-
لبنى العامري (°)
ازدادت في الآونة الأخيرة الكتب المطبوعة من قبل دور نشر مختلفة، حتى وصلنا إلى مئات الكتب تطبع سنوياً دون مراجعة حقيقية من بعض هذه الدور.
هذه الظاهرة تم انتقادها من قبل كثيرين وبالأخص في مواقع التواصل الاجتماعي، إذ يتم تداول نصوص ضعيفة وفيها أخطاء لغوية مخجلة وهذا الأمر لا يقتصر على الشعر فقط، بل هناك في القصة والرواية ولكن النشر مستمر لأن بعض دور النشر تبحث عن الكسب المالي فقط.
يتمركز الخطاب النقدي المعاصر باستخدام صيغ متشابكة مثل: غرائبية، وعجائبية، وواقعية سحرية)، وغيرها المتكئة على نسق من اللامعقول والتحليق فوق الواقع وليس الانفصال عنه – لأنه في جميع الأحوال يمثل طريقة أو آلية للتعبير وليس للتغريب، وفكرة (اللامعقول) أو (اللامنطقي) أو (اللاواقعي) هي الفكرة المركزية التي
تتشظى عنها كل أشكال التعبير (الميتاواقعي)، أي أنها تنطلق تعبيراً عن رصد الواقع من خلال النظر إليه من زاوية تغادر منطقه وثوابته لكي تستطيع تفكيكه واستبصار أعماقه، ويمثل الخطاب (الفانتازي) وتشظياته المتجاورة وسيلة من وسائل الكشف عن الواقع المأزوم الذي يتصف بالتناقض وتضخم القيم والنزوع الأنوي ووجود الاختلال لا التناغم، مما يفسح مساحة للنظر إليه بمنطق جديد ودلالات انزياحية، لا تعتمد النظر التقليدي السائد، ويصبح الخطاب اللاواقعي هو في حقيقته واقعي لتشاكله مع واقع يفتقد أساسا للمنطق والمعقولية والبنية السوية. إن التعالق الذهني بين الواقع (اللامنطقي) وبين دلالة التعبير عنه
يمثل نوعاً من التصدّي وتمثل الظاهرة وإعادة اكتشافها، وليس إعادة إنتاجها، فالاكتشاف يحتم على الرؤية أن تهدم وتنسف البديهيات لتعوم في فضاء المحتمل واللا محتمل والمطلق والنسبي، وكل أشكال النمط (الفانتازي) تشتغل على تحريك الخيال واستثمار مدياته لتشكيل الصورة التي تجمع بين واقع (الخيال) و (خيال الواقع)، وتستثمر (الفانتازيا) وأشكالها الأخرى منطق اللامعقول واللاوعي وكسر الصورة النمطية للأشكال والشخصيات والأحداث وإعادة تشكيلها بهيئة تثير الدهشة وتمثل مساحة لا معقولة لإنتاج السؤال الذهني والفانتازي
والغرائبي. وتقترب تلك الرؤية من الحلمية والكابوسية والصورة الذهنية المتطرفة التي تجسد قيم ودلالات الاختلال والتضخم وروح التناقض في لحظة ملتبسة، والمتعة الذهنية التي يثيرها هذا الاستلهام للبني اللامنطقية واللاواقعية كونها تقترب بالدهشة والسخرية وتثير شكلاً من أشكال التأمل للمنظور الذي غادر المنطق واستقر في منظور وشكل آخر مثير، وهذه الإثارة تمثل تحريضا على مستوى الوعي واستقطاب رؤى استكشافية تمثل جوابا أو برهانا على مديات الفراغ والنقص، واللامعقول الذي يكمن في المعقول، وهذه الممارسة هي زعزعة المنطوق السائد باتجاه كسر المألوف وكسر التوقع وإعادة بناء الواقع بنفي البديهيات والاسترسال في منطق الإثارة والسؤال فلا يمكن إدراك أي حقيقة أو ظاهرة دون تفكيك وزعزعة منطقها (الداخلي) وهو نوع من التشريح أو التقويض المؤدي إلى تأسيس فكرة جديدة وغير اعتيادية لواقع اعتيادي.
والفانتازيا ومجاوراتها تشتغل بشكل كلي على التضخم والمبالغة في رسم ملامح جديدة وغير مألوفة للشخصية والحدث والأجواء، وشكل الصراع بينها وكأننا في عالم آخر لا يمت بصلة للواقع لكنه يتماهى معه ويعيد نمطية التشاكل معه فالممارسة تقع في صلب التصدي لهذا الواقع وكشفه بطريقة استثنائية تعتمد منطق الاستثناء وتغييب منطق (القاعدة) أو ما يعرف بعلم الرياضيات بعكس البراهين وتقديم فرضيات متخيلة وصولا إلى المادة وإحصائها عبر المنطق الجديد، طالما أن المنطق العقلاني لا ينتج إلا الصورة نفسها للواقع ونحن لا نرغب باستنساخ الفهم بقدر ما نرغب بإيجاد فهم جديد لواقع (قديم) على مستوى الفهم المنطقي ووفق ما يمكن أن يعتبر الميل الفني للفانتازيات في التركيز على التشوية والتشظي والمبالغة لكي تضع الواقع ضمن منظور تحليلي جديد، أي أنها تضع عدسة مكبرة ومجهرية لرؤية الأشكال في حالة التضخم وحالة الإثارة ومحاولة قطع الصلة بين هذه الأشكال والواقع المنتج لها.
وبذلك فإن الخطاب يتجه باتجاه تحريك الدلالة والصورة والمعنى على المستوى الذهني الحاد وقد تصل هذه الحدوسات إلى إثارة الاستفزاز والتحريض ، وتشكيل الوعي الجديد بالظاهرة، وتلك هي الغايات، والأهداف التي يسعى إليها الخطاب المتبني للميتاواقعي، والتصدي للواقع بمنطق وتجليات واستلهامات قد تبدو غريبة لكنها في الحقيقة تعبر عن جوهر التناقض الذي يحكم هذا الواقع، وتداعياته.
وجدنا ضرورة منطقية لهذا الاستهلال لبيان الجوهر الدلالي والذهني لكل أشكال الفانتازيات ولكن ثمة اشكالية يعاني منها هذا الخطاب، ودراستنا معنية بتوضيح هذه الإشكالية التي تكمن في الخلط بالمصطلحات وتشابك الدلالات، والكثير من النقاد والباحثين والمثقفين يستخدمون هذه المصطلحات، وفي ذهنهم معنى ،واحد مع أنّ لكل مصطلح أو توصيف مفهوماً ومعنى ومحددات ترسم دلالاته، وتوضح المعنى الذي يحمله، وكل مصطلح يعبر عن فكرة أو زاوية أو منظور خاص به يميزه عن غيره مما يؤدي إلى منظومة من المفاهيم الدقيقة لا أن تطلق هذه المصطلحات، وتشكل فهما عموميا فضفاضا ودلالة عامة..
فالفانتازيا تختلف عن الغرائبية، والغرائبية لا تحمل المعنى الذي تمثله العجائبية ومصطلح الواقعية السحرية يختلف في دلالته عن بقية هذه السلالة سواء على مستوى التحليل والقصدية والدلالة والمعنى على الرغم من أن المشترك العام الذي يجمع هذه المصطلحات هو الارتكاز على نوع من اللامعقول)، و(اللامنطقي)، وتحريك الصورة باتجاه زاوية انحرافية تكشف عن المفاصل المكونة للواقع وكلها تمثل خروجا على المنطق والقوانين والقواعد وتخلخل البديهيات القارة والثوابت الذهنية التي ارتكن إليها العقل التداولي وتعميماته لكن رغم هذا المشترك الذهني فإنها تتخذ عوالم خاصة بها على مستوى الدلالة والطريقة والمعنى.
فالفانتازيا عموماً هي بنية اللامعقول واللامنطقي واللاواقعي فإنها تقوم على صورة (ميتاواقعية)، هدفها الإثارة والتحريض على التأمل وربما الكابوسية أو الباروديا (السخرية) وهي كسر للأشكال المألوفة والأحداث المتوقعة أنها تضع منطقاً (لا) منطقياً) لتغير الواقع الذي يبدو منطقياً. أما مصطلح الغرائبية فإنه يشير إلى ممارسة ذهنية وتأسيس بنية منطقية ترتكز على احتمال الاستحالة أي أن حدوث الفعل الغرائبي لا يمكن توقعه أو استساغته لأنه يقع في دائرة (المستحيل) الحدوث، أي أنه فعل استحالة تام ويلجأ إليه للتعبير عن رؤية غير واقعية وغير منطقية تماما، من أجل الوصول إلى السؤال أو إلى الدهشة وقد تكون هذه الدهشة بصيغتها الحادة، وتكمن أهمية الممارسة الغرائبية بأنها تقطع الصلة نهائيا بالواقع
الذي خرجت منه، وتأسيس رؤية ثالثة تجمع بين المنطق واللامنطق لتلتقي في مساحة (غرائبية) الغرض منها إيجاد صورة عائمة لواقع مستقر، وتحريك هذه الدلالة (الاستحالية) يمثل قفزة ذهنية لتحريك الصورة والبحث عن المعاني المترشحة لهذا (التغريب) المطلق.
وعلى العكس من هذه الدلالة يمثل مصطلح (العجائبية) أو (الفانتازية) دلالة يرتكز فيها على اللامعقول والمبالغة ومغادرة المنطق القار والساكن باتجاه تخليق صورة ومديات جديدة إلا أن الممارسة أو الدلالة العجائبية تقع بشكل عام ضمن المنطق قصير المدى أي ضمن مساحة الممكن والمحتمل أو النسبي (المعقول) وليس النسبي غير المعقول كما في الإطلاق الذي يمثله مصطلح الغرائبية) فهما يشتركان في الاشتغال ضمن اللامعقول واللامنطقي لتشكيل صورة جديدة إلا أنهما يفترقان في جوهر هذه الدلالة المتحركة فالأولى تتعلق وتعبر عن المطلق والاستحالة، والثانية تعبر عن النسبي والمحتمل الوقوع أي أنّ الممارسة العجائبية تبقى على صلة بالمنطق إلى حد ما..
لكن الغرائبية تنطلق في لا منطقية حادة وبعيدة عن المحتمل والمتوقع، والحدث العادي والشكل النمطي كما ذكرناه، وهذا التفريق يجنب الخطاب من الوقوع في منطقة اللبس والخلط والتعمية وحتى لا تتحوّل هذه المصطلحات المختلفة في معناها ودلالتها إلى مصطلح واحد فضفاض وعائم وعام مما يفقد التوجه علميته والدقة المطلوبة كجزء من روح التحليل العلمي والموضوعي.
أما الواقعية السحرية فإنها مصطلح تلقفه الأدباء والنقاد جراء الأثر الذي أحدثه غابرييل غارسيا ماركيز وقبله تجارب الشعر والمخيلة الجامحة لأدب الأرجنتيني ورخيس الذي يرى أن الواقعية السحرية أن تحلم ذات ليلة أنك تتجول في حديقة غناء.. وعندما تستيقظ الصباح تجد في يدك وردة ويمتد هذا النسق من اللامعقول في أدب كافكا ولاسيما (الفانتازيا) التي يشتغل عليها في أعماله المشهورة مثل (المسخ) و (المحاكمة) و (القص)، وتحوّل البطل في رواية المسخ (سامبا) إلى حشرة وهذا ينتمي وفق التحليل إلى المنطق الغرائبي وليس العجائبي لأنه مستحيل الوقوع ضمن القوانين البشرية، فالواقعية السحرية التي استلت من هذه الاستلهامات لكنها اتخذت صيغة للإثارة، والمتعة من خلال الوقائع المثيرة والعوالم المدهشة التي تكسر المنطق القار (اجتماعيا) وضمن
منظومة وقواعد البنى المجتمعية وهي في حقيقتها تصوّر واقعاً إنسانياً مثيراً من خلال التركيز على الظواهر غير المألوفة وغير التقليدية والخارجة عن السائد العام والمألوف لكنها لا تصل إلى الصورة المنقطعة أو المنفصلة عن الواقع الذي تجسده بل أنها تجسد جانب المبالغة فيه، والنظر إلى ظواهر تثير الإحساس بالغرابة ومصطلح (الواقعية) يتضمن مفردة (واقعية) ولكنها موصوفة بمفردة (السحرية) لأنها تلتقط الظواهر والصور والدلالات التي تكشف عن بنى تثير السؤال والتأمل لأنها خارج المتوقع والسائد والمألوف وهي كسر لمنطق السياق الذهني لطبيعة المجتمع وقوانينه فهي تكسر منطقية الحدث والشكل والصورة التي يتأسس عليها المنطق الاجتماعي والصورة السيوسيولوجية باتجاه تحريك الدلالة وللتعبير عن التناقض والاختلال والظواهر السلبية المبالغ في تصويرها كنوع من التحريض الذهني وتأسيس منطق الإدهاش..
ولذا لا نجد أن الواقعية السحرية تشتغل في اللامنطق المطلق أو تتمثل صورة منقطعة عن الواقع وتأسيس النموذج المفترض الجديد لأنها لا تعمل في مجال (الغرائبية) أي الاستحالة، إنها تكسر نمطية القواعد أو المنطق الواقعي للبنية الاجتماعية ولا تكسر قوانين الطبيعة والتكوين الكوني، كالذي تعمل على وفق أنساقه النزعة (الغرائبية)، الواقعية السحرية هي أسلوب من الخيال الذي يرسم نظرة واقعية للعالم الحديث، لكنها تضيف العناصر السحرية، وهي تطوير باهر للواقعية النقدية واستلهام لمنطق السخرية والبحث عن الإدهاش من خلال منطق الاثارة وتضخيم روح المفارقة في الحدث والشخصية والصورة..
وكل أشكال (الفانتازيا) هي نتاج التحولات الواقعية للمجتمعات وتماه مع روح وإيقاع العصر، والبحث عن مساحات غير تقليدية لنقد وتفكيك الواقع التقليدي وإنشاء منطق لا منطقي) لتحليل وكشف البنى (المنطقية)، فالواقعية السحرية تستخدم قدراً كبيراً من التفاصيل الواقعية، وتوظف عناصر سحرية لإثبات وجهة نظر حول الواقع. إنها دمج للعناصر الحقيقية والسحرية التي تنتج شكل كتابة أكثر شمولاً من الواقعية الأدبية». هذا هو الأساس الفلسفي والمقاربة الذهنية التي تشتغل عليها كل الخطابات (الفانتازية) ومن المهم أن نفرق على مستوى المصطلح ودلالته بين هذه المنظومة بعد أن شاع منطق الاستسهال والتداول العابر الكثير من الخلط والتعمية والاستخدام اللامنطقي على مستوى الدلالة.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
تعليقات
0