إيمان الرازي: عضو المجلس الوطني لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية
ليس من نافلة القول أن يُعاد النقاش إلى ما تم تجاوزه في سجل الذاكرة الوطنية، حين تعود الوجوه ذاتها، بنفس الازدواجية، لتأثيث واجهة الكلام السياسي وإعادة إنتاج الخداع باسم الطهرانية الكاذبة. إن كلام إدريس الأزمي عن “البيع والشراء” لا يستوقف من تعود على لغة السوق في إدارة الشأن العام، بقدر ما يكشف عن انزلاق الوعي إلى مستنقع شعبوية فجة لا ترى في الممارسة الديمقراطية غير واجهة للمقايضة والمناورة.
فحين ينبري أحد رموز الحزب الأصولي ـ ممن تمرسوا على الاتجار بالمرجعيات الدينية والسياسية ـ لتبخيس آلية دستورية مثل ملتمس الرقابة، فإن الأمر لا يتعلق فقط بسوء فهم للمؤسسات، بل بكشف سافر عن تكوين سياسي ملوث، نشأ وتربى في أحضان ثقافة الصفقة لا ثقافة الدولة. ولعلنا لا نحتاج إلى العودة كثيراً إلى الوراء لتذكير الرأي العام بأن حزب العدالة والتنمية لم يُؤسس إلا في كنف صفقة بئيسة، قدم فيها “الإخوان” بيعتهم لإدريس البصري على مذبح شرعية وهمية. ولم تكن الانتخابات الجزئية أواخر التسعينات، التي مهّدت لولوج بنكيران إلى البرلمان، سوى صورة أخرى من صور تلك المقايضة، التي جرت على حساب الاتحاد الاشتراكي نفسه، حزب الشهداء والرموز والتاريخ النضالي الممتد.
وإذا كان ملتمس الرقابة يُنظر إليه عند الأزمي وأمثاله كنوع من “البيع والشراء”، فمردّ ذلك إلى كونهم لم يعرفوا غير هذا المنطق في علاقتهم بالمؤسسات، فحتى تربعهم على رأس الحكومة جاء في شكل صفقة غادرة باعوا فيها حركة 20 فبراير، الحركة التحررية التي كانت تحمل مطلب الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. باعوها ببساطة، بنفس الخفة التي باعوا بها شعاراتهم حول العفة والحياء، على شاطئ القمقوم وفضيحة بنحماد، حين كانت شريفتهم تغيثه بـ”القذف الرحيم”، أو حين صار “يتيمهم” يعلن الزهد في الدنيا بينما يتسكع في شوارع باريس مع ممرضته العشيقة، باسم العلاج وبلغة الحلال المعلّب في طقوس النفاق الجماعي.
ولن نستفيض كثيراً في الإشارة إلى فواجع أخرى كانت محط قرف الجماهير: من وزيرهم الذي اختطف زوجة من بيتها وأبنائها وجعل لها عيد ميلادها عيداً وطنياً للمجتمع المدني، إلى صفقات الوداديات والتعاونيات التي حولت أتباعهم إلى ملاك عمارات فاخرة وسيارات فارهة، بعد أن دخلوا السياسة حفاة عراة. هؤلاء لا يضبطهم ميزان الأخلاق أو المصلحة العامة، بل ينحازون فقط لمغانم الصفقات، وما اتهامهم لخصومهم بالبيع والشراء إلا محاولة بئيسة لعكس مرآة تاريخهم المفضوح على الآخرين.
ولعل المفارقة التي تختزل خزيهم الأخلاقي هي ما عبر عنه المفكر حسن أوريد ببلاغة جارحة حين قال: “ليس يضير الحسناء أن تُفتض بكارتها، فذلك قدرها لتفيض بالحياة وفق علاقة شرعية معلومة، وما قولك في من تتعفف عن تقديم مقدمتها إبقاءً لبكارة مزعومة وتبذل مؤخرتها؟”. فهل يحتاج الأزمي لشرحٍ أكثر وقاحةً مما سبق أن قدمه له أحد رجال الدولة الحقيقيين الذين لا يرتدون قناع الورع الزائف؟ ألم يتعلم بعد أن الناس تحفظ ذاكرة السياسة، وأن ذاكرة الشعوب لا تشكو من قصر النظر كما يتوهم المتفيقهون باسم الطهرانية؟
لقد سقط القناع منذ زمن. والشعب الذي منحهم ثقته قبل أن يركلهم بوعيه، لم يعد مستعداً ليغفر من جديد. ولن تكون العودة إلى الواجهة السياسية عبر خطاب المظلومية أو تخوين المعارضة إلا محاولات يائسة لإعادة إنتاج الفشل. لقد لفظتكم حركة الشارع كما لفظتكم صناديق الاقتراع، وليس في إعادة تدوير الفشل غير الدليل على الإفلاس.
فليعلم الأزمي ومن على شاكلته أن المغرب لم يعد يتحمل هذا النوع من الخطاب الرديء الذي يلوذ بالدين ليبرر الانتهازية، ويتدثر بالأخلاق لتسويق الحرام السياسي، ويعلي من شأن الصفقة على حساب الصدق. المغرب بحاجة إلى رجال دولة، لا إلى تجار دين. إلى من يقدسون المؤسسات لا من يدوسون عليها. إلى من يحترمون ذكاء المغاربة لا من يحتقرونه باسم البلاغة الخشبية وادعاء العفة.
والاتحاد الاشتراكي الذي صمد في وجه السلطوية، ودفع الشهداء من أجل الكرامة والحرية، ليس بحاجة إلى دروس في الوطنية ممن احترفوا الصفقات، بل هو اليوم صوت العقل النقدي، الضمير الذي لن يصمت أمام التبذير السياسي والانحراف القيمي الذي يمثله حزب “الخوانجية”. وإن كانت العودة إلى المشهد ضرورية، فليس من أجل المناصب أو التحالفات، بل من أجل إعادة المعنى للسياسة بعد أن حولها “الأزميون” إلى سوق نخاسة مفتوحة.
فاحفظ هذا جيدا، وذكر نفسك به ما استطعت: من خان المبادئ لا يؤتمن على الوطن.
تعليقات
0