- المكي أكنوز (°)
لم يكن اقتناص موعد اللقاء مع ذ. سي محمد شرف العلوي بالأمر السهل، ومن خلال رغبة ذ. سي بوعبيد البرازي في محاورته عن مساره الرياضي، عبر موعد معه، يوم الثلاثاء 17 شتنبر 2024، حضرت في الموعد المضروب، وسط مشاعر متلاطمة من التوتر، فإذا بالأستاذ سي محمد شرف العلوي، يخرج من بيته، المتواجد بالحي الإداري بخنيفرة، بأناقته المعهودة، وأقبل نحوي، وعلى وجهه ابتسامة زودتني بشيء من الاطمئنان، أقبل علي وطوق كتفي بيده اليسرى، واحتضنته كله بيدي وجوارحي، وهو يقول بصوت متهدج: ” نهار كبير هذا مرحبا ابا المكي”، عندما صافحته اعتراني إحساس بأنني أصافح روح محمد رويشة.
سي محمد شرف العلوي، هكذا عرف بهذا الاسم الثنائي في الوسط الخنيفري، بدأ حياته المهنية بالعمل مدرسا، ولاعب كرة قدم بنادي سطاد المغرب، قبل تقاعده بمصالح محلية تابعة لوزارة الداخلية، وكل ما أثار انتباهي عند ولوجي إلى بيته الجميل، امتلاكه لمكتبة غنية بالكتب، الأدبية منها والعلمية والدينية، فضلا عن كومة من الصحف والمجلات باختلاف منابرها، إنه الرجل المثقف، صاحب الشخصية القوية الصامدة في المحن، لا تهتز أعصابه لأتفه المحن، ويروق لي علو أفكاره، وحسن تفكيره، كما هو صاحب عقل راجح وفكر قوي صارم، إذا لم أقل موسوعة علمية قيمة هادفة يخاطب المتعلم فيقنعه والجاهل فيردعه عن الخطأ، كما يدعو دائما إلى الحب باعتباره أساس العلاقات الإنسانية.
وكان هدف زيارتي له أولا لأقف منه على ما تحويه حافظته النيرة من معلومات غائبة وذكريات حصرية حول ما كان يجمعه بصديقه الفنان محمد رويشة من روابط الألفة المتينة التي يعود تاريخها الوثيق إلى مطلع ستينيات القرن الماضي التي تبنى فيها موهبة محمد رويشة، وكنت واثقا من أنها ستكون أكبر معين لي على تحقيق غايتي، فحشدت في ذاكرتي كل الأسئلة، والقضايا الفنية التي طالما كنت أحلم بأن أطرحها عليه، و لكنني وقعت منذ اللحظة الأولى في أسر مهابة شخصيته وسحرها وجاذبيتها، فتبخر من ذهني معظم ما كنت أعددته للقاء.
لا أدري لماذا تمسكت بسؤال: كيف اكتشف سي محمد شرف العلوي موهبة “محمد رويشة”؟ وانتشرت ابتسامة عريضة على أسارير وجهه، وهو لازال يحتفظ بذلك الجلال المهيب والنطق الأمازيغي الذي يسبغ على الحديث من رنة عذبة، و يحظى بذاكرة حية تتكئ على معرفة واسعة، حيث عاد بذاكرة لم يهزمها الضعف إلى بداية الستينيات، فبادرني بالقول: “إنها لحظة تاريخية قوية عشتها في حياتي عندما رأيته لأول مرة، عام 1963 من خلال حفلة كنت مدعوا لحضورها، فإذا بطفل لم يتجاوز 13 ربيعا، يحيي الحفل، و تشع نظرات الذكاء من عينيه، ينسج سيمفونية بديعة.
وما إن تقع أصابعه على الأوتار، يضيف ذ. سي محمد شرف العلوي، حتى تتدفق خيوط الإلهام من قلبه، وتصل لأنامله الرشيقة التي تغزل سحرًا يعرف طريقه إلى وجدان الحاضرين، فأمتعنا في تلك الليلة وصفقنا له طويلا.” ثم توقف سي محمد شرف العلوي عن الكلام، وسَرِّح بخواطره بعيدا كأنه يتذكر شيئا كبيرا .. واستطرد بعد فترة الصمت قائلا: ” لقد توسمت في محمد رويشة، في تلك الليلة الذكاء وحبه الشديد للموسيقى ثم إن جمال عزفه وصوته هو الذي جعلني أتمسك به أكثر بأن أساعده لكي يصبح إنسانا مثقفا في المجال الذي أحسست أنه قد أهل نفسه له”.
وهذا الكلام الوارد ذكره على لسان ذ. سي محمد شرف العلوي، سمعته شخصيا من المرحوم محمد رويشة، كلما كنا نتجاذب أطراف الحديث عن بدايته الفنية، وعن الشخصية التي كان لها تأثير على شخصيته في بداية مشوراه الفني، وفِي ابتسامة مشرقة، وكأن الإجابة على السؤال قد حملته إلى ذكريات سعيدة، فقال محمد رويشة: “أمي هي أول من اكتشفت موهبتي في وقت مبكّر جدا، وبعدها الأستاذ سي محمد شرف العلوي الذي تصرف بصورة سليمة معي، فقد تعهدني برعاية فنية كاملة لن يتوفر مثلها إلا في أعلى معاهد الموسيقى، لقد تمكن بالفطرة السليمة من تربية موهبتي وشخصيتي”.
ويضيف رويشة قائلا: “في إحدى الليالي من صيف عام 1963 كنت على موعد مع القدر الذي سيغير حياتي كليا، وبعد نهاية الأمسية الفنية، سمعت صوتا ينادي اسمي – محمد رويشة- ففزعت أولا، فتلفت بسرعة مرتبكا من صوت النداء، وفِي نفس الوقت متلهفا لمعرفة الشخص الذي يناديني بإسمي، فرأيت على مقربتي السيد محمد شرف العلوي (لاعب نادي سطاد المغرب)، فاتجهت إليه لألامس في نبراته الإصرار على إقناعي بمرافقته إلى مدينة الرباط، رحبت بالفكرة فقلت له: الكلمة الأولى والأخيرة لأمي”.
وبالفعل عرض سي محمد شرف العلوي، طلب التبني على أمه لالة عائشة، فوافقت فورا على الطلب، واتسعت آفاق محمد رويشة، و تبلورت طموحاته وأحلامه وأمانيه، وبقدر ما كانت رحلته إلى مدينة الرباط مصدر متعة بقدر ما أصبحت مصدر عذاب شديد لأنه ترك وراءه أمه جالسة على حريق الأمومة، تكابد مشقة الغياب والنوى، وقد هجر خنيفرة حاملا في جرابه بعض ما كان يحلم به!… وهي العناية الربانية هي التي ساقت ذ. سي محمد شرف العلوي، لينتشل محمد رويشة، من أحضان الإهمال واليتم إلى الحياة التي اكتشفت موهبته الفذة.
ولم يفت سي محمد شرف العلوي القول: “لقد غرس اليتم في روح محمد رويشة الإحساس بالوحدة وغياب الحنان، وتسلل هذا الإحساس إلى نبرات صوته التي تشربت الأسى وتشبعت بالشجن، إلى أن أضحى منتميا إلى أهم وأصعب مدرسة، هي مدرسة الحرمان.. وصدق من قال: “الألم العظيم كثيرا ما يخلق المجد العظيم”.
تأبط محمد رويشة آلته متوجها إلى مدينة الرباط، و بدأت تنمو الصداقة المتينة بينه وبين سي محمد شرف العلوي، الذي احتضنه ومنحه كل الرعاية والحب، ولم يبخل عليه بالتوجيه والتشجع في كل خطوة يخطوها، ولكن كيف؟ ومتى؟ والأيام تمر وحيرة محمد رويشة، تزداد ولا يعرف متى يبدأ تجربته الجديدة، متى يترجم حلمه الذي يؤرقه إلى ألحان و أنغام، وهو شارد الذهن دائم الصمت والتفكير، ومرت الأيام والشهور في ضيافة أستاذه، بمدينة الرباط، لأكثر من 7 أشهر ونصف، إلى حين وجد نفسه وجها لوجه أمام الإذاعي الأمازيغي، ذ. الحسين برحو، الذي في زيارة لصديقه سي محمد شرف العلوي الذي قدم له الفنان الموهوب محمد رويشة، مع كثير من التوصيات الضرورية، ولقد انعقد لسان الصبي (محمد رويشة) من فرط المفاجأة والسعادة وقد أدهش الأستاذ برحو بعزفه الجميل.
ولا بد هنا من وقفة قصيرة مع الإعلامي الإذاعي، ذ. الحسين برحو، وهو بالمناسبة ابن منطقة “أروگو” ضواحي خنيفرة، التي ترعرع بين صخورها وعلمته الصلابة والعناد، قبل التحاقه بدار الإذاعة الوطنية في التاسع من أبريل 1959، بموجب عقد كمنتج ومذيع ومحرر، وفِي سنة 1962 تم اختياره صحفيا ضمن الفريق الصحفي الأول الذي كان يرافق موكب جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه في جولاته وأسفاره الرسمية، داخل المغرب وخارجه، كما كان من بين مرافقيه خلال سنة 1963 في زيارة رسمية لدولة تونس، حيث بث أول مراسلة له بالأمازيغية من خارج أرض الوطن، فيما تم تعيينه فِي سنة 1964 مندوبا جهويا لوزارة الأنباء ومديرا جهويا لإذاعة أگادير،
وفِي سنة 1966 ساهم ذ. الحسين برحو بقسط وافر، إلى جانب المرحوم السيد إدريس بلقاسم، في أول عملية تم فيها جمع كافة الفرق الغنائية الأمازيغية الأطلسية بثكنة (بوسيط) للقوات المساعدة بالرباط، لتسجيل مجموعة من القطع الغنائية للإذاعة الوطنية، وفِي سنة 1972 تم ترشيحه لدورة تكوينية، مدتها ثلاثة أشهر، بالمعهد العالي للصحافة ببغداد العراقية لفائدة مديري الإذاعات العربية، وقد كان له شرف تمثيل مدير الإذاعة المغربية بالرباط، رفقة المرحوم حسن الرامي، مدير الإذاعة الجهوية بطنجة سابقا، وفِي سنة 1974 عرض عليه السيد حسن الزموري، وزير السكنى والتعمير والسياحة والمحافظة على البيئة الطبيعية آنذاك، الانضمام إلى وزارته بغرض إنشاء المعهد الوطني للفنون الشعبية المغربية، و فِي سنة 1977 تم تعيينه مفتشا عاما للمكتب الوطني المغربي للسياحة.
كان لقائي بالسيد الحسين برحو مفاجئا، فرحب بفكرة تناول طفولة محمد رويشة، وكانت جعبتي مليئة بالأسئلة التي حرصت على أن توازي حجم المقابلة، طرحا وموضوعًا، لكون ضيفنا يحظى بذاكرة حية تتكئ على معرفة واسعة عن رواد الأغنية بالأطلس المتوسط، والحقيقة لا يوجد شيء أمتع من أن يتحدث الأستاذ الحسين برحو عن الذين ملؤوا حياتنا إبداعا وفنا وبهجة، والبداية من مساءلته عن أول أغنية جرى تسجيلها لمحمد رويشة بدار الإذاعة الوطنية؟، فاسترسل في كلامه بحجم اعجابي بمقدرته على امتلاك ناصية حديثه، لأنه يجيد الكلام عن محمد رويشة أكثر من غيره، مستعرضا يوم تعرف على محمد رويشة، وهو حينها في ضيافة ذ. سي محمد شرف العلوي، خلال ستينيات القرن الماضي، بديور جامع بالرباط.
ويومها، يقول ذ. برحو، كان محمد رويشة أنذاك طفلا لم يتجاوز 14 ربيعا، فخاطبه :“تسمعنا شي حاجة؟”، فأمسك رويشة، آلته الوترية، وهي أكثر منه طولا، وتنحنح متأكدا من صوته قبل أن يغني بسلاسة فرضت على الجميع الإنصات بصمت، وقد انحنى ليصبح قريبا من آلته، ثم رفع رأسه مناجيا أوتار آلته بمجموعة من الألحان والإيقاعات الأصيلة المتوارثة عن الرواد، التي أجرى لها مسحا شاملا منذ نعومة أظافره حين ظل يرشف ينابيع الفن الأمازيغي من نبعه الصافي، حيث وصف برحو كيف كانت مسامعه مشدودتين إلى ما يتدفق من سحر غنائي، وكيف كان يصغي ويميل طربا ونشوة في تردد ماتع، قائلا: “كان محمد رويشة، في بدايته يعزف خلسة في المغاور المظلمة وبالخصوص (غار الهداوي) وعلى ضفاف نهر أم الربيع، ويرجع الفضل للأستاذ سي محمد شرف العلوي الذي ساهم في بناء عمارته الفنية الشاهقة”.
بالفعل محمد رويشة بحث له عن مصدر خارج عن نطاق ذاته التي يعدها دائما ضعيفة أمام قوى الكون، فقد آمن بأن تلك الإحساسات التي يشعر بها ويترجمها في تناسق وتكامل لا يمكن بحال من الأحوال إلا أن يكون هو مصدرها الأساسي بل هناك مصدر إلهام يفوقه قدرة، وقد لاح لمحمد رويشة فجر جديد، بوعد ذ. الحسين برحو، وامتد به أفق من الآمال المديد حين زوده ذ. سي محمد شرف العلوي بقطعة “بيبيوسغوي” وهي مفعمة بنكهة خنيفرة، و كلفه بتلحينها، ليمتحن قدراته مع التعامل مع النص الغنائي، فلم يتردد محمد رويشة، وتعامل معها بمشرط الطبيب الجراح الماهر.
وجاء الْيوم الموعود للتسجيل بدار الإذاعة بالرباط، ولم يكن أحد يتصور أو يتوقع أن محمد رويشة سيقدم شيئا جديدا، ولكن ذ. شرف محمد العلوي كان أكثرهم سعادة و تفاؤلا، فهو يعلم أن طفله الفنان سيقدم مفاجأته الفنية المدهشة، ويقول ذ. سي برحو في هذا الصدد: “بدأ محمد رويشة بمعزوفة موسيقية مرتجلة فساد الصمت داخل استوديو (6)، وعلت الدهشة كل الوجوه، أمام طفل يغازل آلته بذكاء ووضعه لقطعة” بيبيوسغوي”في إطارها الصحيح التي يقول مطلعها:
أَبِيبِيوسْغُويْ أيمانو أَوَا نيخاش أنمون ؤرْثْريثْ أيمانو أعوذخاش أنمون ؤرثريـــث
أيمانو أذسيخ ؤلينو أذا سيـخ أدرع
ئيداد أوشيبان سوحوذر غْرْ الهــوى
أَبِيبِيوسْغُويْ أيمانو أَوَا نيخاش أنمون ؤرْثْريثْ أيمانو أعوذخاش أنمون ؤرثريـــث
أيمانو أذسيخ ؤلينو أذا سيــخ أدرع
أوي ثوالفث ثمارث نْسْ ئيمثمي نزيـن
أَبِيبِيوسْغُويْ أيمانو أَوَا نيخاش أنمون ؤرْثْريثْ أيمانو أعوذخاش أنمون ؤرثريـــث
أيمانو أذسيخ ؤلينو أذا سيــخ أدرع
بعد نهاية التسجيل عاد محمد رويشة، إلى منزل صديقه حاملا معه أحلامه وآماله، وهو ينتظر بفارغ الصبر إذاعة الأغنية عبر أمواج الإذاعة، وراح يتابع الوقت دقيقة بدقيقة إلى أن سمع صوت المذيع يعلن عن ولادة فنان جديد من مدينة خنيفرة، اسمه (محمد رويشة). وانتشرت قطعة “بيبيوسغوي”، بشكل واسع في كلّ مكان، منغرسة بعمق في بيئتها الأولى خنيفرة وعابقة برائحة تلك الأرض، ويقول سي الحسين برحو في شأن هذه القطعة: “إن ذ. سي محمد شرف، التقط كلماتها من فم مجنون بخنيفرة يدعى مولاي إدريس أحيوض وهو يصرخ ويردد كلمة “بيبيوسغوي”، لقد صدقت الحكمة التي تقول: “خذوا الحكمة من أفواه المجانين”.
رغم نجاح قطعة”بيبيوسغوي “لم يكن محمد رويشة، مطمئن البال ومرتاح الضمير، وهذا سر تألقه، فقد كان يعلم بأنه سيبدأ من حيث توقف المرحوم حمو باليازيد، بمسيرته الفنية ومجده السرمدي، وأخذ محمد رويشة يتوهج إبداعاً، وهي بداية رحلة الإبداع والتفوق لمحمد رويشة.
ومضت شجرة الإعجاب بمحمد رويشة، تنمو و تترعرع كلما مرت الأيام ونضجت التجربة، لأنه من السلالة الإبداعية التي لن تتكرر، وتفتحت عليه عيون المنتجين للأسطوانات آنذاك وبدؤوا يتسابقون لاصطياده، وفِي عام 1972 انطلق في سماء الغناء بأشهر أغانيه مع أسطوانته الأولى من فئة 45 لفة التي تضمنت أغاني (أهيواوي أوي ليتموم أوول أوناريخ اسومارگ ذيگي شعلاخ العافيث، أممينو أَوَا كرد أذورگان إشعلي وفا ذيـگي) لفائدة شركة صوت الغرب بالدار البيضاء رقم الأسطوانة 1928 MB
مطلع القطعة الأولى يقول :
أهيواوي أوي ليتموم أوول أوناريخ اسومارگ ذيگي شعلاخ العافيث
أيذي يجاران أربي گولمو ناورغــوري
أهيواوي أوي ليتموم أوول أوناريخ اسومارگ ذيگي شعلاخ العافيث
أريگ أرساويخ أيگونو غريش نعاري
أهيواوي أوي ليتموم أوول أوناريخ اسومارگ ذيگي شعلاخ العافيث
٠القطعة الثانية مطلعها يقول ايضا:
أممينو أَوَا كرد أذورگان إشعلي وفا ذيـگي
أبوسوال أري عاري اسرمد أعگـاذي
أممينو أَوَا كرد أذورگان إشعلي وفا ذيــگي
إنياس إممينو أَدَّا يديدو اوسمونينو لعارنش أَگَا
أممينو أَوَا كرد أذورگان إشعلي وفا ذيــگي
ذات مرة كنت أتجاذب مع محمد رويشة، أطراف الحديث، عن هذا التسجيل المبكر على الأسطوانة، وتجرأت عليه بسؤال عن إعادة غناء قطعة” أممينو أَوَا كرد أذورگان إشعلي وفا ذيـــگي”، التي هي في ملكية شيخات خنيفرة مع الفنان صالح أحمد الملقب ب “الويسكي”، وقد عقد كفيه ببعضهما بما يوحي بأنني أحرجته بسؤالي فقال: “لا يرى الفنان الأمازيغي أن النهل من التراث هو شكل من أشكال العجز عن الإبداع، بل هو مقتنع بإمكانات تحديث التراث وتقديمه بشكل جديد وبنفس حداثي يلائم الزمان، أعدت القطعة وألبستها حلة جديدة عزفا وأداءً”، ويمضي محمد رويشة ليتحدث عن الأصالة والتجديد قائلا :” يجب على الفنان أن يتشبث بتراثه الأصيل، وأن يكون بينه صلة، مثل الحبل الذي يربط الجنين بأمه، وينقل له منها الغذاء وأسباب الحياة، ومثلما يخرج الجنين من الأم يخرج الفن الجديد من الفن القديم، امتدادا شابا متطورا، لكنه مستقل عن أمه، له شخصيته وله كيانه، وفِي الوقت نفسه له دم الأم وله ملامحها.”
وقد رسم له التسجيل على الأسطوانة طريقه الفني، حيث لاقى نجاحا هائلا تلته عدة تسجيلات نجح من خلالها نجاحا يفوق الوصف، ليكتب بذلك بطاقة نجاحه كأحد نجوم الغناء الأمازيغي والشعبي، وقد عمل على تراثين وجذرين، هما التراث الأمازيغي الأصيل والتراث الشعبي، وبهذا تفتحت الأذان المغربية بشغف وبدهشة على هذا اللون الجديد طالعا من أعماق حساسيته، ومن أعماق تراثه وضميره، وهكذا كان محمد رويشة ضميرا فنيا و إنسانيا مغربيا.
سألت الأستاذ برحو الحسين، هل نعتبر أن ظاهرة محمد رويشة فريدة من نوعها ولا يمكن أن تتكرر؟ : قال: “لا أعتقد أن هناك ظواهر تتكرر، لكن هناك أسباب متشابهة قد تأتي بنتائج متشابهة، لأن محمد رويشة ظاهرة شديدة التعقيد، لأنه كان هناك وضع اجتماعي وثقافي وتاريخي لا يمكن تكراره بحذافيره حتى تتكرر النتائج ذاتها، محمد رويشة كان عاصيا على أن يكون منسوخا أو مقلدا، لأن الأعصاب التي كان يملكها لم تكن تستعار ولكنها تكتسب بالحساسية العالية والمعرفة، أقول كلمة حق بداخلي وصادرة من أعماقي ويعلم الله وحده أنها مخلصة ليست من أجل محمد رويشة”.
وزاد برحو قائلا” “إن محمد رويشة أخذ معه كل بريق لفن الغناء بعد رحيله، أخذ كل معاني الأداء السليم والإحساس”، وتابع موضحا “أن الأطلس المتوسط يزخر بثروة غنائية هائلة لكنها مهددة بمخاطر، ولقد توقف تطورها النوعي عند أجيال المؤسسين وبقي الجيل الحالي يجتر أغانيهم بطرق لا تقدم جديدا، بقدر ما تمارسه من تشويه للتراث، ننتظر أن يستعيد الأطلس المتوسط دوره في تطوير الأغنية”.
ونحن نعيش على مائدة العبقري محمد رويشة الذي أعطى في زمن قياسي ما يكفي للتزود بوقود إبداعية تحرك الأطلس المتوسط، لأنه منذ البداية، كان الرقي الفني شغله الشاغل ورائده وهاجسه الأكبر، رقي على كل المستويات، من الكلمة إلى اللحن، إلى الأداء، وعمق فكري وخيارات واضحة، وهذه ميزة نادرة الآن في الوسط الفني بالأطلس المتوسط، وفي الوقوف أمام محمد رويشة في غيابه الأخير، ففي حضوره نحن دائما أمام ظاهرة فريدة من حيث تجمعت لديه مؤهلات العزف والمقدرة التقنية والإحساس الوجداني والخيال التأليفي، أي المقدرة على التلوين النغمي، هذه الميزات قلما تجتمع عند عازف آخر، ورحيله جاء رحيلا للعصر الفني الذهبي في الأطلس المتوسط.
تعليقات
0