خنيفرة تستضيف أربعينية رحيل المناضل أحمد بويقبة أحد أبرز المنفيين خلال سنوات القمع والاضطهاد

الذكرى الأربعينية تصادف الذكرى 51 لأحداث مارس 1973

30٬625
  • خنيفرة: أحمد بيضي
تشاء الصدف أن تتزامن أربعينية المناضل الفقيد أحمد بويقبة والذكرى 51 لأحداث الثالث من مارس 1973، حيث بادر فرع خنيفرة ل “المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف”، بتنسيق وشراكة مع “الجمعية الطبية لإعادة تأهيل ضحايا العنف وسوء المعاملة”، إلى تنظيم حفل تأبيني بالمناسبة، احتضنته “غرفة التجارة والصناعة والخدمات”، بخنيفرة، صباح الأحد 3 مارس 2024، وذلك بحضور عدد من ضحايا ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وأرامل وأسر وأقارب المتوفين والشهداء والمختفين منهم، إلى جانب ثلة من المناضلين في المجالات السياسية والحقوقية والنقابية والجمعوية، وعدد من أفراد عائلة الراحل وأصدقائه.
وكان الفقيد أحمد بويقبة قد وافته المنية مساء السبت 20 يناير 2024، ودفن ب “مقبرة بويجمان”، بإقليم خنيفرة، وهو ممن اختاروا اللجوء إلى المنفى الاضطراري، بين الجزائر وليبيا، إلى جانب صهره محمد أومدا وشقيقه محمد بويقبة، وآخرين، ذلك بعد إصدار المحكمة العسكرية الدائمة، يوم 30 غشت 1973، حكمها على بعضهم بالحكم الغيابي بالإعدام، ضمن ما يعرف بمحاكمة عمر دهكون ومن معه، وتوزعت الأحكام في حق ما تبقى منهم على أرض الوطن بين المؤبد والسجن 20 أو 30 سنة، والإعدام الذي تم تنفيذه، يوم عيد الأضحى 1973، رميا بالرصاص في حق الكثيرين، بينهم موحى والحاج أمحزون واحماد عسيل (احديدو) مثلا.

نداء الحقيقة وإنصاف الضحايا

قاعة الحفل تزينت بعدة يافطات حملت عبارات كثيرة من قبيل: “نساء ناضلن من أجل الحقيقة وإنصاف الضحايا”، “وجوب ملاحقة مرتكبي التعذيب قضائيا”، “لا طي ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بدون حل عادل لملف الاختفاء القسري”، “الحماية من التعذيب مسؤولية الجميع”، “صون كرامة الضحايا وضمان إعادة الاعتبار لهم وتأهيلهم صحيا واجتماعيا وكفالة حقهم في جبر الضرر”، فضلا عن لائحة بصور عدد من الشهداء، تحت عنوان “شهداء شموع”، حيث افتتح حفل الأربعينية بكلمة للمسير، رشيد المنوزي، أبرز فيها دلالات اللقاء، ثم بآيات قرآنية على لسان عبدالكريم وزان، إلى جانب كلمة مؤثرة لصلاح بويقبة نجل الفقيد.
وخلال الحفل لم يفت علي أمزيان في كلمته، باسم فرع “المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف”، التذكير بشخصية الفقيد أحمد بويقبة وخصاله الحميدة ومواقفه النضالية، إنسانا طيبا ومقاوما ضد المستعمر الفرنسي ومناضلا في سبيل الديمقراطية، و”رمزا للعطاء الذي يظل سرا للخلود”، كما شدد أمزيان على أن سيرة الفقيد ستظل نورا لطريق الأجيال التواقة للحرية والعدالة الاجتماعية، فيما تقدم عضو المكتب التنفيذي للمنتدى، إدريس فخرالدين، بقصيدة أمازيغية، واصفا فيها الفقدان بالعطش، ثم بكلمة استحضر فيها شخصية الفقيد، منذ التحاقه برفاق له بتنغير وإلى لجوئه للجزائر التي “حاولت فشلا إقناعه بالاعتراف بجبهة البوليساريو”.
ومن جهته، انطلق عبدالكريم المنوزي، باسم “الجمعية الطبية لإعادة تأهيل ضحايا العنف وسوء المعاملة”، من مواقف الفقيد أحمد بويقبة الذي “ظل شامخا إلى آخر يوم في حياته، ولم يتخلى عن مبادئه، رغم محن الاستعمار التي تحداها في سبيل استقلال أراده حقيقيا، وكذا محن سنوات الرصاص التي لم تنل من عزيمته حين كان يحلم بمغرب تسوده الديمقراطية وحقوق الانسان”، فيما حرص المنوزي بالتالي على ختم كلمته بالمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين والصحافيين، ومعتقلي الريف، داعيا مراكز القرار لتجريم التعذيب وتنفيذ توصيات هيئة الانصاف والمصالحة والالتزام بتنزيل الاتفاقيات واحترام المعاهدات الدولية.

من أجل عدم تكرار الماضي

أما عبدالكريم وزان، الذي أصر على حضور الحفل، باسم عائلة وزان، فانطلق من توجيه كلامه لمن يهمهم الأمر بقوله “إن المناضلين لا يبكون شهداءهم ما داموا لم يغادروننا إلا بأجسادهم وليس بأرواحهم وتوجيهاتهم”، ومذكرا ببعض ضحايا المنطقة، وب “إرادة الشعوب التي لا تقهر”، فيما لم يفته انتقاد ما جاء في تقرير رفعه المغرب للجنة حقوق الانسان، والذي أشار فيه لشخصين باعتبارهما فقط من المختفين قسرا، في حين هناك 8 مختفين من خنيفرة وحدها، بينهم مثلا نشابي، أرسالي، الرهون، العمراني، إضافة إلى ما يتعلق ب “ضحايا الإعدام الذين ما تزال قبورهم مجهولة”، ومطالبا ب “اعتذار الدولة وعدم تكرار ما جرى والحد من الاحتقان الشعبي”.
ومن الرسائل التي وردت على الحفل، وتعذر على أصحابها الحضور لظروف طارئة أو شخصية أو صحية، هناك رسالة من إبراهيم أوشلح (خارج الوطن) وأخرى من عبدالله المالكي (من تنغير)، تحدثا عن شخصية وسيرة ونضالات الفقيد أحمد بويقبة، قبل فتح الباب في وجه الحاضرين بالقاعة، وأولهم المناضل أحمد ويحمان بصفته واحد من المرافقين لضحايا ماضي الانتهاكات الجسيمة، حيث تحدث عن الفقيد و”ما عاشته المنطقة إبان سنوات القمع والاضطهاد، وأساليب التضليل التي طالت سمعة الضحايا ممن كان حملهم للسلاح ضد المستعمر هو نفسه السلاح الذي حملوه من أجل الديمقراطية”، فيما شدد ويحمان على “ضرورة وضع أسس لعدم تكرار المآسي”.

العودة للحياة والوطن

ويذكر أن أحمد بويقبة واحد من عادوا إلى الحياة من جديد، عبر عفو صدر في حقه، وهو يومها خارج وطنه الأم الذي غادره هربا من موت لا يرحم، وعندما عاد إليه وجد نفسه دون بيت يأويه ولا أرض ولا أهل، لقد مسح العساكر بيته بالقنابل، ودمروا كل ما فيه من أثاث وأوان وحبوب، وأتلفوا مواشيه ودكوا محاصيله الزراعية، بينما اقتادوا أفراد أهله نحو الظلمات المجهولة لإكرامهم في ضيافة الجلادين بغياهب الزنازن، وبينهم شقيقته عيدة بويقبة، زوجة “قائد الكومندو المسلح” محمد أومدا، والتي كانت من بين النساء الأمازيغيات اللائي لم ينل الجلادون من شموخها، على مدى ثلاث سنوات وخمسة أشهر، تحت أبشع ضروب التعذيب الجسدي والنفسي.
وقد لجأ أحمد بويقبة نحو الديار الليبية، هربا من الموت، فيما ارتقى معشر الجلادين بوحشيتهم إلى نحو نقل شقيقته، عيدة بويقبة، على متن طائرة عسكرية، من نوع هيلوكبتر، وتعليقها من رجليها في وضعية متدلية، مع التهديد برميها في البحر إن لم تدلهم على مكان زوجها محمد أومدا الذي لم تكن تعلم أي شيء عن مكانه، وكلما تتم مساءلة أحمد بويقبة عن الدقائق التي عاشها في المنفى وهو “مشروع ميت”، يجيب بعفوية: “لم أكن أفكر في العودة إلى المغرب”، أو حتى إذا عاد للحلم بالعودة يراها “عودة للموت في ثورة ضد الوضع الذي كان قائما”، وهو ما أكده في شهادته خلال جلسة الاستماع العمومية الخامسة، المنعقدة بخنيفرة.

في مواجهة النسيان

لم أكن أتصور أن ذاكرة أحمد بويقبة ستظل حية في مواجهة النسيان، إذ تحدث لي، في حوار صحفي سابق، عن تاريخ ولادته عام 1939 ببويجمان بآيت خويا، القبيلة التي ستتعرض لسياسة الأرض المحروقة، ثم ولوجه ل “جامع” القرية لتعلم بعض الكلمات والحروف، وممارسته للزراعة وتربية المواشي، إلى حين كتب عليه القدر أن يجد نفسه منخرطا في صفوف المقاومة ضد المستعمر الفرنسي، رفقة صهره محمد أومدا، وانتقاله من حزب الاستقلال إلى حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ومنه إلى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وكان قد أخذ موقعه بين “المتمردين على النظام القائم والحكم الفردي آنذاك”، وهو على وعي تام بأن الطريق شاق وطويل ما دام يرى، حسب قوله، أن “البلاد تعج بالخونة والظلم والحيف”، وقد أخذ رفاقه يؤمنون بالكفاح المسلح وسيلة للتغيير.
وفي أوج موجات القمع والاضطهاد، وانطلاق مرحلة التنسيق مع الخارج، ثم مع الفقيه محمد البصري، عبر آيت زايد الحسين من تنغير (الذي نفذ فيه حكما بالإعدام)، لجأ أحمد بويقبة مع من لجأ من إلى أمكنة متفرقة، ورغم مطاردتهم لعدة مرات، كانوا يتمكنون من الإفلات من الاعتقال ويفضلون ظروف الجوع والعطش عن الوقوع في طاحونة الموت، وظل “الثوار” بالجبال والغابات لأزيد من سنتين، وكلهم استعداد للموت وتقبل نتائج اختيارهم لطريقهم، من أجل الانتصار على اليأس والإحباط التي كان يعانيها الشعب، ولم يفت أحمد بويقبة أن يضع فاصلا بجملة قال فيها “إننا لم نكن ضد الملك بل ضد الخونة والحاكمين والمسؤولين بمراكز القرار”، على حد لسانه.

انتفاضة بلا خرائط

ويومها أخذ السلاح “يتسلل” عبر الجارة الجزائر لعناصر رفاق أحمد بويقبة، عبر فكيك، نحو كولميمة لإيداعها ببيت حدو اللوزي قبل نقلها صوب “تدغوست” التي انتقل إليها أحمد بويقبة، صحبة موحى والحاج أمحزون، وجلبا كمية منها، وبعدها بأسابيع قليلة نزلت أوامر بالتحرك من طرف محمود بنونة (الذي قتل في الخامس من مارس 1973 خلال مواجهة مسلحة بأملاكو)، وإبراهيم التزنيتي (المعروف بعبد الله النمري، والذي قتل في الثامن من ماي 1973)، وكان الأخير قد عاد سرا من الجزائر إلى المغرب سنة 1971، ونزل في منطقة غابوية، رفقة محمد أومدا وأحمد بويقبة حيث ظلوا في وضعية اختباء، على مدى سنتين، قبل اندلاع ما سمي ب “الانتفاضة المسلحة”، والتي تخللها قتل عون سلطة (شيخ) بسبب تصرف غير لائق تجاه نساء المنطقة، وفق المعطيات المتداولة.
وتم وقتها الاتفاق على موعد الثالث من مارس كزمان لانطلاق العمليات المسلحة، والبداية من مولاي بوعزة بهجوم على ثكنة للمخازنية لأجل الاستيلاء على بعض الأسلحة، وتم فيها اغتيال الحارس الليلي لهذه الثكنة دون العثور على أي سلاح، ما تم وصفه ب “الخطة الفاشلة” التي حملت “الثوار” على الاحتماء بالجبال التي جرت محاصرتها بالعسكر والدرك، وببعض “الحيَّاحَة” ممن تم استئجارهم للبحث عن المُطارَدين، وبعد مواجهات مسلحة عنيفة بين الطرفين، وسقوط قتلى وتسجيل اعتقالات عشوائية، تمكن قائد الكومندو، محمد أومدا من مغادرة البلاد، رفقة صهريه أحمد بويقبة ومحمد بويقبة، وبينما لجأ أحمد بويقبة للديار الليبية، ظل محمد أومدا لاجئا الى أن وافته المنية عام 1986 بعد صراع طويل مع مرض ألم به ودفن هناك غريبا عن وطنه.
وكان الفقيد أحمد بويقبة، قد عاد، خلال نهاية غشت من عام 1995، إلى أرض الوطن، بعفو صدر في حقه عام 1980، وقد قضى بالديار الجزائرية مدة سنتين ليلجأ بعدها إلى الديار الليبية التي عاش فيها حوالي 18 سنة لم يتوقف فيها عن متابعة أحداث بلاده عبر الصحف التي كانت من بينها جريدة “المحرر”، في حين بقي بالجزائر عدد من رفاقه إلى جانب شقيقه محمد بويقبة الذي ليس سوى زوج فاظمة أمزيان التي تعد من أبرز النساء ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بمنطقة خنيفرة، والتي كانت قد اعتقلت رفقة أطفالها وتعرضت لشتى أصناف التعذيب الجسدي والنفسي، ليتم اختطافها ثانية إثر مغادرة زوجها للبلاد، واقتيدت إلى ظلمات المعتقل وهي حامل، حيث وضعت وليدها “حفيظ” تحت ظلمات وبرودة الزنازن الوحشية.
error: