركية، وجمالية هادئة ذات جذور عميقة، وذكاء القلب وسلاح الروح.

أما من الناحية العلمية، فعبد الفتاح كيليطو ذو تكوين كلاسيكي إلا أن بداياته في عالم الكتابة كانت مع الفرنسية، أما العربية فظلت قصة عشق لا تنتهي ابتداءً من الكتب المصورة التي تعلم منها مبادئ التخييل و التحليل، ثم التعبير الإنشائي الذي تفوق فيه كثيرا، وصولا إلى مرحلة تفكيك النصوص التراثية الكلاسيكية، كألف ليلة وليلة، والسير الشعبية، وكتب الجاحظ والمعري وغيرهم كثير.

  إلى حدود الآن، لا يختلف اثنان في كون عبد الفتاح كيليطو من النقاد القلائل الذين يمتازون بأسلوب قلَّ نظيره في الكتابة النقدية، والقراءة الدقيقة للنصوص القديمة سواء الفرنسية منها أو العربية، وكذا، في الكشف عن مظاهر الثقافة والحكاية والكتابةعلى مستوى النصوص العربية والغربية، وذلك من خلال استنطاق النصوص التي هُمشت تاريخيا، استنطاقا يجبرك على خوض مغامرة القراءة بحـــــــــذر وتركـــــــيز كبيــــــــــــرين.

   ليس هذا فحسب، فكثير من الباحثين يتفقون على صعوبة تأطير كيليطو، حيث يتعذر وضعه في خانة نقدية بعينها، أو حصره ضمن منهج من المناهج المعروفة، أو اتباعه لمنهجية مهيأة مسبقا، فهو فبقدر عنايته الكبيرة والفائقة بالأدب العربي الكلاسيكي نراه في الوقت ذاته مجددا ومنفتحا على ثقافات أخرى.كيف لا ،وهو ذلك السهل الممتنع ، وذلك الكرسي الشاغر الذي تخشى  الجلوس عليه. بل هو، كالقابض على الماء تخونه فروج الأصابيع.

  ” والله إن هذه الحكاية لحكايتي ” مؤلف جديد للناقد الكبير عبد الفتاح كيليطو، صدر عن منشورات المتوسط- إيطاليا، سنة 2021، يضم 144 صفحة جاءت عناوين فصوله الخمسة على الشكل الآتي:” نورا على السطح” أبو حيان التوحيدي ” قدر المفاتيح” ” هي أنت وليست أنت ” وخطأ القاضي ابن خِلِّكان”

 والمُؤلَف عبارة عن جولة عميقة عبر أزمنة وأمكنة متعددة، حيث يمتزج فيها البعد الخيالي بالواقعي، ويتماهى القديم في الحديث،وهي في الحقيقة،جولة شاقة خاضها عبد الفتاح كيليطو ليصور لنا عالمه المتعلق بالكتابوالكتابة  وفتنة الحكي، وسلطة التمرد.

   كيف أضع قصتي ضمن القصتين المذكورة في الرواية؟، سؤال لربما طرحه كيليطو مع نفسه، وهو يؤلف روايته- كما سميت-  وقد شعرنا ونحن نقرأ الكتاب، معاناتهوهو يحاول إخفاء صورته ضمن الرواية، هذا ما نستشفه من خلال قوله: أرى أنني أخلْط بين قصتين، يجب عليَّ أن أنتبه، وأن أعيد ترتيب الأمور، إنني، بالإشارة إلى حكاية حسن ميرو، تحت تأثير حكاية قديمة، حكاية حسن البصري. هذا دون ذكر حكايتي الخاصة التي يجب أن أبقيها بعيدا، فلا رغبة لي، على الإطلاق، في روايتها” فمن بداية الكتاب إلى نهايته تتضح نبرة عبد  الفتاحكليطو،لكنها  نبرة تَرِدُ ضمنيا وبحياء كبير في كتابه هذا !! ثم، هل فعلا،استطاع الكاتب  أن يبقي قصته بعيدا؟!! ألم تكن قد تسللت قصته ضمن خيوط قصتي حسن ميرو وحسن البصري دون أن يشعر ؟

إن الكتاب بهذا المعنى شديد التعقيد والغموض . ولأدل على ذلك عنوانه، فهو نص فيه لذة ومتعة، وقراءتهتنم عن الجمالية والغرابة والغموض في الوقت نفسه. وما يميزه أسلوب القسم الذي بدأ به الكاتب، فجعله مفتاحالكل قارئ، ومدخلارئيسا يفتح شهية القراءة.

وهنا، يمكن أن نستوقف كيليطو أو نتوقفقليلا عند عتبة العنوان الموسوم بـ”والله، إن هذه الحكاية لحكايتي” لنحددطبيعة العنوان وعلاقته بالمؤلِف. فهذا العنوان يدفعنا إلى طرح أسئلة مشروعة من قبيل: ألا يبدو العنوان غامضا  غريبابعض الشيء؟ ألاَ يخفي غرابة مثيرة خاصة أنه يبتدئ بأسلوب القسم؟ وألا يعكس العنوان المستوى النقدي المتفرد الذي وصل إليه الكاتب ؟ثم،هل  يحتاج كيليطوإلى استعمال ثلاث تأكيدات كي  يقنع المتلقي بما يقول؟ ثم أية حكاية كان يقصدها الكاتب عندما قال “…..هذه الحكاية….” ؟ إنها أسئلة منهجية ستكشف عما سعى كيليطو إلى تضمينه في هذا المؤلف.

بحسب تقديرنا، فإن هذا المزج بين الحكاية الموظَفة في الكتاب، وحكاية كيليطو ، هو الذي يجعل من المؤَلَف بؤرة لتأويلات متعددة -ابتداء من عنوان الكتاب وغلافه إلى الفقرة الأخير ةمنه-، قد يتيه القارئ في دهاليزها، خاصة إن كان القارئ متبدئ في قراءة  المورث القديم. وهو نفسه يقول في كتابه المسار ” اهتمامي بالحكاية هامشي لا يتعدى مستوى الهواية ، عندما أحكي حكاية، فإني انطلق بالضرورة من قراءتي ،أفتح حوارا مع النص، أسعى جاهدا إلى أن أجعل من يقرأني ينتبه إلى صوتين يشتركان في صياغة الحوار ” .

بل إن الامر يزداد تعقيدا، -ارتباطابمسألتي الخفاء والتجلي في هذا الكتاب-‘ بحيث نجد أن خطاب كيليطو يشبه إلى حد كبير أسلوب الحكاية، أي حكايات تنشأ حول الخطاب. ويسميها كاظم جهاد  حكاية تنضاف إلى الحكاية، وقد عبر الباحث جاك حسون عن هذه المسألة بقوله “فأنت تبقى في حدود خطاب الحقيقة، ولا تريد إنشاء خطاب حول الحقيقة انت عازف للمعنى، بالمعنى الموسيقي للكلمة.

 لذلك نجد أن استراتيجية كيليطو تنضوي على مزج  الخيالي بالواقعي، إذ تتداخل شخصية الكاتب بشخصيات أخرى مثل حسن ميرو وحسن البصري. وهما شخصيتان وظفهما منذ بداية الكتاب إلى نهايته.فالكتاب كرنفال شعبي على حد تعبير ميخائيل باختين يقوم على تعدد الأصوات والملفوظات فيتيه القارئ في هذه المحكيات التييصوغهاكيليطو باحترافية الراوي المضطلع على كل شيء.

والعنوانورد تحديدا في سياق حكاية شهريار وشهرزاد، وهذا ما يتبين من خلال هذا المقطع، يقول كيليطو:”في الليلة الواحدة بعد الألف قررت شهرزاد، وبدافع لم يدْرَك كُنْهه، أن تحكي قصة شهريار تماما كما وردت في بداية الكتاب. إن هذا المقطع يثير الاستغراب ونستشف منه أن شهريار أصغى إلى الحكاية، وكأنها تتعلق بشخص آخر، إلى أن أشرفت شهرزاد على النهاية. إذا به ينتبه فجأة الى أنها قصته بالذات، فصرخ” والله، هذه الحكاية حكايتي، وهذه القصة قصتي” قد يبدو إذا من خلال هذا المقطع أن كيليطو يريد أن يربط العنوان بسياق قصة شهرزاد وشهريار.كما يمكننا أن نعتبر هذا الربط صحيحا، (ولو جدلا)  نظرا لعلاقة عبد  الفتاح كيليطوالقوية بكتاب ألف ليلة وليلة.

إن هذا الخفاء والتجلي الذي يحوم حول هذا الكتاب له فرضيات عدة تحبل بالغموض والإثارة والتأويلات المتعددة .إنها أجواء ألف ليلة وليلة وسلطة الحكي التي تتسرب من مخيال التراث الشعبي الغربي والعربي إلى ذهنية كيليطو الباحث الحداثي بإجراءات معاصرة.  ولربما يمكن تفسير هذا الغموض في العنوان إلى طبيعة كيليطو الذي يعد من الكتاب الحذرين جدا في  فعل الكتابة، اذ يصيبهم هوس ما بعد  الكتابة .

نتبن من خلال ما سبق،أن الكتاب منفتح على تأويلات كثيرة، تَتَحدد درجتها حسبمستوى  القارئ، إلا أن المٌلاَحَظ بشكل جلي، هو ذلك التمازج الكبير بين الحكايات، بين حكاية حسن البصري الذي اهتدى بكتاب المجوسي للوصول إلى بلاد الجن، وبين حسن ميرو الذي حل ضيفا بباريس بفضل رواية توفيق الحكيم ، وبين أبي حيان التوحدي الذي أحرق كتبه ،ليستعطف الأخرين ويصرف اهتمامهم إليه ، وبين عبد الفتاح كيليطو الذي تمازجت قصته مع كل هذه القصص  إلا أنه مصر على إخفاء ذاتيته في الرواية . وفي هذا السياق يمكننا طرح الأسئلة الآتية: ما الذي يمنع الكاتب من الظهور كشخصية حقيقة ضمن حكايات المؤلَّف؟ ألم تكن حكاية حسن ميرو هي حكاية عبد الفتاح كيليطو، التي من خلالها عرّفنا ببعض شخصيات التراث العربي الكلاسيكي.؟ أم هي  حكاية أبي حيان التوحيدي ؟ أم أن كيليطو سيتحفنا قريبا بمنجز يوضح لنا فيه طبيعة علاقته بالشخوص والأحداث التي تم توظيفها في هذه الرواية؟!

تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الإثنين 7 يوليو 2025 - 22:14

العنصرة.. موسم الفرح وذاكرة الأندلس بشمال المغرب

الإثنين 7 يوليو 2025 - 21:50

وكالة بيت مال القدس الشريف تنفذ المرحلة الثانية من حملة الإغاثة الإنسانية للنازحين في مدينة غزة

الإثنين 7 يوليو 2025 - 19:30

مجلس حقوق الإنسان يعتمد قرارا قدمه المغرب…

الإثنين 7 يوليو 2025 - 18:12

شهيد لرئيس الحكومة.. أين وعودكم الانتخابية؟ وأين الكرامة الصحية للمغاربة؟ وهذه مداخل تطوير المنظومة الصحية…

error: