كشفت بيانات الخزينة العامة للمملكة عن مؤشرات مقلقة بخصوص الوضعية المالية للقطاع العام، إذ بلغ العجز في الميزانية مع نهاية ماي 2025 حوالي 22.9 مليار درهم، أي ما يقارب ضعف ما تم تسجيله خلال نفس الفترة من السنة الماضية، حين لم يتجاوز 11.2 مليار درهم.
هذا التدهور يأتي رغم التحسن اللافت في المداخيل العادية، والتي ارتفعت بنسبة 19.6% لتصل إلى 171.4 مليار درهم، مدفوعة أساسًا بنمو قوي في الضرائب المباشرة بنسبة 32.2%، إلى جانب ارتفاع الإيرادات غير الجبائية. لكن هذه الدينامية الإيجابية في جانب الموارد لم تكن كافية لاحتواء التصاعد الحاد في وتيرة الإنفاق العمومي، والذي شكّل المصدر الرئيسي لاختلال التوازن المالي.
فمن جهة النفقات، سجلت الميزانية العامة نفقات إجمالية بلغت 232.8 مليار درهم بزيادة سنوية بلغت 23.8%. وتوزعت هذه الزيادة على نفقات التسيير التي ارتفعت بنسبة 25.9%، ونفقات الاستثمار بنسبة 26.4%، بالإضافة إلى نمو مقلق في خدمة الدين العمومي، التي ارتفعت فوائدها إلى 16.8 مليار درهم، في حين قفزت سحوبات أصل الدين إلى 24.4 مليار درهم، خاصة في ما يتعلق بالدين الداخلي الذي شكّل الجزء الأكبر من هذا التزايد. هذا الوضع ساهم في تقليص الفائض العادي إلى 11.6 مليار درهم فقط، ما يعكس ضعف قدرة الدولة على توليد هوامش مالية مستقرة قابلة للتوجيه نحو الأولويات الاقتصادية والاجتماعية.
وساهمت الحسابات الخصوصية للخزينة جزئياً في تخفيف عبء العجز، بتحقيقها لرصيد إيجابي بلغ 13.1 مليار درهم، غير أن اعتماد الحكومة المتزايد على هذه الحسابات كأداة لتصريف العمليات المالية الكبرى، لا سيما الاستثمارية منها، يطرح إشكاليات حقيقية تتعلق بالشفافية والمساءلة. فالتحويلات من الميزانية العامة إلى هذه الحسابات تجاوزت 18.7 مليار درهم، ما يؤشر على تزايد اللجوء إلى آليات محاسباتية لتدبير النفقات بعيداً عن الرقابة البرلمانية المباشرة.
ورغم تسجيل تدفق صافي إيجابي من التمويلات الخارجية بلغ 20.8 مليار درهم، فقد فضّلت الحكومة تعزيز حضورها في السوق الداخلي لسد حاجيات التمويل، وهو ما تجلّى في لجوئها إلى اقتراض داخلي بمقدار 23.8 مليار درهم. هذا الخيار من شأنه أن يزيد الضغط على السيولة البنكية، ويؤثر سلباً على قدرة الأبناك على تمويل الأنشطة الإنتاجية والاستثمار الخاص، مما يهدد بتفاقم هشاشة النسيج الاقتصادي الوطني في الأمد المتوسط.
الوضع المالي الذي تكشف عنه هذه الأرقام يتجاوز كونه ظرفياً أو ناتجاً عن تقلبات موسمية، بل يعكس أزمة بنيوية أعمق في طريقة تدبير المال العام، ويؤشر على الحاجة إلى مراجعة جذرية لهيكلة النفقات، وضبط عجز الميزانية، وتحقيق فعالية أكبر في توجيه الموارد نحو أولويات النمو والتنمية. فالاكتفاء بإجراءات ظرفية لتقليص العجز، من قبيل تسريع التحصيل أو التوسع في الاقتراض الداخلي، لا يعالج جوهر الإشكال، بل يؤجله ويزيد من كلفته. وعليه، فإن التحدي المطروح اليوم أمام صانعي القرار يتمثل في إرساء قواعد جديدة للحكامة المالية ترتكز على الشفافية، وربط النفقات بالأهداف التنموية الحقيقية، بدل الاستمرار في دوامة إنفاق غير مُهيكل لا يواكبه إصلاح هيكلي عميق.
تعليقات
0