الإيروسية والباخوسية: محاولة لمقاربة شخصيات رواية “الفسيفسائي” على سرير التحليل النفسي

23٬728
  • حميد ركاطة (°)
ورقة أولى-
لعل ما يميز هذا العمل الروائي هو تجسيده لروح الفسيفساء، وجماله البديع داخل لوحة كبيرة، فتحت أكثر من مسار لمقاربته. ومنحت النقاد ممكنات وإمكانيات عديدة للاشتغال. وتجسد هذه البنية السردية الفسيفسائية عالما روائيا خاصا بأجوائه ومناخه ورموزه ومعانيه، وتنوع شخوصه وتحولاتهم، وتنافر”أشيائه” وتجاذبها في اللحظة نفسها. هذا العالم الروائي يلفه الغموض والتشتت والتيه، والألغاز والأسرار والشبهات، ويغمره الشك واللاجدوى والمصير المبهم، “فالفسيفسائية مقترنة بالتشظي، والتجريب، وتمرد على السرد الخطي، وهي نمط فريد من أنماط الكتابة الروائية العربية الجديدة، في أسمى تجلياتها.

التجديد من الصفاة النوعية للأدب عامة، ولكنه لا يتخلق إلا نتيجة لعوامل عديدة ومؤثرات متنوعة. “لقد فتحت الرواية بمساراتها المتعددة، الباب على مصراعيه أمام النقاد، بما تقدمه من ممكنات، من قبيل: حقائق التخييل الذاتي، والأسطورة، والتشكيل الفني، ومقاربة الجانب الإيروسي، والباخوسي، والبوليفونية، والتاريخي، واللغات البصرية، وتقنيتي التقطيع والكولاج، والتجريب، والمدخل النفسي، والميتاسرد، وغيرها من المداخل. فالرواية تشكل باشتغالها النصي الموازي، “تفكيرا في (الروائي romanesque) أي نقدا، وربما تنظيرا لمكونات العالم الروائي”.

ومن ثم، وجدنا كثيرا من الروايات الغربية والعربية المحدثة تنهج  استراتيجيات جديدة، في كسر هالة الكتابة المكتملة، والتشكيك في اللغزية الباطنية” “فالرواية الجديدة “تعبير فني عن حدة الأزمات المصيرية التي تواجه الإنسان، والذات المبدعة … تشعر (بأنها) …مهددة بالذوبان أو التلاشي. وفي ظل تفتت القيم واهتزاز الثوابت وتمزق المبادئ والمقولات، وتشتت الذات الجماعية، وحيرة الذات الفردية، وغموض الزمن الراهن، والآتي وتشظي المألوف والمعتاد، في ظل كل هذا كله تصبح جماليات الرواية الحديثة وأدواتها، غير ناجعة في تفسير الواقع وتحليله وفهمه”. وسنحاول من خلال هذه الورقة الأولى الاشتغال على بعض المحاور من قبيل:

رمزية باخوس في الرواية، والمدخل الإيروسي، والمقاربة النفسية للشخصيات

  1. رمزية باخوس في الرواية:

شكل تمثال “باخوس” معطى أساسيا داخل أحداث كل الروايات، بحيث صادفنا إشارة أسطورية له في المقتبسة التي وشحت “مذكرات نوال الهناوي” باخوس في العيادة” على لسان الشاعر أوفيد جاء فيها “انتشرت عبادة باخوس في أنحاء طيبة. وراحت خالته إينو تتحدث عما يروي من جبروت الاله الجديد. وكانت الوحيدة من أسرتها التي لم ينلها سوء. ولم يحزنها شيء إلا ما حاق بشقيقاتها”. فباخوس أحد أسس العمل الروائي، ودعامة أساسية انبنت عليها رواية  “الفسيفسائي”،  بحيث تجسد:

أ-  كبطل:

 في مذكرات نوال الهناوي، يشير السارد أن تهامي  عندما سألها عن من تكتب مذكراتها، أخبرته أنها تكتبها  عنه، باعتباره  هو “باخوس،” وعن مريض آخر،  اتهم بسرقة تمثال باخوس بوليلي،  في إشارة إلى عياش.  23، وكذلك  من خلال الإشارة إلى ما شكله من مظهر للعظمة والفخر، خلال الحقبة الرومانية، حيث جاء على لسان سيلينا” وقف هناك ينتظرني يمين المدخل، بجانب تمثال باخوس الرخامي. ” (132)

ب – كمعلمة من معالم وليلي، ورمزا من رموز عظمتها في (رواية الفتى الموري)، كما جاء أثناء وصف مدار السباق، يقول السارد: “لينعطفوا يمينا راكضين بمحاذاة السور  في اتجاه شرق المدينة في مسار متعرج قبل أن يدلفوا من البوابة الشرقية  حيث يقف تمثال باخوس”(182)

ج- معطى تخييلي

كما تمت الإحالة عليه، في رواية “الفتى الموريي ليتم تضمينه كمعطى في عمل تخييلي “، عبر الاتصال الذي أجراه   وسيط الرجل الأمريكي بجواد الأطلسي” نبهني أن لا أنسى سرقة تمثال باخوس الرخامي الناذر سنة 1982.

د- قطعة أثرية

 باعتباره أهم قطعة أثرية تعرضت للسرقة من طرف مافيا تهريب القطع الأثرية في  ثمانينيات  القرن الماضي، كما جاء في روايتي( ليالي وليلي).

ه- إحالة على الشقاء

ويجلى هذا الأمر في مذكرات نوال الهناوي (باخوس في العيادة)، بما أحالت عليه  دلالته الرمزية من شقاء، وتفكك أسري بالنسبة لعياش الحفيان، حارس الموقع، الذي اتهم بالمساهمة في سرقته، كما جاء في جريدة الواجهة 10 ماي 1982، خبر اختفاء تمثال باخوس من الموقع الأثري وليلي”(149)، وكذلك في عدد جريدة الواجهة 8 ماي 1996، الإشارة إلى “تعرض الموقع الروماني … لسرقة أنفس تحفة كان المغرب يتوفر عليها، هي تمثال باخوس إله الخمر عند الرومان”(214). كما كان سببا في تعاسة سكان فرطاسة وتعرضهم للقمع والتعذيب اثناء التحقيق “تكشف المقتطف الاخباري رواية السكان حول سرقة باخوس، وطريقة تعذيبهم والإرهاب الذي مورس عليهم لانتزاع اعترافات مزيفة منهم” (338)، وهنا نفتح قوسا لنسجل مفارقة طريفة عثرنا عليها بخصوص  موضوع سرقة تمثال باخوس الذي كان سببا في شقاء عياش الحفيان، الذي حاول طوال سنوات، أن يبعد عنه تهمة السرقته،  لكنه قام بسرقة المجسم الصغير. ” عندما غادر عياش لا حظت الطبيبة اختفاء تمثال باخوس الخشبي،… إله الخمر كان موضوعا على مكتب الطبيبة نوال”.(141/142)

و- إحالة على السلوك الباخوسي

في حين سيشكل  السلوك الباخوسي، محاولة  للخلاص، عبر معاقرة الخمر، بدرجات متفاوتة،  من بينها التسبب في الموت ،بالنسبة لوالد تهامي الذي  كان مدمنا على شرب الكحول، ومات بسبب سكتة قلبية، ووصف بكونه” كان رجلا مهزوز الشخصية”(143).

كما لقب  تهامي، نفسه بباخوس ” أنا رجل لا يصحو من سكر  إلا على سكر، أنا باخوس”(205)” فيتعاطى المهدئات، ويسرف في شرب الكحول، وناداه زملاؤه” بباخوس” وهو المجسم الذي كانت الطبيبة النفسية ترى فيه” تجسيدا لمعاناة  كل من تهامي وعياش”( 71).

ز- إحالة على المغامرة الأيروسية

وشكل بالنسبة للأخصائية النفسية، شكل إحالة على رغبة جامحة،ومعبرا  لاقتحام مغامرة ايروسية، عبر معاقرة الخمر،  وحدث ذلك خلال موعدها الغرامي مع تهامي، الذي  دخل “فيلتها ليلا وهو يحمل ” قارورة خمر أبيض معتق” (359)،  و اعتبر طقسا من طقوس الاحتفال، للتعبير عن السعادة بالنسبة لأريادنا نويل في حانة لاكوبل  حين أخبرت تهامي، أنها انتهت من كتابة روايتها الجديدة” ليالي وليلي”. فالبنية السردية الفسيفسائية  تجسد “عالما روائيا خاصا بأجوائه ومناخه ورموزه ومعانيه، وتنوع شخوصه وتحولاتهم، وتنافر” أشيائه” وتجاذبها في اللحظة نفسها. هذا العالم الروائي يلفه الغموض والتشتت والتيهن واللغاز والسرار والشبهات، ويغمره الشك واللاجدوى والمصير المبهم”.

  1. الجانب الإيروسي في الرواية

لعل “أهم ما يميز هذه الكتابة(الايروسية)، كونها كتابة محرمة اجتماعيا وأخلاقيا، أي أنها تمتاز بخاصية الهامش أو بتعبير دقيق تهتم بالحياة الحميمة للبطلة أو البطل( الشخصية المحورية). ويقترن الحميم بالسر الذي ليس سرا في حد ذاته، بل سر من خلال الطبقات التي تراكمت فوقه بفعل الرقابة المتعددة”، وتكشف رواية “الفسيفسائي”، عن جوانب من الممارسات الأيروسية، بين مختلف شخصياتها، في فضاءات مفتوحة ومغلقة، بعضها تم فوق  لوحات فسيفسائية، أو داخل ورشة صناعة الفسيفساء، أو بأماكن أخرى، وشكل “الجسد… المدار الذي تنتظم حوله، كل مكونات الرواية وعناصرها. فهو منبعها ومصبها في الآن نفسه. فهو حاضر في كل تضاعيف الرواية، بل وفي كل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة”.

وقد تمت هذه العلاقات الجسدية مع كل من جواد الأطلسي، وسلينا، وتوسمان،  في  رواية (الفتي الموري) و بين جواد الأطلسي وأريادنا، وسعاد في رواية (ليالي وليلي)، وبين تهامي ولينا، وسعاد، وأريادنا، (ليالي وليلي)، وبين تهامي نوال الهناوي في “مذكرات نوال الهناوي باخوس في العيادة”، وبين هاديس وبرسيفوني، وجريمة إخصاء أيدمون من طرف بوكوس في رواية (الفتى الموري)..فماذا يعني تعدد هذه العلاقات الجنسية مع أكثر من شريك؟، وكيف يمكن الربط بين مكونات اللوحات الفسفسائية، وحرفة الفسيفساء، والعلاقات الجنسية  التي مورست فوقها من قبل شخصيات الأعمال الروائية  الثلاث؟ وبالتالي ما هو السر وراء ارتواء هذه المكعبات الشرسة بدماء العذاروات؟.

لقد برز الجسد الأيروتيكي “باعتباره موضوعة طاغية أكثر مما تبرز الأنواع الأخرى للجسد انسجاما مع التوجه الروائي الجديد الذي اقتحم الطابوهات، بغية خرقها، وكشف الحجب عنها… وسيقود هذا التوجه إلى وضع الجسد داخل النص باعتباره الشخصية الرئيسية، التي تتحدد عبرها وفيها كل الشخصيات القاطنة للعالم الروائي”..

فالبطل أيدمون تعرض لمحاولة الاغتصاب من طرف مشغله بوكوس الحداد، ووصف  تلك اللحظة بقوله “وحش ضخم يعلو جسدي. كتلة لحمية لا أقوى على زحزحتها من فوقي” (124)، وسينخرط بدوره في فسيفساء اللذة، بعد امتهانه لحرفة الفسيفساء، حيث يقول السارد “فانخرطت بسلاسة في فسيفساء اللذة التي ساقتها إلي صنعة المكعبات الشرسة”(312)، والمعلم تهامي الذي اغتصب تلميذته سعاد، وعاشر نساء أخريات، كان هو الآخر فسيفسائيا محترفا، تعلم في ورشة خاله بفاس، كما  برع في الربط بين مكونات أكثر من رواية ضمن ملحقه الفسفسائي، بعدما سرقها من فسيفسائيين آخرين. كما وقفنا على ارتواء اللوحات الفسيفسائية بدم عذراوات، من خلال ثلاث وقائع:

 الواقعة الأولى: حدثت في البيت القديم بين سعاد وتهامي، عندما أسرت لجواد الأطلسي بلحظة اغتصابها “أخذني المعلم تهامي، ونعسني على المرأة السمراء، ونعس هو فوفي. وعندما نهض كانت هناك بقعة حمراء، بين ساقي  المرأة السمراء المرسومة على أرضية الفسيفساء” (164).

  الواقعة الثانية: حدثت بين أيدمون والخادمة توسمان، فوق اللوحة الفسيفسائية للمحارب الموري الذي يطعن قائدا رومانيا يلبس التوكا، والتي كان سالبوس قد طلب من أيدمون أن ينجزها له.  وهي مستوحاة  من إنيادة فيرجيل.  جاء على لسان ايدمون:” وأنا أقف أرتدي سروالي، حانت مني التفاتة إلى اللوحة الفسيفسائية، إلى مكان اضطجاعنا، كانت بين المكعبات بقعة دماء سالت وتسربت لائدة بالفراغات بين المكعبات” (313).

 الواقعة الثالثة: تجلت بعد إخصاء أيدمون، حين أسر في نفسه مخاطبا سيلينا متحسرا” أن مجرد أنثى نزفت مثلما نزفت على فسيفساء بريسفوني آلهة الربيع”(328). دون أن ننسى التهديد بالإخصاء الذي تعرض له جواد الأطلسي من طرف الشخصين اللذان أرسلهما تهامي، من أجل سرقة مخطوط رواية “الفتي الموري”، يقول السارد: “ثم مد السكين على حجري، فأحسست وخز النصل بين ساقي، وأردف: أو سأنتزع خصيتيك أيها الكاتب، سيكون ملهما أن تكتب دون خصيتين، أليس كذلك؟”(228)

” وبامتداد صورة الاستيهام الشبقي يزداد التوسل بالإمكانات الاستعارية في تجسيد الموقف. فاللغة هنا لا تصوغ لفظا ما ينتجه الجسد حركة، لتكون الدلالة المعادل التصوري لوضع غير لغوي، بل تسكبه في قالب تجريدي ممعن في اللاتحديد، يفجر الموقف الآتي ويعممه، ويجعله قابلا لأن تستوعب، من قبل متلق قادر على المتابعة الذهنية المتأنية، لتأويل الصورة، بعد أن لم يزود إلا بقدر أدنى من الخطاطات والعلامات النصية الدالة “فمظاهر الأيروسية، ستغدو واضحة المعالم من خلال أحداث الرواية، وستتجسد في سياقات مختلفة، منها ما اتخذ مسار علاقة حب وإعجاب، كما هو الأمر بالنسبة لسيلينا، مع أيدمون، وتم الكشف عنها من زاويتين:

تقول سيلسنا” رفعني أيدمون من وسطي وأجلسني على المنضدة الخشبية العريضة التي تتوسط المحل وشرع يقبلني. وكنت لحظتها أحلق خفيضة فوق بحور النشوة وبراريها” (318)، وكذلك وفق منظور أيدمون” أدنو منها وأحملها بين ذراعي. أرفعها، تماما مثلما فعل هاديس ببرسيفوني في الفسيفساء النائمة تحتنا” (243). أو اتخذت صفة علاقة رضائية كما حدث بين توسمان، وأيدمون في رواية الفتى الموري، وعلاقة جواد الأطلسي بسعاد، وكذلك مع أريادنا نويل الكاتبة الأمريكية. في “ليالي وليلي”. ف“صورة الجموح النزوي ذات هيمنة ونفسية ممتدة في جسد النص، وذات حضور مباشر ورمزي في جميع الفضاءات ،وفي اليقظة والاستيهام والحلم. ويمثل الاشتهاء الجسدي في الصورة النوية نواة ملتقى غامض بين عدة علامات وشخصيات.”

في حين ستتعدد علاقات تهامي الإسماعيلي الجنسية، مع أكثر من شريك، خارج إطارها الشرعي، بدء بالروائية الأمريكية لينا تومبان، بعد وفاة زوجها  الدليل السياحي صالح، والتي قال عنها” عرفت كثيرات، غير أن واحدة منهن ظلت الفضلى والأكثر إغواء، كانت أمريكية ولم أنسها حتى بعد زواجي بزهرة، اسمها لينا” (275)، وهي علاقة “طوحت بهما نحو السرير” (278) وكذلك مع تلميذته سعاد “رزاني في شرفي الله يرزيه” (221). وفي مذكرات باخوس في العيادة، تمت الإشارة إلى علاقته بطبيبته النفسية نوال الهناوي، حيث تقول: “أسندني برفق إلى بياض السرير وشرع يعزف بأنامله على مواطن وجعي” (350)، وهي عملية ستتكرر من خلال لقاء ثان، كما جاء على لسان البطل “بعد رحلة عذبة وشاقة في منافي اللذة، انطرحنا على السرير مكدودين من تعب التمدد والانتشاء”(366)، ومع الروائية الأمريكية أريادنا نويل، حيث جاءت إشارات في ملحق الفسيفسائي عندما ” رافقها إلى بيتها بزرهون وأكملا السهرة هناك” (425) قبل أن يقدم على خنقها.

كما تمت الإشارة إلى هذا الجانب الإيروسي في أسطورة هاديس وبرسيفوني، من خلال استلهام  أصوات، وأصداء صرخات بيرسيفوني، عند وصف سيلينا للوحة، التي تجسد مشهد احتجاز بيرسيفوني من طرف هاديس ” أكاد أسمع صراخ برسيفوني العالقة بين تينك الذراعين القويين، وهي تستغيث بالحوريات المرعوبات”. (200)، فحضور البعد الإيروسي شكل جانبا من مكونات اللوحة الفسيفسائية الكبرى التي تشكلت منها الرواية. لنستنتج مما سبق، أن “الأدب الأيروتيكي معرفة(فاكهة) محرمة اقترنت بالفضيحة، واقترنت بالهامش، فمن حيث مكوناته البنيوية أدب رفيع، أما من حيث موضوعاته فهو أدب مدنس”، وربما سيدفعنا هذا الأمر إلى ضرورة وضع  بعض شخصياتها  على سرير التشريح النفسي.

  • شخصيات الرواية على سرير التشريح النفسي:

” يكمن التكامل الكائن بين المنهج الأدبي، الذي صور الانسان وعلاقاته مع ذاته ومع الآخرين، وبين التحليل النفسي، الذي حاول إخراج هذه الصورة في تكامل منهج علمي. ” ولعل أفكار فرويد عن قوى العقل المكبوتة، هو ما جعل الأدباء والنقاد، يعجبون بأفكاره، مما فاق بكثير إعجاب العلماء والمحللين النفسيين”. ولعل مقاربة الجوانب النفسية لشخصيات الرواية، يعد مغامرة محفوفة بالكثير من الخطورة، ويصعب إنجازها بالدقة المطلوبة، ف”الفنان الأديب، والمحلل النفساني شخصان متوازيان” في ارتباط الحقائق التي تشكل هذه الحياة، وشكل علاقة الإنسان بها ( ..) وليسا متداخلين”…

ويعتبر التحليل النفسي “مثل الفن في حيازة العالمي، من خلال البحث في الفردي، مع اختلاف آليات عمليهما، حيث أن الأول يعتمد على التحليل، في حين أن الثاتي يعتمد على التركيب والتأليف”  ويرى البعض أنه على الكاتب من “خلال عرضه لواقع التجربة الإنسانية لدى الشخصية، أن يقف على طبيعة الكائن البشري، وكيفية إدراكه لغاياته، والدوافع التي تحركه، فيظهرها كخلاصة مصفاة، مركزة للطبيعة الإنسانية برمتها” لكنها تبقى المحاولة أمرا  لا مناص منها ،  للكشف عن معاناة هذا الكائن،  كالمرأة  مثلا، ومعرفة كيف تشكلت صورتها  إلى جانب ما مورس عليها من تأثير من طرف باقي الشخصيات، في إطار من نوع التفاعل ، والتجاذب،  والتنافر؟

و “يمكن أن نبرز العلاقة بين التحليل النفسي والأدب، من زاوية اهتمام الأول باللاشعور، واهتمام الثاني بالتعامل مع الذات والعالم الخارجي. “و”شخصيات الرواية كثيرة ومتعددة، وهي ليست شخصيات روائية بالمعنى المألوف، فهي مجرد أسماء أو أطياف أو رموز أو حالات. فهي لا تتمتع بأبعاد محددة، بل تراها تتمرد على أي تحديد أو تقييج من أي نوع. وكثيرا ما تتغير أسماؤها أو أحوالها، وتتعارض مواقفها وتتباين أقوالها. فالذات الواحدة، تنطوي على أكثر من ذات، حسب اللحظة والحالة، فهي تخرج  من ذاتها مثل” الثعابين” وتعكس أكثر من ظل وتتمتع بحيوات عديدة وتعيش في أمكنة مختلفة وعصور متنوعة !

جواد الأطلسي: برز كشخصية خدومة ومسالمة،  شاب طموح  مهووس بالكتابة، عاش طفولة. تميز بعلاقته المتينة مع النساء كشخص محبوب ومقبول، ويعمل باستمرار على إثبات ذاته عن طريق الكتابة. ” يشتغل بحقل التعليم. شاب قدم  من قرية أطلسية، إلى  وليلي التي لا تختلف عن  قريته سوى أنها” تجاور موقعا أثريا مفخخا بالتاريخ” (87) ومن خلال”روايات” الفسيفسائي نعثر على نتفا من سيرته الذاتية، يقول السارد “تذكر الطفل الذي كانه بالقرية الأطلسية وأمتلأ أنفه بهوائها القاسي”(87)، أو من خلال سرده بنفسه لبعض القصص عن طفولته، بحيث “يحكي عن قصة التلميذ أيمن، ومن خلالها يسرد لحظات طفولته القاسية، والوادي الذي كاد أن يقتله لولا شجرة الدفلى التي أنقذت حياته. تعرض للعنف، وتم السطو على مسودة روايته” الفتى الموري” وتم إخصاء حلمه الأدبي بالقوة.

أريادنا نويل: امرأة مطلقة، عانت في صمت مع زوج لم يكن يقدر موهبتها فتطلقت منه. فضلت السفر لدراسة الفسيفساء الرومانية بشمال إفريقيا، وهي كاتبة روائية موهوبة. تعرضت للقتل في النهاية من طرف تهامي.

سعاد: عانت من عقدة الاغتصاب الذي تعرضت له على يد معلمها تهامي  بالقرية، وهي لا تزال فتاة قاصر. وخاضت تجربة زواج فاشلة، بدون حب لمدراة فضيحتها مع شخص عاشور، فعانت من قسوة الهجر ومن الكبت. والحرمان . فالبكارة ” هي البوابة التي منها يعبر الزواج نحو الديمومة والصلابة، لذلك فالرواية العربية تستعير هذه الشعيرة الاحتفالية، لإقحامها في نسق التفكير النقدي في القضايا المجتمعية الراهنة، التي تعتبر أسئلة ملحة، تقض مضجع القراء، بوصفهم مانحي الدلالة للنص، أو باعتبارهم عناصر داخل منظومة، لها تقاليد وأعراف، يصعب التنصل منها”.

عاشور: برز كشخصية مقهورة، ووصف  ب”عاشور الأهبل” لأنه كان يحب “سعاد” بجنون. يشعر بعقدة تعرضه للنصب، والاحتيال من طرف المرأة التي أحبها بجنون، واختارها أن تكون زوجة، فوضعته أمام الأمر الواقع ليلة الدخلة، وتقبل حقيقة افتضاض بكارتها على مضض. وراودته شكوك حول الأمر، وهو ما أحدث شرخا كبيرا في حياتهما الزوجية بعد ذلك. فهجرها لمدة طويلة. “رحل عاشور وانقطعت أخباره”.(170)

أيدمون: هو من السكان الأصليين، تحولت أسرته  المورية من أعلى الهرم الاجتماعي إلى أسفله بعد دخول  المستعمر الروماني إلى وليلي.  اشتغل بعدة حرف( الرعي، والنجارة والحدادة..) . تعرض إلى محاولة الاغتصاب من طرف مشغله بوكوس الحداد لما كان متعلما بورشته(124) احترف صنعة الفسيفساء، التي أنقدت حياته، بعدما  برع فيها إلى حد كبير. تعلق بسيلينا، تعرض لاعتداء شنيع من طرف بكوس الحداد بمساعدة ماركوس وكلاوديوس في نهاية الرواية، بعدما سحلاه على الأرض، واقتادوه إلى أحد الأكواخ، وقاموا بإخصائه بمساعدة الحداد بوكوس الذي شببه أيدمون بملاك الجحيم، كشيطان. (322) و”سيعاني من عقدة الاخصاء. ” و”يشكل هذا السلوك قمة الانتهاك للكرامة الإنسانية…

هذا العنف الممارس على الجسد البشري من أجل إذلاله وإخضاعه، وبما أن رمز الفحولة الجنسية عند الرجل هو قمة كرامته، فإن انتزاعه يجسد أكبر جريمة في حق الذات، وفي حق الجسد الذي كرمته الطبيعة، خاصة حينما تربط فعل الاغتصاب وانتهاك الحرمات الجسدية”، ومن خلال دلالة الاسم فإنه يعود تاريخيا لقائد موري  أمازيغي، ثار ضد الحكم الروماني، الذي كان يمتلك أقوى جيش نظامي خلال القرن الثالث والرابع الميلادي. وزعزع حسب الدارسين عرش روما حينئذ. وتعتبر ثورته ثورة مغربية بامتياز، وبسببها قسم الرومان إمبراطوريتهم الاستعمارية إلى قسمين: موريطانيا الطنجية وعاصمتها طنجة، وموريطانيا القيصرية وعاصمتها شرشال.

سيلينا: فتاة من أسرة رومانية نزحت نحو وليلي، وقدمت لها الدولة مجموعة من الامتيازات من أجل الاستقرار. شكلت نموذجا للحبيبة المخلصة، والمثالية. فضلت الارتباط بفتى موري بعدما أعجبت بمروءته، ونبوغه الفني، على غيره من شبان وليلي. وجنودها الرومانيين. لم يدم ارتباطها بها طويلا حتى اضطر للغياب بشكل قصري.

بوكوس: يبرز كشخصية قبيحة، وماكرة، انتقم من أيدمون الذي رفض الخضوع له، عندما رواده عن نفسه، تآمر عليه مع حاسده الصبي بالورشة كلاوديوس، ومع غريمه الجندي ماركوس وقاموا بالاعتداء عليه، وإخصائه.

فلافيوس: فنان فسيفساء روماني شهير يرجع له الفضل في تعليم أيدمون تقنياتها.

توسمان: شابة تعيش في كنف أسرة مورية، وتعمل  عندها كخادمة. تعلقت بأيدمون عندما كان ينجز لوحة فسيفسائية في بيت سيدها، أهدته جسدها لإعجابها  وتعلقها به.

سالبوس: يمثل  برمزيته إلى جانب المقاومة الجبلية، رمزا لحلم الشعب الموري الأمازيغي العظيم، و نزوعه نحو الاستقلال، والحرية، عبر رغبته  في تخليص ذاته المستعبدة، وقد جسد ذلك بل خلده على اللوحة الفسيفسائية التي صنعها له أيدمون بأرضية بيته” لوحة المحارب الموري الذي يطعن قائد رومانيا  يلبس التوكا بسكين”. ولعل دلالة هذا الاسم تتقاطع في  رمزيتها وإحالتها التاريخية،على زعيم قبيلة مورية، برز كثائر، انتفض ضد الرومان، وخاض معهم حروبا ضروسا انتهت بمعاهدة سلام، لكنه تعرض للخيانة من طرف شيوخ بعض القبائل المورية، ولا نعرف مآله، ونفس الأمر حدث مع ايدمون الذي سبقت انتفاضته تاريخيا ثورة سالبوس.

ماركوس: جندي مخبول، طارد سيلسنا، ويغار من ايدمون، فأهانه أمامها. فانتقم منه بمساعدة بوكوس وفلافيوس” اعرف أن أمثالك يتبولون في سراويلهم إذا ما رأوا شبحا في الظلام” (316)، ويتطابق اسمه مع اسم امبراطور روماني كبير.

عياش الحفيان: شخص مقهور، عاني من توارد التجارب القاسية على ذهنه، وهي ناتجة عن مدة الجبس الطويل. عاني من التفكك العائلي بعدما هجرته زوجته وطلبت الطلاق. ولم يتبق له سوى ابنه مهدي. طلبت منه معالجته النفسية نوال الهناوي، أن يتحمل قدره… وقدمت له عشر وصايا للعلاج.  ليتمكن من التخلص من عبء سنوات السجن ظلما. فعمليات التدمير النفسي التي تمارس من خلال التعذيب… وتستهدف النيل من نواة الكيان الإنساني في حميميته وخصوصيته. كما يطال الاعتقال وممارسة فنون التعذيب.(1) “وسرقة عياش لمجسم تمثال باخوس الخشبي سيزيد في نظرنا من تعميق مأساته،  دون أن يقدر  على إبعاد التهمة عن شخصه،  وستظل ملتصقة به إلى الأبد.

 تهامـي:  شخصية بأكثر من قناع، تعرفنا عليه  كمغتصب لفتاة قاصر  (سعاد)،  في رواية “ليالي وليلي”، وكمدير بالنسبة لجواد الأطلسي بشخصية غامضة جدا، عندما هنأه “سعيد لأنك أنهيت كتابة رواية أخرى”(222)، وكزير نساء و رجل غامض. من وجهة نظر جواد الأطلسي  الذي قال عنه:” لم أر في عينيه، ظلا للطفلة سعاد، ولا أثر للعشيقة الأمريكية لينا.. وهو بئر من الأسرار، وحقل ملغوم، رجل لديه حس مراقبة حاد جدا”(221) في رواية “الفتى الموري”. وكمشروع مجرم محترف، بعد حاثة قتل ابنه سامي، ومعاناته مع الإدمان، في مذكرات نوال الهناوي باخوس في العيادة، وكقاتل محترف بعد تنفيذ جريمته وقتله للروائية الأمريكية أريادنا نويل ببيتها بزرهون، في رواية “ملحق الفسيفسائي”.  وكفسيفسائي، ليبرز في النهاية كمريض نفسي، بامتياز.

عاش طفولة قاسية، حسب ما جاء في مذكرات الطبيبة النفسية نوال الهناوي، ولم ينقده من: ” قسوتها سوى صنعة الفسيفساء”(142) عندما بلغ المستوى الدراسي الإعدادي، أرسلته أمه عند خاله الذي يسكن ضواحي فاس، حيث كان يمتلك ورشة فسيفساء”(142/143) فعلمه أسرار صنعتها حتى أصبح بارعا فيها”. ثم مال لبث أن أستغني عن ترسيمات خاله، بعد أن شجعه على إطلاق العنان لخياله، فأبدع لوحاته الخاصة” (152) حاول الانتحار، لكنه تراجع في اللحظة، وهي ملاحظة “سجلها أحد الرعاة.(278) بعد قتله لابنه سامي بسبب ما كان يعانيه مع الكوابيس “طفقت ذاكرتي تضخ نسخا من صور الكابوس” (282)، ويعتبر الانتحار “كرد فعل مجوشي ضد الذات. وهو خروج عن المألوف وتحول من صراع ضد الذات إلى صراع مع الطبيعة ومع الثقافة. فالطبيعة تفرض أن يموت الشخص بشكل طبيعي عادي، وترفض أن ينهي تواجده الأنطولوجي بمحض إرادته، وإجبار الجسد على الاندثار والاختفاء، ظنا منه أنه ينهي المأساة لانتفاء الجسد ماديا”.

واكتشفت الطبيبة نوال الهناوي، أن ضعف شخصية تهامي، جاءت نتيجة معاناته الكثيرة، من نبد والده السكير وإهانته وردعه له، ولباقي أفراد الأسرة، “لم ننل منه أنا وأخواي وأمي غير الضرب المبرح والإهانات”(143)، واستخلصت من تصرفاته العدوانية والسادية في الطفولة جاءت نتيجة دوافع غريزية كامنة، أخفق في ترويضها وجعلها أنماط سلوكية مقبولة، حتى صار على أبواب السوك الإجرامي بتلك الأفعالمن قتل للحيوانات كالقطط والكلاب والدجاج وفصل “رؤوسها عن الجسد وأرميها”(144) ونصحته بأن يتقبل ماضيه، وما هو عليه “سيفيدك الأمر” (284).

وستتأكد توقعات الطبيبة عندما فكر تهامي في قتل أريادنا نويل وقرر سرقة مذكراتها “ليالي وليلي”، خوفا من أن تفضح سره هو والأمريكية لينا تومبان، ” هذا الوجه البيضاوي سيغيب عني حتما منذ هذه الليلة، تماما كما غاب وجه سامي، أو بالأحرى كما غيبته” (434)، وهنا نستحضر ما قالته له معالجته النفسية ” لقد قتلت من قبل يا تهامين ولم تكن قاتلا بإرادتك، وها أنت تقتل مرة أخرى وبلا رحمة”… التحليل النفسي للجريمة يقول إنها ترتكب من أجل إشباع حاجة ملحة للعقاب، لكي يتخلص مرتكبها من مشاعر الذنب الناتجة عن خطأ اقترفه في مرحلة من مراحل حياته، خاصة في الطفولة” (434/435/436)، فالأب “الذي لم يستطع الطفل اجتياف صورته، يستقطب كل العدوانية الذاتية لهذا الطفل، مما يجعله يبدو قاسيا مهددا، معاقبا، لا يقاوم ولا يجابه.

ومن هنا بروز عقد النقص والعجز والعار التي تعكس وضعية الخصاء”  كما  سبق له أن فعل مع مسودة رواية جواد الأطلسي ” الفتى الموري” ومذكرات طبيبته نوال الهناوي” باخوس في العيادة”” لعل هذا ما حصل عندما وجدتني أسلك أوعر السبل لأحصل على مذكرات طبيبتي النفسية فأسلبها إياها 353، لأنها استطاعت.. أن تصور بالكتابة، ما عجز هو عنه”(353) نسخ ملف رواية” باخوس في العيادة”في قرص مرن، ومسحه من الحاسوب. (361) وقام بطمس معالم جريمة  قتل أريادنا نويل، التي تتناص ووقائعها مع فيلم” سايكو” لهيتشكوك”(437)، بحيث سيتفاجأ المجرم من قدرته على محاكاة بطل الفيلم” كانت محاكاة دقيقة للقطة مشهد الحمام الأخير في فيلم سايكو”(438) .

لينا تومبان : صاحبة  البيت القديم، قرب الموقع الأثري بفرطاسة بزرهون، وهو بيت به أرضيته لوحة فسيفسائية، تسكن زائرها سر الفسيفساء. (384) تزوجت من دليل سياحي اسمه صالح، لكنه توفي بعد سقوطه داخل حفرة عميقة، ولم يجدوا له أثرا. فغادرت المغرب بعد أن تركت البيت في عهدة تهامي. كانت هي الشخصية التي تتحكم في مجريات أحداث رواية “الفسيفسائي”.  فهي التي أرسلت أريادنا نويل إلى وليلي، عندما التقت بها في بوسطن، وأخبرت  تهامي بذلك “تمة كاتبة روائية أمريكية عرفتها حديثا تنوي زيارة وليلي لاستلهام فسيفساء الرومان في روايتها، وقد حدثها عن الفسيفساء المنهوبة من الموقع. وقلت لها إن هناك فسيفساء غريبة شبيهة بتابلوه فسيفسائي بديع، أرتني صوته على حاسوبها، وكانت قد التقطت صورة التابلوه بمتحف اللوفر.”(393)،  وظلت بعيدة عن الأنظار، وسيتأكد هذا الأمر من خلال ما دار من حديث، بينها وبين تهامي حين  أسر لها أنه تمكن من الحصول على مخطوطة رواية “الفتى الموري” التي اعتبرها “تحفة حقيقية …. لا تمل قراءتها”(39)، وبالمقابل أخبرته أنها أعطت رقم هاتفه  لكاتبة أمريكية  تدعى أريادني نويل، تنوي زيارة وليلي لتتصل به.  فطلب منها أن تعطيه “لقاطن البيت جواد، كي لا ينكشف أمرهما في لعبة الابتزاز الأدبي. ” وتوجه إليه أصابع الاتهام”.(393)

كما كشفت أحداث الرواية “ليالي وليلي”، عن تورطها، من خلال الرقم الهاتفي الذي كانت تتصل به مع جواد، عبر وسيط آخر. وأنها هي التي كانت تمسك بخيوط اللعبة من الخلف بوليلي، دون أن تنكشف هويتها، بعدما أوكلت حق التصرف “إلى رجل آخر، وهو كاتب مغمور،  وفاشل.” لم يكن سوى تهامي. ويبرز هذا الأمر من خلال هذا المقطع “لا شك عزيزي القارئ أنك خمنت نواياي الأدبية” الخبيثة” ولا شك في أنك تذكرت الأمريكية القادمة. تلك الكاتبة المدعوة أريادنا، التي أخبرتني لينا أنها آتية نمن بوسطن مسحوبة خلق لوحة فسيفسائية وليلية ناقصة، ربما أعثر مستقبلا، في حقيبتها على مخطوطة تليق بأن تملأ حيز التابلوه الفسيفسائي الثالث. أو على الأقل تدلني على مخرج من هذه المتاهة الفسيفسائية التي ضعت بين حصياتها.” (397)، كما تبرز كشخصية ذات أنشطة مشبوهة” حين تحدث أريادنا نويل لجواد عن اللوحة الفسيفسائية التي “سرقت من الموقع الأثري المجاور، وزرعت في أرض هذا البيت… وحده الله يعلم ما فعلت الامريكية بهذا البيت؟” (173)،  لنستنتج أن تهامي كان مجرد أذاة فتاكة  تسير عن بعد، بواسطة فسيفسائي أكبر هي لينا تومبان.

نوال الهناوي: طبيبة نفسية رغم ما كانت تتظاهر به من صرامة ومهنية، تورطت في غرام أحد مرضاها، تهامي الاسماعلي، وكشفت أحداث الرواية عن انصياعها عن طواعية ورضى، منذ أول لقاء لها وأبدت استعداداها النفسي لتحول منه لقاء غراميا، وهي تغوي مريضها، وقررت أن تنسى مهنتها كطبيبة نفسية، وتنصت لنداء الأنثى التي بداخلها” تقول “حتى لباسي كان متواطئا مع اللاشيء الذي سكنني” (346) وبررت موقفها من كونها تطبق فكرة فرويد من خلال علاج المرضى بالحب. .”إن أنا ملت لتهامي فلن أكون المعالجة النفسية الأولى أو الأخيرة، من بين اللائي كسرن القاعدة، وتورطن في علاقات غرامية مع مرضاهن”(335) لتقيم معه أكثر من علاقة جنسية. 

ولمسنا مدى ارتباكها وحيرتها وهي تقر بكونها مريضة نفسية هي الأخرى:” تختلط عندي مشار التعاطف مع المرضى والإحساس بالفشل. فأجدني في النهاية، أنا الطبيبة النفسية في حاجة إلى علاج” (358). “إن الفنان الأديب والمحلل النفساني شخصان متوازيان” في ارتباط الحقائق التي تشكل هذه الحياة وشكل علاقة الإنسان بها ( ..) وليسا متداخلين” ويعتبر التحليل النفسي “مثل الفن في حيازة العالمي من خلال البحث في الفردي، مع اختلاف آليات عمليهما، حيث أن الأول يعتمد على التحليل، في حين أن الثاتي يعتمد على التركيب والتأليف” (2).

ولعل  هذا البسط المتواضع، سيدفعنا لطرح مجموعة من الأسئلة من قبيل: لماذا أصرت لينا تومبان على إرسال أريادنا نويل إلى  وليلي؟ وما سر تعلقها بالفسيفساء الرومانية؟  ولماذا كل هذا الاهتمام الذي تعيره للبيت القديم الذي تعرف لعنته مسبقا؟ ألا يمكن  اعتبار هذه الشخصية هي المعبر الرئيسي للنهب الممنهج لتراث وليلي نحو متاحف أوربا؟

فالشخصية الروائية “تتميز على وجه العموم بكونها ذات محتوى سيكولوجي خصب، ومعقد معا، فهي تحبل بالتوترات، والانفعالات النفسية، التي تغذيها دوافع داخلية، نلمس أثرها فيما تمارسه من سلوك، وما تقوم به من أفعال، ومن جانب آخر فهي تعاني من تناقضات في تركيبها النفسي، تؤدي بها إلى الاستسلام للنزوات، والانقياد للرغبات الدفينة، وتجعلها، نتيجة لذلك، تفتقد إلى التناسق الضروري لكل شخصية سوية. ويترتب عن هذا كله، تلك الصعوبة التي تصادفها في إقامة علاقات سليمة، وصحية مع الآخرين، إننا لا نكتشف خاصية “الكثافة السيكولوجية” إلا من خلال علاقتها المؤثرة بمن يحيطون بها، أو يقعون تحت تأثيرها “وقد تمكنا من الوقوف على  مجموعة من التقاطعات، حول الوجع المشترك لبعض شخصيات الرواية، فمعاناة أريادنا نويل، هي نفس معاناة الطبيبة نوال الهناوي، وكذلك سعاد أم أيمن مع زوجها عاشور.

وكشف تهامي أن أريادنا كانت تعاني يوميا جحيما مع رجل لم يقدر أي شيء في حياتهاـ، يلومها ويقسو عليها بسبب انصرافها إلى الكتابة وتفرغها لها” “كانت إهانات بالجملة تلك التي وجهها إلي لكني لم أنكسر، ولم أتفاجأ عندما اختفى من حياتي” (425)، في حين يمكن إيعاز استسلام الطبيبة نوال الهناوي، للإهمال والهجر، الذين تعرضت لهما من قبل زوجها، وهو ما عبرت عنه تساؤلات تهامي عندما لاحظ شبقيتها، وجاءت على شكل منولوغ “من أي نار قدت أنفاس هذه المرأة.؟ من أي معدن عجن جلدها الحار، كظهائر تموز المفرطة القيظ؟ امرأة بهذه الحرارة، حاشا أن تهجر.. حاشا أن يختار زوجها النأي عن سرير دافئ كهذا، ليلة واحدة، فكيف به يعانق الغياب أسابيع بحجة العمل؟ (360).

في حين  برزت معاناة سعاد وكبتها بعد الصدمة، بسبب الشرخ الذي حدث بينها وبين زوجها عاشور، وشكوكه الحائمة حول “شرفها”. وما فتئ الشرخ يكبر ويكبر بعد سنة من الزواج” (170)، وهو ما يبرر علاقاتها الجنسية التي بدت مألوفة مع جواد الأطلسي. وغيره، لما قدمت إلى بيته، ولاحظ أن سلطة المكان لم تهيمن عليها “مسحت بيدها على عنقي ووجهي وقبلت فمي. ولم ننتظر. سبقتنا اللهفة ونصت الثياب في غرفة المعيشة واسقطتنا صرعى حمى الجسد” (59)، وستتكرر زيارته إلى بيتها بعد ذلك حتى ضبطه أيمن عاريا في حضن أمه فوق السرير. وتزامن ذلك، مع عودة عاشور من غيبته الطويلة عشية ذلك اليوم. في حين يمكن اعتبار علاقة توسمان  بأيدمون، بكونها علاقة عابرة،  بالمقارنة مع اندفاعها، ونموها الجسدي،  خلال مراهقتها الجامحة. في حين سيعاني أيدمون، من عقدة الإخصاء، وقد تملكه الإحساس بأنه تحول إلى أنثى بالقوة. “.

 وعموما، ومهما يكن حجم الفائدة التي يجنيها الكاتب من استلهام المعطيات السيكولوجية في تصوير حياة الشخصية الروائية، فإنها لا يمكن أن تعوض الوصف الدقيق لواقع التجربة الإنسانية لدينا، والتي من خلالها ينقل لنا انفعالات الشخصية، والدوافع الداخلية التي تغذيها”

لعنة البيت القديم

سنلاحظ أن أغلب شخصيات الرواية، قد تأثرت من قريب، أو من بعيد بلعنة هذا البيت القديم، الذي كانت تنام على أرضيته لوحة فسيفسائية مسروقة من الموقع الأثري وليلي، بيت شغرته العديد من شخصيات الرواية، واتخذه  بعضها ملاذا أثيرا له، وكل من كان يقترب منه، أو يستقر به، يحدث له سوء، أو لفرد من أفراد عائلته، أو لأحد من المتواجدين بمحيطه. فهو البيت الذي مات فيه سامي الابن الوحيد لتهامي دهسا تحت عجلات السيارة. ومات مالكه الأول صالح زوج لينا بعدما سقط في جب عميق. وفيه تعرض جواد للتهديد بالإخصاء، وسرق منه مخطوط روايته. أضف إلى ذلك أنه كما كان مهدا لمجوعة من العلاقات الجنسية المشبوهة: بين كل من تهامي وسعاد. وسعاد وجواد، ولينا وجواد ..، وموت أرديانا الأمريكية التي كانت على علاقة مع  أحد قاطنيه جواد الأطلسي.

في الأخير لا بد من الإشارة إلى كون رواية “الفسيفسائي”، تمكنت من خلال مراهنتها على التجريب، أن تقدم لنا عالما مفعما بالتشويق والإثارة، وفق معمار فسيفسائي، متناسق جسد ببراعة في عتباتها النصية، سواء الداخلية أو الخارجية، أومن خلال غلافها، ومقتبساتها الدالة والعميقة التي تتناسب وموضوع الروايات الثلاث المدرجة بشكل فسيفسائي، إلى جانب المذكرة، والملحق، وفق ترتيب يتماشى ورؤية الكاتب، داخل حيز مجالي محدد تميز بثابت جغرافيته، وتمطط زمنه الساحر. وليلي العابقة بأنفاس التاريخ والأساطير، والفنون، والأحداث المثيرة.

كأرض لا تزال تعيش على وقع الألم، منذ عهود خلت، ألم ظل يتجدد مع كل حقبة، حاول الكاتب نحت مواضيعها بعناية  لكي تبرز معالمها عبر التشظي، بما أحال عليه من وجع، اتخذت محورا لها الذات  الانسانية ، وجسدت نظرتها للواقع وللمحيط، وعكست مواقفها بكل حرية  من قضايا عصرها. إنها تجليات، ذات الإنسان المغربي المتشبث بقضاياه الوطنية وبهوياته المتعددة، المتناسقة والمتكاملة، التي تنصهر مكوناتها العربية والأمازيغية والإسلامية، والافريقية، والأندلسية، في بوتقة واحدة، جسدها فن الفسيفساء، وعكس جمالها الذي أفرز لنا شخصية مغربية متفردة.

 ـــــــــــــــــــــــــ

هوامش

1 مصطفى حجازي، الإنسان المهدور، دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، ص 127، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2005
2 بشرى سعيدي، نظريات التحليل النفسي والمسرح، ص25
مراجع وإحالات
  • عيسى ناصري، الفسيفسائي، رواية منشورات ميسكلياني، الطبعة الأولى الثالثة، الجزائر 2023
  • إبراهيم الحجري” المتخيل الروائي العربي” الجسد، الهوية، الآخر” مقاربة سردية أنتروبولوجية. محاكاة للدراسات والنشر والتوزيع الطبعة الأولى 2013
  • أحمد فرشوخ، تأويل النص الروائي- السرد بين الثقافة والنسق- طوب إديسيون، الطبعة الأولى ،2006
  • بشرى سعيدي، نظريات التحليل النفسي والمسرح، دار غيداء للنشر والتوزيع، 2016
  • حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، الفضاء- الزمن- الشخصية، المركز الثقافي العربي، طبعة2 ، 2009
  • شكري عزيز ماضي، أنماط الرواية العربية الجديدة، عالم المعرفة الكويت ،2008
  • عبد الرحيم الإدريسي، الصورة النزوية والجدل النوعي، مقال، مجلة مجرة العدد 12، 2007
  • محمد معتصم، المتخيل المختلف دراسات تأويلية في الرواية العربية المعاصرة، منشورات ضفاف ،2014
  • مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي الطبعة الثامنة، 2001
  • مصطفى حجازي، الإنسان المهدور، دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، المركز الثقافي العربي،الطبعة الأولى ، 2005
(°) روائي، قاص وناقد
error: