نظام الصرف في المغرب… لعبة التوازنات المؤجلة

محمد رامي الإثنين 30 يونيو 2025 - 21:20 l عدد الزيارات : 4732

يُعتبر إصلاح نظام الصرف في المغرب من بين الأوراش الاقتصادية الكبرى التي طالما أثير حولها الجدل، خاصة لما يكتنفها من تعقيدات تقنية وتأثيرات اجتماعية واقتصادية بعيدة المدى. ورغم أن التصريحات الرسمية الصادرة عن مسؤولي بنك المغرب، خلال اجتماع لجنة المالية والتخطيط والتنمية الاقتصادية بمجلس المستشارين، بدت منسجمة ظاهرياً ومتماسكة من حيث الخطاب، فإن القراءة النقدية تبرز عدداً من التناقضات الضمنية والمفارقات التي تستحق الوقوف عندها.

أول ما يثير الانتباه هو المدى الزمني الطويل الذي استغرقه التحضير لهذا الإصلاح. فالمعطيات الرسمية تؤكد أن التفكير في إصلاح نظام الصرف بدأ منذ سنة 2007، ومع ذلك لم يتم الانتقال إلا إلى مرحلة أولى متحفظة سنة 2018، دون استكمال باقي المراحل إلى حدود اليوم. المفارقة هنا أن مسؤولي البنك المركزي يصرحون بأن الظروف الاقتصادية مواتية لهذا الانتقال: تضخم منخفض، احتياطات ملائمة من العملة الصعبة، واستقرار نسبي في السوق. فكيف يمكن تفسير هذا التأخير المزمن؟ هل هو ناتج عن غياب الإرادة السياسية، أم عن وجود مخاوف من الانعكاسات الاجتماعية التي قد لا يتسع لها الخطاب الرسمي؟ إن الاستمرار في تبني مقاربة تدريجية مفرطة في التحفظ قد يشير إلى وجود فجوة بين الخطاب الإصلاحي وبين الواقع السياسي والاجتماعي.

ثاني الملاحظات تتعلق بالموقف المزدوج من مرونة نظام الصرف. فالجواهري يؤكد أن إصلاح هذا النظام هو دعامة للاستقرار الاقتصادي وشرط لتعزيز تنافسية الاقتصاد الوطني، غير أنه في الآن ذاته يحذر من أي خطوة قد تؤدي إلى زعزعة التوازنات الكلية. هذا الطرح، وإن كان مفهومًا في إطار تدبير المخاطر، إلا أنه يضعنا أمام معضلة اقتصادية واضحة: كيف يمكن تعزيز مرونة النظام النقدي مع الحفاظ على استقرار تام؟ إن التعويم، حتى وإن تم بشكل موجه، يحمل في طبيعته قدراً من التقلب الذي يجب أن يُدار لا أن يُخشى منه. أما الإبقاء على نظام صرف شبه جامد، باسم الاستقرار، فذلك لا يتماشى مع منطق التحرير التدريجي.

تناقض آخر يبرز من خلال الخطاب المتكرر حول “السيادة” في اتخاذ القرار. فقد شدد مسؤولو البنك على أن الإصلاح قرار وطني سيادي، تم التحضير له في تناغم بين الحكومة وبنك المغرب. غير أن التأكيد في أكثر من موضع على المتابعة التقنية والتوصيات المتواصلة من طرف صندوق النقد الدولي يضع هذا “الاستقلال” محل تساؤل. صحيح أن التفاعل مع المؤسسات المالية الدولية لا ينفي السيادة، لكن التكرار المفرط لهذا التبرير يوحي بأن هناك حرصًا مبالغًا فيه على طمأنة الرأي العام بشأن مصدر القرار، في وقت قد تكون فيه هذه المؤسسات أحد العوامل الضاغطة نحو تسريع الإصلاح.

واللافت أيضاً أن الخطاب الرسمي اكتفى بالإشارة إلى أهمية حماية القدرة الشرائية للمواطنين دون تقديم معطيات دقيقة أو مؤشرات كمية حول كيف سيؤثر الإصلاح على أسعار المواد الأساسية، أو على كلفة المعيشة. هذا الغياب الواضح للمقاربة الاجتماعية في تحليل تداعيات تحرير سعر الصرف يمثل نقطة ضعف أساسية في التصور المؤسساتي للإصلاح، خصوصاً في بلد لا تزال فيه نسبة مهمة من الأسر تعاني من هشاشة اقتصادية ولا تمتلك أدوات الحماية من تقلبات الأسعار.

في المحصلة، يبدو أن إصلاح نظام الصرف في المغرب لا يزال رهين توازنات دقيقة بين الخطاب والتطبيق، بين الطموح والحذر، وبين الضغط الخارجي والاعتبارات الداخلية. وإذا كان من المنطقي أن تتبنى السلطات مقاربة تدريجية في مثل هذا الملف الحساس، فإن ما هو مطلوب اليوم هو قدر أكبر من الشفافية والوضوح في عرض السيناريوهات الممكنة، وإشراك حقيقي للفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين في تقييم آثار هذا الإصلاح. فبدون ذلك، سيظل إصلاح نظام الصرف ورشاً مفتوحاً بتكلفة مؤجلة، وقد تكون كلفته الاجتماعية والسياسية أكبر بكثير من الفوائد المنتظرة منه على المدى الطويل.

تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الإثنين 30 يونيو 2025 - 22:18

المجلس الوطني لحقوق الإنسان يؤكد تشبث المغرب بالعدالة المناخية وحقوق الإنسان…

الإثنين 30 يونيو 2025 - 21:53

البرلمان لدول أمريكا الوسطى يُشيد بمبادرة الحكم الذاتي المغربية ويخلّد عقداً من التعاون مع البرلمان المغربي

الإثنين 30 يونيو 2025 - 21:13

العثور على جثة الطفلة مريم بعد يومين من اختفائها بشاطئ قليبية…

الإثنين 30 يونيو 2025 - 19:34

بعزيز يطرح عدم مثول رئيس الحكومة أمام البرلمان للإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالسياسات العامة

error: