يا لها من مبادرة نبيلة! الحكومة ومن خلال وزارة الصحة والحماية الاجتماعية ، تطلق حملة وطنية لمحاربة ضغط الدم. حملة إعلامية ورقمية من 17 ماي إلى 17 يونيو، تحت شعار “قيسوا ضغطكم الدموي بدقة، وراقبوه، لتعيشوا عمراً أطول”… ونعم العقل والمنطق!
هكذا إذن تطلق وزارة الصحة حملتها التوعوية حول مخاطر ارتفاع ضغط الدم، ناصحة المواطنين بمراقبة معدلات ضغطهم، لكنها “نسيت” أن تذكر أن هذا المرض الصامت ليس سوى عرضٍ ثانوي في عهد حكومة يجري فيها تحويل المعاناة اليومية إلى مرضٍ مزمن. فما فائدة قياس الضغط إذا كانت الحياة مع سياسة هذه الحكومة نفسها تشكل خطرا مباشرا على الشرايين؟
المواطن المغربي لا يحتاج إلى جهاز طبي ليعرف أن ضغطه مرتفع، يكفيه أن يستيقظ باكرا ليواجه أسئلة كفيلة بإرهاق أي قلب:
كيف سيدفع فاتورة الماء والكهرباء؟ كيف سيصل إلى عمله؟ كيف سيواجه الاستقبالات بالمستشفى أو مصحة خاصة وهي تطلب منه « النوار أو شيك على بياض” رغم ألمه؟
كيف لا يرتفع ضغطه وهو مكبّل بالديون منذ أول شهر عمل؟ كيف لا يرتفع ضغطه وهو يرى راتبه يُبتلع قبل منتصف الشهر؟
أليس منكم من سأل يوماً عن ضغط دم ذاك الشاب الذي درس سنوات طوال ليصبح في الأخير حارساً ليلياً أو بائع سجائر
ومن منكم سمع نبض ذاك الذي صدّق وعود الدعم، فحُرم منه لأن خوارزمية الدعم اعتبرته “غنياً” لمجرد أنه عبّأ بطاقة هاتف بـ10 دراهم؟! أي علم هذا؟ وأي خيال حسابي يجعل شريحة الهاتف تحدد إن كنت مستحقًا للدعم أم لا؟
أليست هذه العوامل مجتمعة و صفة طبية لارتفاع الضغط؟
الحكومة تريدنا أن نراقب صحتنا، لكنها تنسى أنها تضعنا في مختبرٍ اجتماعي تختبر فيه قدرة الإنسان على التحمل. فبين غلاء المعيشة الذي يذيب القوة الشرائية، وفساد إداري يجعل أبسط الخدمات رهينة الواسطة، وقطاع صحي يعاني من سوء التسيير، يصبح الحديث عن “الوقاية من الضغط” نوعاً من السخرية. الأطباء ينصحون بتجنب التوتر، لكن كيف نطبق هذه النصيحة في ظل حكومة تولد القلق كرد فعل طبيعي على الواقع؟
حتى الأدوية نفسها، التي يفترض أن تكون حلاً، أصبحت جزءاً من المشكلة. فبين ارتفاع أسعارها وفقدانها، يجد المريض نفسه أمام خيارين: إما أن يخفض ضغطه، أو يخفض مصروف بيته. وفي الحالتين، الخاسر هو صحته.
والغريب أن الحكومة من خلال وزارة الصحة، وهي تطلق حملتها، تتجاهل أن بعض قراراتها نفسها تساهم في رفع منسوب التوتر.
فما قيمة التوعية بأضرار الملح إذا كان المواطن لا يجد ما يكفي من المال لشراء طعامٍ صحي؟ وما جدوى الحديث عن الرياضة إذا كانت المدن تفتقر إلى مساحات خضراء، وتزداد فيها زحمة السير كل يوم؟
الحقيقة المرة هي أن المغاربة يعانون من نوعين من الضغط: الأول بيولوجي يمكن قياسه بالجهاز الطبي، والثاني اجتماعي لا يقاس إلا بمستوى الصبر الذي تستهلكه الحياة اليومية. والفرق بينهما أن الأول يمكن علاجه بحبة دواء، أما الثاني فلا دواء له إلا عدالة اجتماعية حقيقية.
فبدل أن تكتفي الوزارة بنصح المواطنين بقياس ضغطهم، كان عليها أن تقيس أولا “ضغط القرارات الحكومية” على أعصاب الناس. لأن المواطن الذي يعيش في أمانٍ اقتصادي واجتماعي، لن يحتاج إلى من يذكره بفحص ضغطه…
نحن لا نحتاج إلى أجهزة قياس الضغط، نحن نعيش داخلها! نتحرك كل يوم بضغط زائد، نأكل وهمًا، نشرب مرارة، ونتنفس اختناقاً. نحتاج إلى حملة وطنية ضد الأسباب، لا ضد النتائج. نحتاج إلى وزارة تناضل من أجل كرامة المريض، لا تقيس له ضغط الدم وتتركه يواجه السكتة القلبية لوحده.
فلتقيسوا ضغط الحكومة قبل أن تقيسوا ضغط الشعب. فلتراقبوا قراراتها، لتعيشوا جميعاً عمراً سياسياً أقصر. فالمغاربة لم تعد تكفيهم كبسولات الوقاية، لأن ما يحتاجونه فعلاً هو جرعة كبيرة من العدالة، وعلبة من الكرامة، وراحة بال لا تُباع في الصيدليات.
أما نحن، فسنقيس ضغطنا كل صباح، ونبتسم.. فقط كي لا نُصاب بجلطة قاتلة.
كلام في الصميم،كيف لاو نحن بين المطرقة والسندان
نسأل الله العافية