السرد والبلاغة والحياة ..قراءة في “نعيش لنحكي: بلاغة التخييل في كليلة ودمنة” لمصطفى رجوان

32٬342

 

  • الحسين والمداني (حسام الدين نوالي) (°)
على الرّغم من أن رولان بارث Roland Barthes، منذ أواسط ستينات القرن الماضي، أي في مرحلته البنيوية، كان قد أعلن -بصيغة توسعية ومتقدمة- عن حضور السرد في أشكال التواصل الإنساني والابداعي المختلف، واستيعابه للوسائط المتعددة، بحيث يمكن أن “يُحمل بواسطة اللغة الشفوية أو الكتابية، وبواسطة الصورة الثابتة أو المتحركة، والإبيماء، وبمزيج منتظم من هذه المواد، فهو حاضر في الأسطورة والحكاية الشعبية والقصة والملحمة والتاريخ والتراجيديا والكوميديا والبانتومايم واللوحات التشكيلية والسينما والشريط المرسوم…”، إلا أن المنجزات النقدية لم تتطور أبحاثها في دراسة المستويات السردية وأشكال حضورها بنفس القدر من الاهتمام.
لكن مع توسّع السرديات، صار التوجه نحو الانفتاح على أشكال جديدة بانشغالات جديدة للعمل على تطوير الأسئلة التي لم تطرحها الاتجاهات السابقة .  وأفضى تطوّر النقاش إلى تنوع التصورات وتعدد المقاربات الساعية إلى توسيع مجال اشتغال السرديات، والانفتاح على حقول أخرى، بانشغالات مغايرة، وبأسئلة جديدة، بحيث سمّاها رافائيل باروني Raphaël Baroni “إمبراطورية السرديات” في مقال حول حدود السرد والتحديات التي تواجهها.

ومن هنا فإن تطوير وتوسيع السرديات اتخذ منحيين:

الأول: من الداخل، يمثله اتجاه ينطلق من منجزات السرديات الكلاسيكية، ويطورها للإجابة على أسئلة جديدة، على نحو ما فعلته ميك بال Meike Bal سعيا لتطوير مصطلح “التبئير” عند جيرار جنيت Gerard Genette، في كتابيها “السرديات: نظرية التحليل”، و “السرديات في التطبيق”
الثاني، من الخارج، ويمثله فريق يشتغل في حقول أخرى، كاللسانيات والتشكيل والأنثروبولوجيا والبلاغة، سعوا إلى استيراد السرديات وتوظيف منجزاتها النظرية في معالجة قضايا تطرحها الحقول الأخرى، ومنهم آلان راباتيل Alain Rabatel الذي يشتغل في اللسانيات التلفظية، وانتقد مصطلح “التبئير”، فاستبدل به “وجهة النظر” في أطروحته: “مقاربة سيميائية لسانية لمصطلح وجهة النظر” (سعيد يقطين، إبستيمولوجيا السرديات).
وتمثل السرديات البلاغية حقلا علميا استطاع تنويع زوايا التناول والتذوق في دراسة النصوص، انطلاقا من المنجز الفلسفي والنقدي والبلاغي التراثي والراهن، وتبوأت فيه المدرسة المغربية مكانا بالغ الأثر عربيا. ولعل الناقد مصطفى رجوان يقدم نموذجا للتميز وللعطاء المغربيين للجيل الجديد من البلاغيين الشباب، بالنظر لعدد الأعمال التي أصدرها في هذا المجال، وأيضا لأثرها الطيب من خلال حضورها في عدد من المحافل العلمية المغربية والعربية.
يشتغل مصطفى رجوان في البلاغة وتحليل الخطاب، وأصدر عددا من الكتب منها، في حقل السرديات البلاغية-: السرديات البلاغية: التأسيس الأرسطي لبلاغة السرد، و بلاغة السرد: الحكاية المركبة في كتاب البيان والتبيين، وبلاغة السرد في قصص القرآن: تنظير وإنجاز فقي السرديات البلاغية، ونعيش لنحكي: بلاغة التخييل في كليلة ودمنة.
وتقدّم هذه الأعمال مشروعا بلاغيا نظريا وتطبيقيا، يستند على المرجعيات الفلسفية والنقدية الغربية والعربية قديما وحديثا.

 – نحو سرديات بلاغية

     يقدم كتاب “نعيش لنحكي” البلاغة باعتبارها حاجة ثقافية ، وليست فقط مطلبا علميا وتعليميا، ولأنها “تعيد إصلاح علاقتنا بالعالم والذات”، وهي في ذلك تتقاطع مع السرد. وتأتي السرديات البلاغية توسيعا للسرديات البنيوية، واهتماما بما لم تنشغل به، ذلك أن السائد في بلاغة السرد هو تقصي العناصر البلاغية داخل النص، وهي تطبيقات تعاكس الطبيعة السردية ولا تلتفت لهوية النص من حيث جنسه إذ يتساوى الشعري والسردي والديني وغيرها، وأيضا من حيث فرادته وخصوصيته. ولهذا فإنه يدمج السياقين: التواصلي والثقافي، بما يجعل النص السردي موضوعا للتأثير العاطفي والأخلاقي والجمالي واستثمارا للذخيرة الثقافية للمتلقي، فقراءة السرد لا تشترط مهارات خاصة، بقدر ما “تتطلب استعدادا للاستجابات للتخييل”

–  السرد والسلطة

يحيل عنوان الكتاب بشكل مباشر على المقولة الشهيرة لرولان بارث، لكن بناء على السياقين التواصلي والثقافي فإنه لا يحصر السرد في بنية الإنجازات الإنسانية فقط، ولكن أيضا في ما ينخرط به المتلقي في خلق التذوق، ومن جملة ذلك ما تزخر به التراث من مادة قصصية محيطة بالنص الشعري، تؤسس للإعجاب وتضاعف التخييل، وأيضا ما يحيط بأنشطة الرياضة والسياسة والصناعات … من أخبار تشكل عامل تأثير في التلقي وبناء الجمالية.
وبناء على ذلك فإن السرد يهيمن على الإنسان ليس على مستوى المنجزات الفكرية والثقافية فقط ولكن أيضا على مستوى المواقف والاختيارات، ولذلك فإن أرسطو يربطه بالكلي في حين يقصر التاريخ على الجزئي، ومن ثمة فإن رجوان يخلص إلى أنا “نعيش في السرد أكثر من حياتنا في الواقع، وربما تحكمت الحكايات في مصائرنا أكثر مما تتحكم تصرفاتنا العملية”.

–  التحليل البلاغي للسرد

يتناول كتاب (نعيش لنحكي) نصوصا من كليلة ودمنة، معتمدا على إرث فلسفي ونقدي من أرسطو والجاحظ وكليطو ومشبال، فضلا عن منجزات نظرية التلقي والسرديات البنيوية، والسرديات ما بعد الكلاسيكية.
فإذا كان السرد تجربة إنسانية، فإنه من ثمة نشاط ثقافي مركب، يستنفر المعرفة والفكر والعاطفة لبناء المعنى والتذوق، بما يجعل المتلقي محورا أساسيا، يفضي إلى تنشيط التأويل، ومن ثمة استعادة الحكاية والتصرف فيها، وإعادة توجيهها .. وربما امتلاكها.
ويستحضر الكاتب مصطفى رجوان المظاهر الثلاثة الأساسية للنص السردي التي حددها تودوروف وهي: المظهر المحاكاتي والمظهر اللفظي والمظهر الدلالي، ليرتب مهام الدارس البلاغي للسرد في : الأساليب والجمالية والدلالة، وهي نفسها محور عمل فانسون جوف: الانغماس المحاكاتي والانغماس الجمالي والوظائف العملية، غير أن كتاب نعيش لنحكي ينشغل تحديدا بالمظهرين الأولين المرتبطين بالتخييلي والجمالي، ويتتبعهما بدءا من أرسطو ووصولا إلى فانسون جوف.

–  السرد والحجة

يتخذ الكتاب من “كليلة ودمنة” موضوعا تطبيقيا، وينطلق من افتراض أساسي مفاده أن ابن المقفع لم يختر صوغ العمل في شكل خطب وأمثال لغاية خاصة يتقصاها في السرد تحديدا. غير أن الالفات على هذا المبرر لم تعن به الدراسات العربية النقدية كثيرا لأنها كانت تنظر إلى السرد العربي من خلال اللغة والمضمون، و”لم تستطع تكوين نظرية للسرد”.
ولعل كتاب كليلة ودمنة صِيغ لغرض تعليمي وأخلاقي ومن أجل العبر، لكن يتساء رجوان: هل قارئ هذا النص يستمتع أولا أم يتعرف الأفكار؟
ثم يخلص إلى أن الحكاية تنبني على التواصل أساسا، وأن إخفاقها في أن تكون شيئا آخر غير الحكاية هو إخفاق في التواصل الذي راهنت عليه، ولهذا فإنه يقترح النظر في بلاغة الحكاية بدلا من النظر في “الحكاية المثَلية”.
إن الحجة في نصوص ابن المقفع توظف الحيلة، وهي فقي نهاية المطاف ليست غاية العمل، بل إنه إحدى أدوات السرد، فالحكاية لا تنصح ولا تعظ ولا تأمر.. إنها تحكي فقط.

 – السرد والبلاغة والمتعة

يجزم مصطفى رجوان في مقدمة الكتاب، أن الدرس الجامعي لا يقدم السرد ولا البلاغة، بل جملة من التطبيقات الميكانيكية الجافة التي تولّد النفور لغياب المتعة، وبناء على هذا فإنه يحرص في هذا الكتاب على نقطتين أساسيتين هما: الامتاع والجدل.
يظهر الأول في سعي الكاتب إلى الوصول إلى العمق النظري من طريق الّأمثلة القريبة والحياتية بما يجعل هذا التناول منسجما مع تصوره للبلاغة وللسرد باعتبارهما جزء من الشأن اليومي العادي، ولهذا فإن لغته المرحة وانتقالاته في استطرادات ممتعة تفتح للعمل حيزا واسعا من التفاعل والتذوق، فضلا عن المحتوى العلمي.
ويظهر الثاني منذ المقدمة العميقة التي كتبها الناقد عادل مجداوي بشكل علمي وأكاديمي رصين لا محاباة فيه ولا إطراء، مثيرا فيها عددا من النقط الخلافية التي يرى فيها حاجة الكتاب إلى الالتفات إليها أو توسيعها أو ضبط مفهومها وخلفيتها المعرفية، إضافة إلى ما يصادفه القارئ من حين لآخر من ردود الكاتب على اعتراضات مفترضة، مما يفضي إلى جعل الكتاب ساحة علمية تنبض بالحياة، متناغما فيها مع دعوته إلى إخراج البلاغة والسرد معا من الجفاف والجفاء ما.

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(°) قاص وناقد، من أعماله “العقل الحكائي: دراسات في القصة القصيرة بالمغرب” ومجموعتي “الطيف لا يشبه أحدا” و”احتمال ممكن جدا”
error: