مأساة القيم: ظاهرة الغش في امتحانات البكالوريا، من يتحمل المسؤولية؟؟

أحمد بيضي الإثنين 29 مايو 2023 - 19:42 l عدد الزيارات : 44742

 + عبدالرحمان الكرومي (°)

عندما نلمح تلميذة أو تلميذ يغش في الامتحان، نتأمل مسيرته عبر الزمن، فتتجلى أمامنا صورة مسؤول تافه أو سياسي كاذب أو زوج خائن أو بقال غشاش أو أب يزور أحاسيسه تجاه أبنائه، أو منافقة وزوجة سطحية خائنة وكاذبة، وعموما فإننا نلمحُ إنساناً مزوراً عبارة عن “سيمولاكر” بدون روح سيكبر وينمو في أحشاء المجتمع

لذلك فإن التلميذة أو التلميذ، وهو في هذه المرحلة يجب أن يفهم بالتحسيس والنقاش المستمر (الإقناع والاقتناع) مخاطر الغش والتزوير في امتحان بسيط داخل الفصل (…)هذا قبل أن يتم اللجوء إلى إجراءات تأديبية أخرى في حالة ما إذا لم يتمكن من استيعاب الرسالة وجدانياً وفكرياً وسلوكياً… بحيث  يجب أن يتم اللجوء إلى المدخل البيداغوجي والقانوني الأكثر زجرا ضمن قالب تربوي طبعا.

من خلال تحليل خطابات التلاميذ حول هذه الظاهرة البنيوية، نجد بأن الحجة الوحيدة التي يرتكز عليها جميع التلاميذ المغاربة لتبرير الغش تبدو للوعي البسيط قوية في البداية، وكم من الأساتذة انطلت عليهم هذه الحجة عاطفيا مثلما تنطلي على عائلات التلاميذ أيضاً.

تتلخص جدلية هذه الحجة في مقولة: “إن جل السياسيين والمسؤولين المغاربة غشاشين ومنافقين”، طبعا هي حجة تافهة جداً، نظرياً وإنسانياً وأخلاقياً، لكن ولأن المرحلة العمرية التي يمر منها التلاميذ حساسة جدا، فإنها حجة (عكاز مغالطة التعميم المنطقية) تحتاج الى إجابة نفسية فكرية و منطقية، وغالبا ما تكون إجابتنا كالتالي:

أعزائي التلاميذ، نعم، نتفق معكم نسبياً (..) بالفعل هناك فساد في المجتمع لدى أغلب السياسيين والمواطنين عامة، الأغلبية تغش وتكذب وتنافق، لكننا لن نتقدم أبداً إلى الأمام، ونصنع مستقبلا للجميع، إلا إذا كنا صادقين في ما نفعل (..)”..

ونضيف “لن نكون صادقين ونحن نغش، ثم إذا كان الفساد السياسي موجودا فلا يمكن أن نحاربه بالفساد عبر الغش، فالفساد لا يحارب بالفساد، والكذب لا يحارب بالكذب، بل يحارب بالعلم وانتاج شخصيات صادقة متعلمة قوية بالمعرفة والقيم الأخلاقية الإنسانية، وقوة الحجة لا تضعف أمام الصعاب والاغراءات”، و”بهذه الطريقة سنحارب الفساد، وسننجح في بناء مستقبل مشرق للجميع على أساس المساواة والانصاف () من حيث أن الغش من الناحية السيكولوجية العلمية، عدو لشخصياتكم ونموها، فأنتم أول ضحاياه لأن من يغش يكتسب شخصية مهزوزة دائما لا تثق في قدراتها، وعدو للمجتمع ثانيا و الوطن والانسانية أخيراً”.

إن “طوماس اديسون” اخترع المصباح بالبحث الجاد والعمل الصادق وليس بالغش، وكذلك الاطباء والممرضون والعلماء الناجحون في جميع المجالات هم بناة الحضارة وليس الفاسدون (…)إن الفساد ليس نموذجا يحتدى به ويبرر به الغش والكذب والتزوير في أوراق الامتحان.”

تحليل الظاهرة

إن سيادة البراغماتية الساذجة و ثقافة الاستهلاك، وصناعة القيمة الاجتماعية بمعيار المصلحة الضيقة في السياسة والاقتصاد والإعلام تنعكس سلباً على الناشئة والأمن القومي المغربي وتهدد مستقبل الموارد البشرية والأمن الاجتماعي، الأمر الذي يكشف عن فشل السياسة العامة الممنهجة في بناء القيم النبيلة والأخلاق العقلانية القائمة على المسؤولية تجاه الذات والغير.

نتيجة انخراط المغرب طولا وعرضا في سياسات صندوق النقد الدولي وربط القيم والتعليم برغبات الرأسماليين أدى إلى تسليع التعليم و تسليع القيم والقوانين والثقافة، فصاحب الرأسمال لا يركز على القيمة الإنسانية بقدر ما يركز على المردودية والإنتاجية، فأنتج سياسيو المغرب ومنظروه شعار ربط التعليم بالمحيط الاقتصادي الذي انتج مقررات وبرامج فاشلة وكرس منظومة قيم متناقضة مع الأسئلة الحقيقية للمراهقين وتطلعات الشباب للعمل المستقر..

و بذلك تعطلت المدرسة وهيئة التدريس عن ممارسة صناعة القيم، لأن كل الفاعلين في الحياة المدرسية، من تلاميذ ومدرسين وإداريين، قزموا و قلصوا، شعوريا ولا شعوريا، قيمة التدريس والتعلم والمدرسة في البحث عن فرصة عمل مهما كانت طرق الحصول عليها.

كما لا بد أن نضيف إلى ذلك مساهمة الإعلام، الرسمي وغير الرسمي، في بناء نموذج مفلس للقيم والخبر الذي يركز على الربح المادي، ضارباً عرض الحائط بناء القيم وتربية الناشئة والإنسان المغربي على قيم العدالة والخير والحرية و المسؤولية، وكيف يقوم بها والنموذج الاقتصادي الريعي يحول دون تشكلها و بنائها؟..

إن ظاهرة الغش المتفشية اليوم في صفوف التلاميذ تنم عن كساد وإفلاس نموذج تسليع التعليم وربط المدرسة والجامعة بسوق الشغل الليبيرالي المتوحش، وإلا كيف تكون الدراسة والتحصيل و التعلم ملاذا للعاشقين والمحبين للمعرفة و تلامذتنا يعلمون مسبقا أن واقع البطالة ينتظر معظمهم بعد تحصيل البكالوريا والإجازة من الجامعة؟..

بل كيف يمكن المراهنة على نموذج تعليمي وسياسة تعليمية تركز الإصلاح داخل حجرات الدرس فقط، غافلة البعد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للعملية التعليمية التعلمية؟، ثم كيف يمكن للمدرسة أن تلعب دورها في بناء القيم الوطنية والإنسانية الكونية وترسيخها في وجدان الناشئة في ظل واقع سياسي قائم على الغش والفساد الإداري والاقتصادي والريع الإعلامي؟

إن تلاميذنا تعلموا الغش من الحملات الانتخابية التي تقودها أحزاب توزع الرشوة وتشتري الأصوات والذمم بدل إقناع الناخبين والمواطنين (..)، تعلموه من إعلام فاسد يروج للكذب والغش في الخبر ونقل حقيقة الواقع الدرامية (..)، تعلموه من تاريخ مزور بدأت الثورة التكنولوجية المعاصرة تعريه للجميع (..)، فكيف إذاً نريد من المراهقين تعلم نموذج الصدق والاستناد على رموز تمثله في المجتمع..؟؟

إن الدولة ضربت النقابات وشوهت صورة المعلم في المجتمع خشية أن يعيد عهد السبعينات والثمانينات حيث كانت الأسرة التعليمية المبادِرة إلى تعبئة المجتمع ضد الفساد السياسي والثقافي (..)، ضربت رمزية المدرس و نموذجيته، فمن أين يا ترى سيستقي المتعلم النموذج الحي للحقيقة والصدق لكي يتجنب الغش في الامتحانات؟..

لقد راهنت الدولة على الجهل وثقافة الرعي ها هو المجتمع اليوم يجني ثمار الفساد وكساد القيم واختفاء الإنسان (..) بل إن المدرس، الذي يمتلك ضميرا مهنيا وحاملا للقضية الوطنية، أصبح اليوم نشازا في التعليم، ولا يعيد غير إنتاج التجربة السيزيفية (نسبة إلى أسطورة سيزيف) بين ناشئة تحتاج إلى جرعات القيم الصادقة لبناء وطن يشمل الجميع ويحتل مواقع الريادة علمياً واقتصادياً وروحياً، وبين واقع سياسي واقتصادي وقيمي يكبح ويضعف كل هذه المساعي، إنها مأساة القيم حيث تحول الغش إلى حق طبيعي وواجب مشروع وهوية يتحصن بها المراهق للذود عن بقائه ووجوده في عالم تم تسليعه بالكامل.

الجميع يعلم أنه في السبعينيات والثمانينات كانت الحركة التلاميذية تشارك الجميع في بناء القيم وتأطير التلاميذ وتطعيم الوعي الجمعي للتلاميذ بأهمية البحث العلمي والعمل الجاد والتحصيل، وكان التلاميذ أنفسهم يشرعون عقوبات عرفية ضد الغش، بحيث أصبح الغشاش حالة شاذة داخل المجموعة، قبل ثلاثة عقود، واليوم راهنت الدولة على تفكيك وحدة التلاميذ والطلاب وضربت أسس استمرار الحركة التلاميذية، وفي فترات عديدة عبر الاعتقال والاغتيال (أحداث الدار البيضاء 1965)، لذلك نحن اليوم بكامل الوعي أن أزمة التعليم أزمة سياسية قبل أن تكون أزمة مسطرية وقانونية جافة.

إن التلاميذ ليسوا أندادا لنا على الإطلاق، لكنهم بممارساتهم الخاطئة يرسلون رسالة إلى الجميع عن موت القيم وانهيار المعاني الكبرى وفساد قاع وأعلى الهرم القيمي في المجتمع، لذلك فعموم المثقفين ورجال التعليم والنقابات والسياسيين الوطنيين مطالبون اليوم بانتزاع وفتح فسحة في الفضاء العمومي لنقاش سياسي واجتماعي حول التعليم والقيم، على أن يتفاعل فيه القومي والخصوصي من جهة، مع الكوني والعالمي من جهة ثانية.

إجرائيا، لا يجب، في هذه المرحلة، التساهل مع الغش وتبريره مهما كانت الظروف، لكن الحل طبعا ليس هو قتل البعوض بل تجفيف المستنقعات، لن يكون الحبس النافذ هو الإجراء الفعلي للحد من هذه الظاهرة، ببساطة لأن ظاهرة الغش تتجاوز القانون والمسطرة القانونية.

سيسجن الغشاشون في الامتحانات نعم، لكن ذلك لا يقنع الناشئة والمراهقين والشباب بزوال الفساد والغش الاجتماعي و السياسي، لن نطمئن وجدان الناشئة بالزجر بل بالعدالة الاجتماعية والمساواة والاهتمام الفعلي بأسرة العملية التلعيمية التعلمية من جميع الزوايا، والانطلاق من حاجياتها وقدراتها وإمكاناتها وطاقاتها السياقية المتفاعلة….

(°) فاعل تربوي وناشط مدني
تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الأحد 4 مايو 2025 - 13:06

كيف أحرقت الجزائر ثرواتها في وهم الانفصال

الأحد 4 مايو 2025 - 12:22

باحثون وأكاديميون وفاعلون مدنيون يلتئمون في ندوة وطنية بجهة بني ملال خنيفرة لتشخيص تحديات تكوين أطر التدريس

الجمعة 2 مايو 2025 - 14:39

المغرب يحتل المركز 63 عالميا في جودة النظام التعليمي

الخميس 1 مايو 2025 - 13:07

رحمة بورقية: من الضروري إدراج التربية على الحصانة الرقمية في منظومتنا التربوية

error: